الأماكن / أفق قاهري

تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

 يتجمد زماننا الخاص... في صور تستدعيها الذاكرة إما بقرار منا، أو بسبب مستثيرات لايزال إدراك أسبابها عصيّاً على الفهم، أقدم ما أراه من صور يمت إلى الأفق، كانت الأسرة تسكن الطابق الأخير، الخامس، في بيت قديم بالقاهرة القديمة، حيث لاتزال ملامح المدينة الشرقية التي تأسست وفقا لرؤية يتداخل فيها العمراني بالديني، بالبيئي، بالموروث القديم، المركز منها جامع وجامعة الأزهر أول ما وضع القائد جوهر الصقلي أساسه ليكون مركزا للدعوة الفاطمية الجديدة التي يعتقدها الغزاة الجدد الذين جاءوا إلى مصر من المغرب في القرن العاشر الميلادي، أول ما وضع حجر أساسه المسجد الجامع وقصر الخليفة الفاطمي الكبير، أي رمزي السلطتين الدينية والمدنية، الأزهر تحول في القرن الثالث عشر إلى مركز للعالم الإسلامي، أصبح جامعة لدراسة العلوم الشرعية وعلوم الطبيعة والمجتمع أيضا، تدرس فيه جميع المذاهب الإسلامية، أساس الدراسة فيه حرية الاختيار والاعتدال، استمر كذلك حتى تم إضعافه منذ الستينات بإجراءات حكومية، وبالتالي تمدد التطرف والتشدد.

حتى الآن لايزال الأزهر مركزا ثقافيا، حوله المكتبات القديمة التي تطبع منذ القرن التاسع عشر كتب النقد والأدب والعلوم، كذلك باعة الكتب القديمة الذين كانوا يفترشون الرصيف، ومن خلالهم عرفت القراءة.، من فوق سطح البيت البالغ ارتفاعه خمسة طوابق، كان ارتفاعا استثنائيا بمقاييس القاهرة القديمة في الأربعينات والخمسينات، منه كنت أرى مآذن الأزهر، ومسجد وضريح سيدنا الحسين، المركز الروحي للمصريين... حيث من المفترض وجود رأس الحسين في المرقد الذي أحضره الفاطميون من الشام قرب نهاية دولتهم في القرن الثالث عشر الميلادي، الحسين الشهيد الذي أنزله المصريون منزلة خاصة وتعلقوا به من دون أن يعتنقوا المذهب الشيعي.

كان الحسين رمزا للاستشهاد من أجل قضية عادلة، رمزا للفداء، تماما مثل السيد المسيح، ومن قبلهما أوزير إله الخير الذي لقي مصرعه في حرب مع إله الشر ست ودفن رأسه في أبيدوس بمصر العليا، وكان المكان أقدس بقاع مصر خلال العصر القديم.

كان الأفق القاهري مفتوحا لم يزدحم بعد بالأبراج المرتفعة، إلى الغرب كان يمكنني رؤية أهرامات الجيزة وأبو صير وسقارة، وفي الخريف كان الضوء أقل حدة، وتلك الشفافية التي لاتزال تشكل خلفية ذاكرتي، غمامات خفيفة تستقبل ألوان الشمس الغارية، تمثل فيها كل ألوان الطيف، حتى يغلب عليها اللون البنفسجي قبل اكتمال الليل الوافد، واختفاء الأهرامات التي تقع إلى الغرب... حيث بداية العالم الخفي، الآخر، الذي ترحل إليه أرواح الموتى، من الأفق القاهري كنت أرى حدود الأبدية، ربما بدأ شعوري القوي بالوقت، بالزمن، بالدهر، بالرحيل المستمر من هنا، من طلتي تلك على الأفق المفتوح، الذي لم يعرف التلوث بعد كما هو الآن.

إلى الشرق جبل المقطم، إلى الجنوب تمتد الرؤية حتى الفسطاط، متحف مفتوح للمآذن من مختلف العصور التي تعاقبت منذ الفتح العربي في منتصف القرن السابع الميلادي، تبدو، أيضا بعض أبراج الكنائس القبطية إلى الجنوب، خاصة في منطقة الفسطاط.

من المشاهد التي تنتمي إلى الأفق، حريق القاهرة في 22 يناير من العام 1952، الذي اندلع بتدبير مجهول حتى الآن ليدمر وسط المدينة وليصبح أخطر حدث في الطريق الذي أدى إلى إسقاط النظام الملكي في يوليو من العام نفسه بعد استيلاء الجيش على السلطة وطرد الملك، رأيت النيران البرتقالية تتصاعد ألسنتها لتلتهم الأفق، كان عمري سبع سنوات، وكنت أقف إلى جوار أبي الذي أذكر من عباراته جملتين: «النيران وصلت غمرة».

... وغمرة شمال القاهرة، وكان بها عمارة تعد الأعلى في الأفق، فوقها إعلان ملون لمشروب غازي شهير بدأ يظهر بقوة خلال تلك الفترة، العمارة الآن قزمة جدا، لا تبدو حتى لمن يقترب منها بعد أن أحاطت بها الأبراج، قال أبي أيضا:

«الطائرات ستطفئ الحريق الكبير».

إذ تذكرت الغارة الإسرائيلية على القاهرة خلال حرب 1948، والتي يُعد مساء القاهرة أقدم صورة في ذهني، قبلها لا أذكر شيئا على الإطلاق، ثمة شظايا، لا أثق من ورودها قبل أو بعد، لكن سماء القاهرة أوضح اللحظات المحفوظة في الذاكرة، من الأفق بدأت علاقتي بالتاريخ القديم والأحداث الكبرى المعاصرة، إلى السماء رفعت البصر طويلا لأتابع مرور الطائرات الحربية على ارتفاع منخفض جدا يوم الثالث والعشرين من يوليو عندما استولى الضباط الأحرار على السلطة.

في الدرب المغلق، الذي لم يكن يؤدي إلى درب آخر، كنت ألعب طفلا آمنا، غير أن قصر المسافرخانة الذي وصلنا من القاهرة العثمانية كان مؤججا لخيالي بغموضه، بما يروي من سكن العفاريت فيه، في الدرب تعرف البيوت بأسماء مُلاكها أو قاطنيها من الأحياء والأموات، وفي الدرب حياة أخرى غير ظاهرة، أسماء العفاريت، والعفريت مخلوق غامض يظر فجأة في هيئات غير مألوفة، كأن يكون نصفه حيوان والنصف الآخر إنسان، وأحيانا يكون العفريت روحا هائمة لمن مات مقتولا، وهذا يمكن أن يلحق الأذى، للمكان عالم وقسمات ظاهرة، وأخرى خفية، طبعا مع التقدم وانتشار الكهرباء في أصغر الأزقة، وسهر المقاهي حتى الفجر تتوارى العفاريت وتتراجع، يختفي العالم الخفي، هذان العالمان ربما كانا وراء تصوري المستمر أن لكل ظاهر آخر خفي، كل ما يبدو يخفي شيئا، حتى الإنسان، من هنا تقف عوالم بعض رواياتي على حدود الواقع المحسوس والعالم الخفي غير المنظور، كما يبدو ذلك واضحا في «كتاب التجليات» و«وقائع مادة الزعفراني» و«شطح المدينة» و«شون الأهرام» و«دفاتر التدوين».

لكل مكان ذاكرة، وأقوى عناصر حفظ الذاكرة العمارة، آخر ما يبقى من الإنسان البنيان، القاهرة القديمة منظومة من تداعي الذكريات القائمة، من الأزمنة التي تجمدت في الحجارة المرصوصة، المنقوشة، أينما ولَّى البصر لابد أن يقع على مقرنص، أو زخارف حاوية لرموز قديمة من عصور مندثرة «مثل الدائرة التي ترمز إلى الكون، الشكل الكامل عند المصريين القدماء والصوفية المحدثين، أو المثلث رمز الصعود والتلاشي عند النقطة النهائية في القمة، أو الخط رمز الاستمرارية المتتابعة لتجاور النقاط، الحروف المحفورة على الجدران لآيات قرآنية، نقشها فنانون مجهولون لا نعرف أسماءهم، جاءوا وعملوا وأبدعوا ورحلوا من دون أن يتركوا توقيعا أو اسما أو إشارة تدل عليهم إلا فيما ندر، ليس مثل الزخارف التي تزين المساجد ودور العبادة كلها أوعية لحفظ الرموز والإشارات المتوارثة».

ذاكرة المكان أثرت ذاكرتي البصرية، كذلك جميع حواسي، خاصة الشم، روائح البخور، والعطور المعتقة المميزة لدور العبادة، استمرارية حضور العطور التي كانت من الرموز الأساسية للإله الخفي، تدل عليه ولا تفسره، تشير إليه ولا تظهره، من أجلها رحل المصريون إلى المحيط الهندي، إلى القرن الأفريقي إلى بلاد العرب الجنوبية، ليعودوا باللبان والبخور إلى معابد طيبة وأبيدوس ومنف.

العطور من أقوى مستثيرات ذاكرتي المتصلة بالمساجد وأضرحة الأولياء الصالحين، ربما كانت كثافة الذاكرة في القاهرة القديمة وراء تلك الأسئلة التي رحت أطرحها على نفسي منذ الطفولة:

«من مرّ، من عبر من هنا؟».

«من أقام قبلنا في هذه الدار...؟».

«أين ذهب الأمس؟».

أسئلة تتصل بصميم القضية التي أصبحت محورا لتساؤلاتي، لاهتماماتي، قضية الزمن، وليس المكان إلا زمن تجمد، كنت في البداية أظن أن الزمان يولي، يختفي، يطوينا معه، وأن المكان ثابت لا ينطوي، غير أنني مع طول التأمل اكتشفت أن المكان أيضا ينطوي، يختفي حتى لو بقيت شواهده، عندما أتردد على القاهرة القديمة الآن تختلف رؤيتي تماما للمكان الذي عشت فيه طفولتي وشبابي، الزمان والمكان ينطويان، والكتابة فقط هي الجهد الإنساني الوحيد الذي يمكن أن يحتفظ بما كان منهما ومن الإنسان أيضا، الكتابة تحتوي كل ما يبدو وما اختفى عبر الأفق.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي