نحو ألق ثقافي / وَجْدُ المرأة الصماء

u062f. u0639u0644u064a u0627u0644u0639u0646u0632u064a
د. علي العنزي
تصغير
تكبير
| د. علي العنزي |

تدور أحداث المشهد السادس من الاحتمالات، وعنوانه وَجْدُ المرأة الصماء في أجواء بوهيمية، يخيم عليها الحوار المبتور؛ إذ ثمة رجل غريب الأطوار، غامض وديكتاتوري ومفزع الهيئة، يصل إلى بهو نُزُلٍ صغير تديره أرملة تثير الشفقة. وكان الرجل قد قدم من مكان قصي وحقبة زمنية غير معلومة، وهناك سر ما يحوط بهذا السائل عن سكن يؤويه، فرغم أنه أجنبي مهاجر وصل النُزُل بحثاً عن غرفة مفروشة تؤويه، إلا أنه يحادث مالكة البنسيون بلهجة غير مريحة؛ ملؤها الزهو والغرور؟!

وغني عن البيان، أن وظيفة «الجلاد» اندثرت أوروبياً منذ أكثر من قرن؛ وكثيرا ما قوطع في أوروبا الغربية ومستعمراتها الجلادون رغم رغدهم المالي، على يد أبناء مجتمعاتهم، بسبب فظاظتهم، واستمر هذا الوضع حتى إلغاء عقوبة الإعدام في العصر الحديث، أو الاكتفاء بتنفيذها داخل السجون، وهو ما لم يكن ممكناً عندما كانت أحكام الإعدام تنفذ أما الجمهور. ومن هاته، فإن وحدة الزمان المسرحي، تعود إلى ما لا يقل عن قرن من الزمان.

وعندما تنجلي ملامح الحقيقية، يتبدى أن هذا الرجل، قد جاء من بولندا بحثاً عن فرصة عمل، وقد أسند له حاكم المدينة وطاغيتها، وظيفة الجلاد على جناح السرعة؛ لوجود حاجة ملحة إلى خدماته وبضاعته التي لا يمكن أن تكسد أو تبور في أي صقع من أصقاع الأرض. إن حقيبة الجلاد بحسبه - محملة بخطابات التزكية وشهادات التقدير من رؤسائه السابقين، الذين تشعروا الأسف لدى رحيله، وما لغته المتضخمة، إلا علامة واضحة، على أنه رهن الإشارة ليدمي بسياطه كل صوت معارض من أصوات السكان.

يفك الجلاد النقاب عن اتجاهات متناقضة في شخصية الحاكم الجديد، فبعد أن كان انتزاع الاعترافات والمعلومات بالتعذيب مقبولاً ومشروعاً لسنوات طويلة في زمان أسلافه السابقين، يقرر الحاكم الجديد تحريم إكراه المتهمين على الاعتراف، مسرحاً فريق التعذيب بالكامل، وبعد مرور ستة أشهر فقط على جلوسه، تطل ضرورة التعذيب برأسها من جديد؛ «فالإعدام لا يمكن أن يتوقف إلى ما لا نهاية» حسبما يفيد الجلاد.

يتدرج الاكفهرار على محيا الجلاد، ثم يتوعد ضمنياً مالكة النُزل، على النحو التالي: «لقد مرّ عليَّ أناس كثيرون ممن يؤثرون الصمت ولكنهم في نهاية الأمر يهمون بالكلام». إن هذا الجلاد، الذي يؤكد ان «... مسألة إيقاع الألم قضية ثانوية بالنسبة، أمام مهمة نزع الاعتراف من الآخرين»، ليس إلا نموذجاً مكروراً لأسلافه من الشخصية الضدية، التي تملك تاريخاً حافلاً في جر الكثيرين ظلماً إلى أقبية مؤلمة في باطن الأرض، لا بحثاً عن الحقيقة، وإنما لانتزاع الاعتراف.

يضع باركر على لسان الجلاد حواراً مقززاً للنفس، يؤكد من خلاله أن اعتراف الضحية، وإن كان معتلاً وباطلاً، فإنه يدخل السرور إلى الروح، حيث أن بطلان الاعترافات المقتلعة من ضحاياه لا يزعجه كثيراً، فالمجني عليه يتحمل بتلكئه، مقداراً كبيراً من المسؤولية!!

للوهلة الأولى، يبدو أن الكلمات قد ضاعت ارتباكاً من فم هذه المرأة، بيد أن سر صمتها يتفكك مع مرور الوقت؛ أنها صماء وبكماء بسبب تعذيبها على يد جلاد سابق كان يخدم الملك، وما هي الآن بعد كل هذه التجارب المريرة والسنين، إلا خيمة تظلل أسرتها، تحاول تدبر شؤون حياتها من إيراد فندقها الصغير؛ إنها تضفي على المشهد إيقاعاً بطيئاً، وإيقاعها هذا يخلق الإحساس بعدم القدرة على الفعل، كما وتبدو شخصيتها نموذجاً للشخصية السلبية في المسرح، التي تنضب أفكارها ولا تفكر بأي حل لإشكاليات حياتها إلا عبر مساعدة الآخرين.

وكان نجل المرأة، قد انسل خلسة إلى المشهد، وفيما تخرج أمه بخطوات ثقيلة، ينعت الجلاد الرديء مضيفته بأقذع الكلمات، وبكل استهانة بأبسط المبادئ والأخلاق، يلتقط حقيبته عن الأرض، ويشرع بصعود السلالم صعوداً إلى الطابق العلوي؛ إنه ذاهب لمعاينة غرفته الجديدة، معتبراً موافقة صاحبة النُزل على إقامته في بنسيونها تحصيل حاصل. يهبط الجلاد بعد هنيهة من الدرج نشطاً بعد أن عاين الغرفة، وصار سكنه أمراً واقعاً بلا فكاك، ويدير الابن الشاب دفة حوارٍ حيويٍ مفعمٍ بالتودد معه، مدعياً أن قواسم مشتركة عديدة تجمعهما، ولا ينتهي حوارهما، إلا حينما يستفسر الجلاد من الشاب عن أقرب حانة يخامر بها عقله قبل المنام.

يخرج الجلاد قاصدا الحانة، فيما يتنفس الشاب الصعداء، ومن تحت قميصه، يستل الشاب خنجراً يعتزم غرسه في قلب الجلاد، انتقاما لأمه التي ذاقت الأمرين على يد الجلادَيّن. يعود الجلاد بعد أن تناول الأنخاب، مدشناً دخوله بهو البنسيون، بسؤال الابن إن كانت أمه «الشمطاء» قد نامت؟

لكن المشهد الباركري لابد آخذ منحنىً خطيرا... وهذا ما سيتبين مع نهاية المشهد السادس لنص الاحتمالات للمؤلف الانجليزي هوارد باركر، ترجمة وتقديم د. علي العنزي، والذي صدر حديثا عن مسعى للنشر والتوزيع، وسيكون قريباً في الأسواق الكويتية.





* أستاذ النقد والأدب

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي