لا يزال العرب أو قسم منهم يدور في فلك التصدي، بعدما ابتدع ذلك القسم أخيراً همروجة جديدة اسمها الممانعة. وللتذكير فقط، فجبهة الصمود والتحدي أبصرت النور رداً على مبادرة الرئيس المصري أنور السادات عام 1978، ومن أعضائها: بغداد، دمشق، وطرابلس الغرب. والحق، فإن لغة التصدي، استعملت بادئ ذي بدء، غداة تأسيس الكيان الصهيوني في مايو عام 1948، ومنذ ذلك التاريخ والعرب يتصدون ويتصدون، لكن، الصمود كان، ولا يزال، وسيظل، هو لإسرائيل العدّوة! ومع الأسف الشديد، أيضاً وأيضاً، فإسرائيل بارعة، ليس فقط في الصمود، بل أيضاً في قضم الحق العربي، أو بالأحرى،الحق الفلسطيني في الأصل، إما عن طريق القوة، وإما عبر تأثيرها في القرار الدولي، عبر اللوبي الصهيوني في أميركا وأوروبا. والقوة التي لجأت إليها إسرائيل العدوة، بدأت بالمجازر. وكيف ننسى مجزرة دير ياسين عام 1948 والذي راح ضحيتها 254 مدنياً على يد عصابتي أرغون وشيترن، علماً أن رئيس العصابتين الإرهابيتين مناحيم بيغن وإسحق شامير تولى كل منهما رغم سجله الأسود، منصب رئيس الوزراء في إسرائيل! ولم يتوقف الأمر، بالطبع، على مجزرة دير ياسين، فلقد تبعها مجازر ومجازر، كان آخرها، وآمل أن تكون الأخيرة، مجزرة غزّة التي راح ضحيتها، ما يقارب الـ 120 قتيلاً.
والتصدي الذي رفع رايته قسمٌ من العرب، لم يُثمر إلا مزيداً من الخسائر والترحم على المكتسبات التي كان بالإمكان تحقيقها، لو سلكنا مسلك الواقعية والمنطق بعيداً عن المزايدات الرخيصة. وللتذكير فقط، ومنعاً للإطالة، فلو تمّ تزخيم وتفعيل مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، يومها، لما وصَل بنا الحال الى ما نحن عليه. لم يكن في الضفة الغربية مستوطنة واحدة! في حين، أن المفاوضات اليوم تتمحور على 80 في المئة من أراضي الضفة، وليس من فلسطين! في الذكرى الستين لإنشاء الكيان الصهيوني، تجدر الإشارة إلى عاملين اثنين كان لهما الدور المؤثر في إنشاء إسرائيل واستمرارها:
1) الدعم الأميركي اللامحدود للكيان الصهيوني.
2) عجز (أو تخاذل؟) النظام العربي الرسمي، ليس فقط في رسم استراتيجية واضحة المعالم للتصدي الحقيقي والفاعل لإسرائيل، بل، والأسوأ من ذلك، عدم استطاعته استيعاب الخلافات العربية – العربية وحلّها.
وفي ما يتعلق بالعامل الأول، لا أدري سبباً رئيسياً حال دون إنشاء لوبي عربي فاعل في الأوساط السياسية الأميركية، لنصرة القضية العربية خاصة في ضوء:
(أ) انفتاح المجتمع الأميركي وحريته وشفافية مؤسساته السياسية والثقافية والصحافية، والتي تسمح بمبارزاتٍ، تؤثر حكماً على الرأي العام (يقيني أنّ وصول باراك أوباما الى ما وصل إليه في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو الأسود، ومسلم الأصل، خيرُ دليلٍ على ذلك، كي لا ننسى أيضاً هيلاري كلينتون وهي أول امرأة في التاريخ السياسي الأميركي تصل إلى ما وصلت إليه).
(ب) طغيان رأس المال على مجرى القرار الأميركي والذي يتمظهر بالتبرعات للحملات الانتخابية، وبأنواع وأشكال اللوبيات التي تعمل دون كلل للتأثير على مجرى الأمور، من اللوبي الصهيوني، إلى لوبي التبغ، مروراً بلوبي النفط ولوبي السلاح ولوبي المثليين وإلى ما هنالك من «لوبيات» لا حصر ولا عدّ لها.
... وفي هذا الصدد، يذكر الكاتب غور فيدال، على سبيل المثال لا الحصر، أن مليوني دولار، أحضرها صهيوني الى متن أحد القطارات التي كان يقلّها المرشح هاري ترومان أثناء حملته الانتخابية، كانت السبب الرئيسي للاعتراف السريع بإسرائيل! (سليم نصار، «بانتظار 60 أخرى من الصراع العربي الإسرائيلي» «الحياة» 10/05/2008). أوَلم يكن في الإمكان تخصيص جزءٍ بسيط من الثروة العربية، «لشراء» ترومان آخر؟ أوَلم يكن من الأجدى العمل بشكلٍ حثيث وجدي ورصين، في موازاة العمل المسلح، لايجاد مناخات سياسية في الولايات المتحدة لنصرة الحق العربي؟
الظاهر أن ذلك لم يكن متاحاً في ظل طغيان «الثورجية» على الواقعية، وفي ظل رفع شعاراتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع. وحده، الرئيس الراحل أنور السادات أيقن ذلك، ولو متأخراً. فبناءً على وثائق الخارجية البريطانية التي نشرتها «الشرق الأوسط – أبريل 2008» يورد السفير البريطاني آنذاك في القاهرة، في أحد تقاريره أن من أحد أهم أسباب زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى القدس، هو جعل أميركا تأخذ موقفاً أكثر انحيازاً وعدلاً الى العرب. وللتذكير فقط، فنظام التمييز العنصري لم يتفكك، إلا حين أيقن «النظام الدولي»، بعد انهيار الحرب الباردة، بعدم ضرورة استمراره.
أما في ما يتعلق بالعامل الثاني، فحدّث ولا حرج. فلائحة الإخفاقات العربية، لا بل الصراعات العربية – العربية طويلة واستعراضها وتبيان محطاتها، أمر، يبعث على الملل والضجر. ولا يختلف اثنان أن استفحال الخلافات العربية وغياب إجماع عربي (إن لم نقل فلسطيني) أراح إسرائيل وبدّد هواجسها.
ثمة أسئلة لا بد من طرحها: كيف تزول إسرائيل، ولقد أضحت، لردحٍ من الزمن، «ضرورة» لبعض الأنظمة العربية من أجل الحفاظ على كينونتها واستمرارها؟ كيف تزول إسرائيل، طالما أن الحاكم في النظام العربي الرسمي لا يترك القصر إلا... الى القبر! وهو الذي باسم الممانعة، يقمع شعبه ويقضي على تطلعاته وآماله، لا بل، باسم الممانعة يخاف من مظاهرة أو بيان؟ ومهما قيل عن دور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فالثابت أن لصندوق الاقتراع في إسرائيل حرمته وشرفه، بينما الانتخابات عندنا، اسمٌ على غير مسمى! ولماذا لا تبقى إسرائيل، طالما أن بلداً يُعتبر أن سيطرته على بلدٍ مجاور وتحكّمه بمساره واستقلاله... إحدى ضرورات الأمن القومي؟ نكتفي في هذا القدر من الأسئلة كي لا نطيل. لكن السؤال الأخير: ما الذي يمنع إسرائيل من الاستمرار، في وقتٍ تستعرض فئة ما عضلاتها العسكرية في بيروت ومناطق أخرى وتمارس «بطولاتها» على فئةٍ أخرى فتجتاح ما تجتاح، باسم الممانعة والتصدي للمشروع الأميركي؟
بناءً على ما تقدم، وفي الذكرى الستين لإنشاء إسرائيل التي قامت على الحقد، والعنصرية، واغتصاب الأرض والاستيطان يؤسفني القول، والحسرة تعصر قلبي، بأن «التصدي» سيظل ملازماً للعرب، أما الصمود، ويا حسرتي، فهو لإسرائيل!
«فهنيئاً»... لإسرائيل، بنا!
عبدالرحمن عبدالمولى الصلح
كاتب لبناني