رثاء / سليمان الفليح... شاعر كوني عشق الكلمة والبسطاء

سليمان الفليح


| كتب مدحت علام |
يسلم عليك بحرارة شديدة... وكأنه يعرفك حق المعرفة، يتحاور معك ويمازحك ويدعوك للجلوس معه، وأنت في حالة اشتباك حقيقية مع **ذهنك، مكررا عليه الأسئلة: هل يعرفني؟... متى قابلته قبل هذا اليوم؟! ما السبب وراء حفاوته الشديدة بي؟، ولكنك لا تصل الا الى اجابة قاطعة: بكل تأكيد لا يعرفني... ولم أقابله قط في أي يوم من الأيام!
وحينما يستأذن منك بأدب للاحتفاء بأصدقاء- ربما لا يعرفهم- تميل الى صديقك وتقص عليه حكايتك، فتجد الابتسامة قد ارتسمت على شفتيه وهو يقول لك بكل ثقة: انها طباع شاعرنا سليمان الفليح... هذا الرجل الكوني الذي يرى في كل البشر أصدقاء واهلاً وأحباباً، ولم أعرف منذ سنوات قضيتها في صداقته أنه ناصب أحدا العداء أو حقد أو تحدث عن شخص ما بكراهية، وقتها كانت سعادتي شديدة لأنني أخيرا تعرفت على انسان يحب، ويصادق بلا مصلحة.
وفي المرات الكثيرة التي التقيت فيها بالشاعر السعودي الراحل سليمان الفليح، كانت تتحق في وجداني مسألة أنه انسان كوني، لا يضع حدودا لمشاعره، انه يوزعها من دون اسئلة مسبقة عن الهوية أو الانتماء أو حقيقة هذا الشخص الذي يخصه بمشاعره.
الفليح... الذي عرفته الكويت شاعرا وكاتبا صحافيا، وصاحب خيوط اجتماعية ليس لها حدود، ومجدداً في نسيج القصيدة العربية، وفارسا للكلمة... عرفته أيضا متفانيا في الاخلاصه لها، فلا تكاد تمر مناسبة ثقافية الا وتجده حاضرا، حتى وان لم تكن هناك مناسبة ستراه في رابطة الأدباء أو أماكن تجمع الأدباء والمثقفين، يتحدث مع الجميع بحميمية، ويصافح الجميع بتلقائية، من دون أن يعرف أسماء أو انتماءات من يصافح، ويفتح مواضيع- مع من يتحدث معه- مليئة بالانسانية... سواء كانت أدبية أم اجتماعية حتى وان كانت سياسية.
انه الشاعر سليمان الفليح... بقامته الطويلة وشاربه المميز... وملامحه القريبة من وجدان كل من يعرفه أو لا يعرفه... استطاع أن يكون شاعرا استثنائيا في زمن كثرت فيه عوامل المصلحة، والصراعات الباهتة على المناصب والجري وراء المكاسب من دون النظر الى الانسان الذي في داخل كل واحد فينا.
فمن حقنا أن نرثي الفليح لأننا لم نفقد شاعرا فحسب، ولكننا فقدنا انساناً يحمل في روحه المعنى الحقيقي للانسان، وهذا انعكس بشكل كبير على قصائده الشعرية، وبالتالي انحاز الفليح في ابداعاته الشعرية للبسطاء والمهمشين، وصولا الى الصعاليك، متواصلا معهم بكل ما يملك من أحاسيس ومشاعر، كما انه رأى أن الرجل البدوي بكل ما يحمل من صفات عربية أصيلة يستحق منه الاحتفاء أيضا، لذلك جاءت أجمل قصائده في هذا المحور:
أيها الولد البدوي
ائتنا بالربابة
وغن لنا (ياطويل البقا) ماينحي الكآبة:
راكب فوق حر يذعره ظله
مثل طير كفخ من كف قضابه
ماحلى فزته والخرج زاه له
والمبارك على متنه تثنى به
وتأن قليلاً بلحنك- ان السماء ملبدة باللواغيد- قبل انسيابه.
وكذاك الصحارى مملؤة بالعقارب
والليل يرخي حجابه
ونحن سنسهر حتى الصباح،
نعيد حديث الصعاليك، نأرق
أن نام كل خلي وأوصد بابه
نقتسم تمرتنا.
ونقاسم كل شقي بهذا الزمان عذابه
ونختط مااختط بالسيف اسلافنا بالكتابة
وحينما تقابل الفليح عند اقامته في الكويت مع خالد سعود الزيد- الذي لفت انتباهه جمال قصائده- قاله له: من متى انت تكتب الشعر؟ فرد الفليح وقاله منذ زمن ليس بطويل وانا اكتب الشعر واطلع على جميع شعر صعاليك العرب أمثال الشنفرى وعروة بن الورد والسليكة السلكة وغيرهم من شعراء الجاهلية. وقتها انبهر الزيد بشعر الفليح ووعده بتنظيم امسية له في رابطة الأدباء.
وكان الفليح معتزا بشعره فخورا به أشد الفخر غير أنه كان حزينا على ضياع تأثيره في المجتمع ليقول:
في الزمن الزاهر...
كان الشاعر
يلقي من فوق منصته
الشعر النادر
كان وحيداً والجمهور
تمتلئ الصالة فيه الى الآخر
واليوم الشاعر
يجلس في الصالة وحده
والجمهور هو الشاعر!
في ديوان «أحزان البدو الرحّل»
ورغم أن شاعرنا لم يحصل على قسط وافر من الدراسة، غيلر أن ثقافته كانت بلا حدود، فقد كان لديه القدرة على الحديث بعفوية في شتى مجالات الحياة السياسية الأدبية والنقدية وغيرها، ومع ذلك هو يقول عن نفسه: «ان حرماني من الدراسة بسبب الفقر واليتم والجوع دفعني للبحث عن العمل مبكرا، فتوجهت الى الكويت وعوضت ما فاتني من الدراسة بالنهل من مصادر الثقافة كالقراءة الجادة لكي أعوض ما فاتني». ويضيف: «وهذا التراكم الثقافي والمعرفي المشكل من كل الأطياف هو ما أفرز مني كاتبا وشاعرا».
كتب في الكثير من الصحف السعودية والخليجية والعربية، وفي السبعينات عمل جنديا في الجيش الكويتي وشارك في حرب الاستنزاف على الحدود المصرية - السورية في 1972، كما شارك في حرب الخليج عام 1990.
ويتحدث أحيانا الفليح عن نفسه عبر قصائده لنقرأ في ديوان «أحزان البدو الرحّل»:
أنا طائر أعزل...!
في حقول البكاء
شاجرتني صباحا بلادي
لا أني أغني لها في المساء
فهل يا أيها العارفون بكل الأمور
رأيتم بلاداً تشاجر أطيارها
في سبيل الغناء...!
وفي يناير الماضي ألقى الشاعر الباحث سليمان الفليح في رابطة الادباء ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الـ 19 محاضرة عنوانها «مقاربة بين شعر الصعاليك وحنشل البوادي المتأخرين» وادار المحاضرة الشاعر ابراهيم الخالدي.
تحدث فيها عن الصعاليك وقال: «الصعاليك ليسوا هم بمفهوم العامة سفلة المجتمع وسفائط السوقة والرعاة، بل هم فرسان تميزوا بالبسالة والاقدام والكرم والانسانية».
واضاف «يمكننا القول ان صعاليك العرب سلكوا اسلوبا واحدا في الحياة، آمنوا بأنه الاسلوب الوحيد الذي يستطيعون به ان يرفعوا عن كواهلهم ما وضعته فوقها ظروف مجتمعاتهم الجغرافية وتقاليدها الاجتماعية واوضاعها الاقتصادية من ضيم وهوان».
واشار المحاضر الى الصعاليك في العصر الجاهلي مثل عروة بن الورد والسليك بن سلكة والشنفرى، وتأبط شرا وغيرهم وفي العصر الاموي مالك بن السريب والقتال الكلابي والاحمر السعيدي، وغيرهم وفي العصر العباسي بكر بن نطاح، وحسكة بن عتاب، والشمرول البحلي وغيرهم، وفي الدولة الفاطمية علي الزيبق وابن سودون في مصر والسقاط والزبال في دمشق، ثم ظهرت فئة الشكارو العيارين والجدعان والحرافيش في مصر.
وجاء رحيل سليمان الفليح، الأربعاء الماضي في العاصمة الأردنية عمان، حيث أصيب بوعكة طارئة أثناء وجوده فيها، لكن حالته ساءت حتى توفي هناك. ودفن في المقبرة الهاشمية بالأردن.
انه طائر الشعر والسلام عاش بيننا محلقا في سماوات القصيدة، ورحل في صمت على ايقاعات قصائد انتصرت للكلمة الطيبة.
يسلم عليك بحرارة شديدة... وكأنه يعرفك حق المعرفة، يتحاور معك ويمازحك ويدعوك للجلوس معه، وأنت في حالة اشتباك حقيقية مع **ذهنك، مكررا عليه الأسئلة: هل يعرفني؟... متى قابلته قبل هذا اليوم؟! ما السبب وراء حفاوته الشديدة بي؟، ولكنك لا تصل الا الى اجابة قاطعة: بكل تأكيد لا يعرفني... ولم أقابله قط في أي يوم من الأيام!
وحينما يستأذن منك بأدب للاحتفاء بأصدقاء- ربما لا يعرفهم- تميل الى صديقك وتقص عليه حكايتك، فتجد الابتسامة قد ارتسمت على شفتيه وهو يقول لك بكل ثقة: انها طباع شاعرنا سليمان الفليح... هذا الرجل الكوني الذي يرى في كل البشر أصدقاء واهلاً وأحباباً، ولم أعرف منذ سنوات قضيتها في صداقته أنه ناصب أحدا العداء أو حقد أو تحدث عن شخص ما بكراهية، وقتها كانت سعادتي شديدة لأنني أخيرا تعرفت على انسان يحب، ويصادق بلا مصلحة.
وفي المرات الكثيرة التي التقيت فيها بالشاعر السعودي الراحل سليمان الفليح، كانت تتحق في وجداني مسألة أنه انسان كوني، لا يضع حدودا لمشاعره، انه يوزعها من دون اسئلة مسبقة عن الهوية أو الانتماء أو حقيقة هذا الشخص الذي يخصه بمشاعره.
الفليح... الذي عرفته الكويت شاعرا وكاتبا صحافيا، وصاحب خيوط اجتماعية ليس لها حدود، ومجدداً في نسيج القصيدة العربية، وفارسا للكلمة... عرفته أيضا متفانيا في الاخلاصه لها، فلا تكاد تمر مناسبة ثقافية الا وتجده حاضرا، حتى وان لم تكن هناك مناسبة ستراه في رابطة الأدباء أو أماكن تجمع الأدباء والمثقفين، يتحدث مع الجميع بحميمية، ويصافح الجميع بتلقائية، من دون أن يعرف أسماء أو انتماءات من يصافح، ويفتح مواضيع- مع من يتحدث معه- مليئة بالانسانية... سواء كانت أدبية أم اجتماعية حتى وان كانت سياسية.
انه الشاعر سليمان الفليح... بقامته الطويلة وشاربه المميز... وملامحه القريبة من وجدان كل من يعرفه أو لا يعرفه... استطاع أن يكون شاعرا استثنائيا في زمن كثرت فيه عوامل المصلحة، والصراعات الباهتة على المناصب والجري وراء المكاسب من دون النظر الى الانسان الذي في داخل كل واحد فينا.
فمن حقنا أن نرثي الفليح لأننا لم نفقد شاعرا فحسب، ولكننا فقدنا انساناً يحمل في روحه المعنى الحقيقي للانسان، وهذا انعكس بشكل كبير على قصائده الشعرية، وبالتالي انحاز الفليح في ابداعاته الشعرية للبسطاء والمهمشين، وصولا الى الصعاليك، متواصلا معهم بكل ما يملك من أحاسيس ومشاعر، كما انه رأى أن الرجل البدوي بكل ما يحمل من صفات عربية أصيلة يستحق منه الاحتفاء أيضا، لذلك جاءت أجمل قصائده في هذا المحور:
أيها الولد البدوي
ائتنا بالربابة
وغن لنا (ياطويل البقا) ماينحي الكآبة:
راكب فوق حر يذعره ظله
مثل طير كفخ من كف قضابه
ماحلى فزته والخرج زاه له
والمبارك على متنه تثنى به
وتأن قليلاً بلحنك- ان السماء ملبدة باللواغيد- قبل انسيابه.
وكذاك الصحارى مملؤة بالعقارب
والليل يرخي حجابه
ونحن سنسهر حتى الصباح،
نعيد حديث الصعاليك، نأرق
أن نام كل خلي وأوصد بابه
نقتسم تمرتنا.
ونقاسم كل شقي بهذا الزمان عذابه
ونختط مااختط بالسيف اسلافنا بالكتابة
وحينما تقابل الفليح عند اقامته في الكويت مع خالد سعود الزيد- الذي لفت انتباهه جمال قصائده- قاله له: من متى انت تكتب الشعر؟ فرد الفليح وقاله منذ زمن ليس بطويل وانا اكتب الشعر واطلع على جميع شعر صعاليك العرب أمثال الشنفرى وعروة بن الورد والسليكة السلكة وغيرهم من شعراء الجاهلية. وقتها انبهر الزيد بشعر الفليح ووعده بتنظيم امسية له في رابطة الأدباء.
وكان الفليح معتزا بشعره فخورا به أشد الفخر غير أنه كان حزينا على ضياع تأثيره في المجتمع ليقول:
في الزمن الزاهر...
كان الشاعر
يلقي من فوق منصته
الشعر النادر
كان وحيداً والجمهور
تمتلئ الصالة فيه الى الآخر
واليوم الشاعر
يجلس في الصالة وحده
والجمهور هو الشاعر!
في ديوان «أحزان البدو الرحّل»
ورغم أن شاعرنا لم يحصل على قسط وافر من الدراسة، غيلر أن ثقافته كانت بلا حدود، فقد كان لديه القدرة على الحديث بعفوية في شتى مجالات الحياة السياسية الأدبية والنقدية وغيرها، ومع ذلك هو يقول عن نفسه: «ان حرماني من الدراسة بسبب الفقر واليتم والجوع دفعني للبحث عن العمل مبكرا، فتوجهت الى الكويت وعوضت ما فاتني من الدراسة بالنهل من مصادر الثقافة كالقراءة الجادة لكي أعوض ما فاتني». ويضيف: «وهذا التراكم الثقافي والمعرفي المشكل من كل الأطياف هو ما أفرز مني كاتبا وشاعرا».
كتب في الكثير من الصحف السعودية والخليجية والعربية، وفي السبعينات عمل جنديا في الجيش الكويتي وشارك في حرب الاستنزاف على الحدود المصرية - السورية في 1972، كما شارك في حرب الخليج عام 1990.
ويتحدث أحيانا الفليح عن نفسه عبر قصائده لنقرأ في ديوان «أحزان البدو الرحّل»:
أنا طائر أعزل...!
في حقول البكاء
شاجرتني صباحا بلادي
لا أني أغني لها في المساء
فهل يا أيها العارفون بكل الأمور
رأيتم بلاداً تشاجر أطيارها
في سبيل الغناء...!
وفي يناير الماضي ألقى الشاعر الباحث سليمان الفليح في رابطة الادباء ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الـ 19 محاضرة عنوانها «مقاربة بين شعر الصعاليك وحنشل البوادي المتأخرين» وادار المحاضرة الشاعر ابراهيم الخالدي.
تحدث فيها عن الصعاليك وقال: «الصعاليك ليسوا هم بمفهوم العامة سفلة المجتمع وسفائط السوقة والرعاة، بل هم فرسان تميزوا بالبسالة والاقدام والكرم والانسانية».
واضاف «يمكننا القول ان صعاليك العرب سلكوا اسلوبا واحدا في الحياة، آمنوا بأنه الاسلوب الوحيد الذي يستطيعون به ان يرفعوا عن كواهلهم ما وضعته فوقها ظروف مجتمعاتهم الجغرافية وتقاليدها الاجتماعية واوضاعها الاقتصادية من ضيم وهوان».
واشار المحاضر الى الصعاليك في العصر الجاهلي مثل عروة بن الورد والسليك بن سلكة والشنفرى، وتأبط شرا وغيرهم وفي العصر الاموي مالك بن السريب والقتال الكلابي والاحمر السعيدي، وغيرهم وفي العصر العباسي بكر بن نطاح، وحسكة بن عتاب، والشمرول البحلي وغيرهم، وفي الدولة الفاطمية علي الزيبق وابن سودون في مصر والسقاط والزبال في دمشق، ثم ظهرت فئة الشكارو العيارين والجدعان والحرافيش في مصر.
وجاء رحيل سليمان الفليح، الأربعاء الماضي في العاصمة الأردنية عمان، حيث أصيب بوعكة طارئة أثناء وجوده فيها، لكن حالته ساءت حتى توفي هناك. ودفن في المقبرة الهاشمية بالأردن.
انه طائر الشعر والسلام عاش بيننا محلقا في سماوات القصيدة، ورحل في صمت على ايقاعات قصائد انتصرت للكلمة الطيبة.