| د. يعقوب أحمد الشراح |
تجربة الثورات العربية الحالية لا تسر أحدا، فهي في مجملها حالات من الفوضى والخراب وإلغاء لدولة المؤسسات، وتعطيل لحركة التنمية وهدم للمكتسبات، وسفك للدماء، وتكريس للخوف والقلق في النفوس. والشواهد حتى هذه اللحظة كثيرة لدرجة أن الناس أصبحت لا تعرف مصيرها في المقبل من الأيام..
فهذا المشهد السياسي المذهبي والطائفي الذي يحرك الكتل يذكرنا بمحنة المذهبية التي عاشتها أوروبا منذ أكثر من (100) عام عندما ساد في مجتمعاتها المشاحنات والحروب بين الطوائف المسيحية، وخاصة بين البروستانت والكاثوليك بسبب الخلاف على العلاقة بين الدين والدولة. فلقد اشتد النزاع آنذاك بين أنصار المعسكرين، الديني والعلماني، بسبب رغبة المعارضة العلمانية في فصل الدين عن الدولة، وكانت لهذه المعارضة تأثير بالغ في تراجع الكنيسة عن نظامها وتشددها، وبالتالي الابتعاد عن مؤسسة الحكم...
لقد تعلم الأوروبيون الدروس من الماضي المذهبي الذي أدخلهم في صراعات ودمار عانى الناس منها سنوات طويلة بسبب اقحام الدين في السياسة، خصوصاً وأن المجتمعات لم تكن على عقيدة واحدة، فقد تباينت الأوضاع الثقافية والاجتماعية والعرقية بين الناس. فلو لم يكن هذا التحول الإيجابي في العلاقة بين الدين والدولة لأصبحت أوروبا أكثر تفككاً وتقاتلاً ودماراً إلى يومنا هذا...
هذا الواقع الداعم للبناء والعمران والاستقرار رسّخ أيضاً قيم الحريات والكرامة الإنسانية الذي لم يقتصر على أوروبا، وإنما طبقتها أيضاً أمم أخرى في شرق آسيا وأميركا الشمالية والجنوبية والتي انصهرت اليوم في نظام واحد بعد أن كانت أعراقا وثقافات وأيديولوجيات متباينة في اللغة والدين والتاريخ كان يستحيل لها العيش الآمن والاستقرار في ظل النزاعات الفكرية والمذهبية.
النظرة لواقعنا الإقليمي في الظروف الحالية، وبعد مرور سنوات عديدة على مآسي غيرنا بسبب الخلافات المذهبية التي أدت إلى توحدها والاتفاق على إحداث تغييرات إيجابية لصالح مستقبلها لم نستفد نحن من تجارب العالم في نبذ الطائفية والنزاعات السياسية، فأصبحنا نعيد أزمات الماضي رغم العلم بتداعيات ذلك على حياتنا ومستقبلنا. فعالمنا العربي الإسلامي يعيش اليوم التخلف والأوضاع المزرية نتيجة إدخال الدين في السياسة من أجل الحصول على مكاسب عن طريق استغلال الدين والإساءة إليه.. فقد أدت الخلافات الفكرية والعقائدية إلى نزاعات تطورت إلى حروب داخلية وتقاتل مازلنا نعيشه في مصر وتونس واليمن وليبيا والعراق.
إن الثورات العربية جاءت اليوم لتهدم كل ما في النفوس من طموحات وآمال، وأدخلت الناس في متاهات وانفاق مظلمة حيث الارهاب وطمس الحريات والتعسف والظلم. كثيرون اضطروا للهجرة خارج أوطانهم وهم من العلماء، وتشرد الملايين ليعيشوا على حدود أوطانهم أو دول مجاورة، ناهيك عن الدمار الذي لا يتوقف للبنية التحتية، وتخريب الممتلكات العامة. فهل هذا المشهد السياسي يعكس المقاصد النبيلة لمفهوم الحاجة إلى التغيير للأفضل والتي هي من خصائص الشعوب المتحضرة؟
[email protected]