مقال / تلفيق الأبجدية!

تصغير
تكبير
| إبراهيم صموئيل |

أول ما يخطر في البال حين نعلم بوجود مذكرات كتبها ديكتاتور أو طاغية أو حاكم بأمره، اقتحمت ظروفٌ ومعطيات سلطَته الفردية المطلقة وزجَّته في السجن، أننا سنكون أمام تداعيات ومراجعات وكشف حساب أمام الذات صريحة عزلاء من القوة والسلطة تتأمل في الماضي تأمّلَ الغني المبذّر المفرّط بأمواله وقد خسر كل شيء وآلت حاله إلى فقر مدقع!

يُفترض نظرياً، أن يحدث ذلك، ويًُفترض نظرياً، بذلك الغني الذي بعثر ماله وأملاكه ذات اليمين وذات الشمال وبلا طائل ولا حساب أن يتداخل في مذكراته أو يغلب عليها الندم الشديد. ندمٌ على ماضٍ كان فيه سيداً على ماله، ومطلق اليد في استثماره الاستثمار المنتج الأفضل غير أنه بدّده في اللهو والملذات ومجاراة الهوى!

الأمر نفسه يسري على الديكتاتور الحاكم بأمره وسلطته المطلقة حين تشاء الظروف أن يُزج به في السجن. بيد أن هذا لم يظهر إطلاقاً في الجزء الذي نشرته صحيفة «الحياة» على حلقتين (5 و6 مايو الجاري) مما كتبه صدام حسين خلال سجنه وقبل إعدامه.

صحيح أن ما نُشر كان جزءاً يسيراً من «مجلدات خمسة ضخمة» كما قالت الصحيفة كتبها صدام حسين، غير أن الجزء إذ لم يغنِ عن الكل، فهو يدل عليه ولو دلالة طفيفة. قرأتُ الحلقتين المنشورتين فلم أعثر على أي ندم أو ظلال ندم جراء سنوات حكم مطلق سجن فيه الآلاف وشرّد وهجّر مئات الآلاف وظلم وأرعب الملايين! لم أجد أي وقفة مع الذات أو مراجعة للنفس أو تأمّل في الماضي الجائر!

قلت في نفسي: ربما كان يرى نفسه حكيماً عادلاً منصفاً، يعمل وفق القوانين والأنظمة المنصوص عليها اختياراً من الشعب كله، وربما كان يرى إلى نفسه مكمّلاً لمسيرة الحضارة العريقة في العراق، رافعاً المستوى الاقتصادي للناس، محققاً للتقدم والازدهار، واصلاً بالعراق إلى مصاف الدول العظمى اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً...الخ.

حتى لو كان الأمر على هذا النحو، فإننا لا نجد أي قيمة أو معنى مما كتبه! لا نجد غير طلبه للحصول على زهرة يزرعها، وتمارين رياضية يشرح حركتها بالتفصيل مع أنها ألف باء الرياضة وكلام ينثره كيفما اتفق حرصت الصحيفة على نشره كما جاء بأخطائه النحوية، ثم مجموعة جمل متتالية يُفترض أنها شعر وهي لا ترتقي إلى مستوى طلاب المرحلة الإعدادية «المتوسطة»!

أهذا جزء من مذكرات رجل حكم العراق لما يزيد عن ربع قرن؟! أكان يفكر على هذا النحو؟! أتلك همومه ومشاغله؟! ثم أهذا هو الذي أفردت له صحيفة كبرى مساحة حلقتين من أعدادها؟! لا يصدّق حقاً!! وإذا كان ما نُشر مجرد غيض من فيض، أفيستحق أن تقوم صحيفة كبرى بإفراد مساحة حلقتين من أعدادها له وتحت عنوان ضخم مثير؟!

لاغرابة! إذ ليس سوى أن ننزع الأقنعة عن الديكتاتوريين والطغاة والحاكمين بأمرهم... ننزع عنهم سلطاتهم وننتزع منهم أدوات قهرهم ونواجههم كأشخاص عاديين عراة إلا من شخصياتهم، ثم لنا أن نرى، بعد ذلك، حجم الهشاشة والضحالة والسطحية التي هم عليها، ولنا أن نرى أي شبر من الماء يوهمون الناس بأنه بحر عبقريتهم، وأية حفنة من كلام يقدمها إعلامهم على أنها أفكارهم الخالدة، وأي بصر لا يتجاوز الأنف وبصيرة تقصّر دون الأنف يطبّل الموظفون لآفاقه وأمداه وأعماقه!

ولا غرابة أيضاً، فمن شأن الطغاة في غرفهم المغلقة أو على أسرّة مرضهم، أو زنزانات سجونهم... من شأنهم في أعمق أعماقهم أن يروا إلى أنفسهم على أنهم الزعماء الخالدون والرموز الأبدية.. .وما إلى ذلك من تلفيق الأبجدية!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي