عطف الخبر / وديعة الزمن

فاضل الزباد


| فاضل الزباد |
تتقادم علينا عقود السنين ونحن نتداول أيامها حينا بعد حين، مفرحات محزنات، راسيات متغيرات، وأمام هذا التقادم لانستطيع أن نتوارى عن **حاضرها ولا ننسلخ من ماضيها، تلك السنون تحمل وديعة استذكارية من الخبريات الساكنة في مغاليقها.
وفي خلال تلك الفترات الزمنية تتكون لدينا أشياء نخفيها وأشياء نعلنها، نتراودها بين الاسرار وبين الافشاء، والمراودة نعني بها ما حاك في قلوبنا مشفوعاً برغبة تُبدى بواسطة فعل ويكون الامتناع عنها أو المبادرة بها محكومة باشتداد تلك الرغبة والتي تطغى عليها العواطف المدفوعة بالأحاسيس.
هذا الاسرار أو الافشاء يحملان مخزوناً من القراءات لا تتساوى عندها الظروف ولا المواقف، ففي موقف معين مثلا تجتاح الفرد رغبة بالبوح بما لديه اذا ما وثق بالشخص الذي أمامه أو أن يكون هذا الشخص هو صاحب الميزة الخبرية وصاحب الشأن الذي يستحق ذلك البوح، فهناك شريحتان شخص موثوق به بعيد عن التعالق وشخص يحمل نفس الشأن والتعالقات نفسها، المسافة مع الأول بعيدة نسبية ومع الثاني قريبة بل المحاكاة لديها منسجمة ومتفقة ومتشابهة تُحتبك في نفوسها نفس المصير.
والسر ما هو الا ترديد لما يُحاك أو يُسبك يميل الى الحصر المؤتسر وذلك هو أمر السر اذ ليس بالضرورة أن يكون اثماً أو خبراً مسيئاً وانما قد يكون فعلا ترغب أن تضمره في نفسك لما له صفة الخصوصية الاطلاعية خصوصا في الأمور التي يُجزم أن اخفاءها أشد منفعة لعلاقتها بالثواب الكبير والذي يكون على درجة من القبول الالهي لا تضاهيها درجة العلن في ذلك المسلك.
أما الافشاء فأمره موكول الى صاحبه في اظهار ما لديه من مستورات فلا يهمه ان أسرّ القول أو جهر به، ماحياً عن وجهه صفة الاستخفاء، فنجده سارباً في دروب المفاخرة بما عنده من استباحات لسانيه لا تولي اهتماماً بالمكروهات من الأقوال ولا بالمحظورات من الأفعال لذا نقول بأن المكاشفة تتعلق بدرجة اهتمام الشخص بأسراره وأسرار غيره ويكون الامتناع وعدم الامتناع أمرهما ميسوراً لديه فلا يدخر قولاً ولا همسة نجوى لأن مشاعره أقرب الى العبث القولي منها الى التكتم وهنا تبرز لنا المسألة الأخلاقية وأهمية اعتباراتها فمن يعبث بافشاءات تتعلق به أو بغيره فانما تنقصه مروءة الشخصية وتنقصه مقاييس عهد التخالل الذي يعترف به كأرضية حاسمة العلامات بينه وبين من يؤلفون معه الخصوصيات، خاصة اذا كانت خصوصية صحبة أو الفة، لا نقول صلة قربى لأن القربى لا تمثل أواصرها في أحايين كثيرة الفة ومودة لذلك فان حالة الشرح المكتنز الذي تفرضه تلاؤمات القلوب لابد وأن تتلقاه سعة صدور فلا ينقضي أثره اذا ما مر عليه زمن بل نرى قيمته تزداد وتتوهج نوراً معنوياً فما يؤتمن في الماضي يؤتمن عليه حاضراً ومستقبلاً واذا كان هناك زلات أو خطايا فهناك أيضاً مساترة ومداراة أشبه ما تكون الى تبنّي قَسَم حقيقي مع النفس بعدم التفريط بسمعة أو تصرف لأن طول أمد الزمن كفيل بأن يمنحها حماية متكاتفة مع الضمير.
لذلك فان الأزمان ترتب فينا دائماً معطيات تكبر مع إدراكنا الذي يجعل منها احتفاظاً نتسارع اليه كلما شعرنا بضعف لأنهما قوة كامنة من ثقة الآخرين بنا تمنحنا حُلم الائتمان.
* شاعر وكاتب
[email protected]
Twitter: @hiwaralfikr
تتقادم علينا عقود السنين ونحن نتداول أيامها حينا بعد حين، مفرحات محزنات، راسيات متغيرات، وأمام هذا التقادم لانستطيع أن نتوارى عن **حاضرها ولا ننسلخ من ماضيها، تلك السنون تحمل وديعة استذكارية من الخبريات الساكنة في مغاليقها.
وفي خلال تلك الفترات الزمنية تتكون لدينا أشياء نخفيها وأشياء نعلنها، نتراودها بين الاسرار وبين الافشاء، والمراودة نعني بها ما حاك في قلوبنا مشفوعاً برغبة تُبدى بواسطة فعل ويكون الامتناع عنها أو المبادرة بها محكومة باشتداد تلك الرغبة والتي تطغى عليها العواطف المدفوعة بالأحاسيس.
هذا الاسرار أو الافشاء يحملان مخزوناً من القراءات لا تتساوى عندها الظروف ولا المواقف، ففي موقف معين مثلا تجتاح الفرد رغبة بالبوح بما لديه اذا ما وثق بالشخص الذي أمامه أو أن يكون هذا الشخص هو صاحب الميزة الخبرية وصاحب الشأن الذي يستحق ذلك البوح، فهناك شريحتان شخص موثوق به بعيد عن التعالق وشخص يحمل نفس الشأن والتعالقات نفسها، المسافة مع الأول بعيدة نسبية ومع الثاني قريبة بل المحاكاة لديها منسجمة ومتفقة ومتشابهة تُحتبك في نفوسها نفس المصير.
والسر ما هو الا ترديد لما يُحاك أو يُسبك يميل الى الحصر المؤتسر وذلك هو أمر السر اذ ليس بالضرورة أن يكون اثماً أو خبراً مسيئاً وانما قد يكون فعلا ترغب أن تضمره في نفسك لما له صفة الخصوصية الاطلاعية خصوصا في الأمور التي يُجزم أن اخفاءها أشد منفعة لعلاقتها بالثواب الكبير والذي يكون على درجة من القبول الالهي لا تضاهيها درجة العلن في ذلك المسلك.
أما الافشاء فأمره موكول الى صاحبه في اظهار ما لديه من مستورات فلا يهمه ان أسرّ القول أو جهر به، ماحياً عن وجهه صفة الاستخفاء، فنجده سارباً في دروب المفاخرة بما عنده من استباحات لسانيه لا تولي اهتماماً بالمكروهات من الأقوال ولا بالمحظورات من الأفعال لذا نقول بأن المكاشفة تتعلق بدرجة اهتمام الشخص بأسراره وأسرار غيره ويكون الامتناع وعدم الامتناع أمرهما ميسوراً لديه فلا يدخر قولاً ولا همسة نجوى لأن مشاعره أقرب الى العبث القولي منها الى التكتم وهنا تبرز لنا المسألة الأخلاقية وأهمية اعتباراتها فمن يعبث بافشاءات تتعلق به أو بغيره فانما تنقصه مروءة الشخصية وتنقصه مقاييس عهد التخالل الذي يعترف به كأرضية حاسمة العلامات بينه وبين من يؤلفون معه الخصوصيات، خاصة اذا كانت خصوصية صحبة أو الفة، لا نقول صلة قربى لأن القربى لا تمثل أواصرها في أحايين كثيرة الفة ومودة لذلك فان حالة الشرح المكتنز الذي تفرضه تلاؤمات القلوب لابد وأن تتلقاه سعة صدور فلا ينقضي أثره اذا ما مر عليه زمن بل نرى قيمته تزداد وتتوهج نوراً معنوياً فما يؤتمن في الماضي يؤتمن عليه حاضراً ومستقبلاً واذا كان هناك زلات أو خطايا فهناك أيضاً مساترة ومداراة أشبه ما تكون الى تبنّي قَسَم حقيقي مع النفس بعدم التفريط بسمعة أو تصرف لأن طول أمد الزمن كفيل بأن يمنحها حماية متكاتفة مع الضمير.
لذلك فان الأزمان ترتب فينا دائماً معطيات تكبر مع إدراكنا الذي يجعل منها احتفاظاً نتسارع اليه كلما شعرنا بضعف لأنهما قوة كامنة من ثقة الآخرين بنا تمنحنا حُلم الائتمان.
* شاعر وكاتب
[email protected]
Twitter: @hiwaralfikr