ديموقراطية.. فوق عقدتين
ليست ديموقراطية الكويت عابرة.. حسناً. لكن يجب الاعتراف بأنها طرية العود دائماً. وأنها بقدر ما تَطرَح أسئلة، تُطرَح أسئلة عنها. فمنذ وجدت، هي في اختبار دائم. تأتي عاصفة وتليها عاصفة. تنحني وتغيب من غير أن تنكسر. ماذا بعد؟ هي شبيهة بالبلد كله. فبقدر ما هي راسخة وواثقة من حقها في الوجود، بقدر ما تخاف صروف الدهر والمفاجآت.. والمفاجآت علمتنا نحن المواطنين الكثير. غيرنا تعلم؟ ربما. لكن نحن لا نريد أن يفاجئنا من يشكك في هذه الديموقراطية ويعمل واعياً أو غير واع على إفشال التجربة، فلا نستفيق إلاَّ وفقدنا مكتسبات حققناها بوعينا السياسي وانفتاحنا الحضاري خلال مسيرة الكويت الحديثة.
وللكلام مناسبة، ويثيره أصوات ترتفع بين الحين والآخر تشكك بمؤسساتنا وخصوصاً بمجلس الأمة من دون تمييز بين أداء النائب وأداء المؤسسة ككل، ومن غير حساب. إن مهمتنا ككويتيين يجب أن تتركز على تثبيت الثقة بمؤسساتنا الديموقراطية لتجديد الثقة بأنفسنا وبحقنا في وطن حر ذي خصائص ومميزات.
والدعوة إلى عدم التشكيك بالمؤسسات لا تضفي هالة من القدسية عليها، ولا تنزهها عن السقطات أو الشوائب التي تعتري مسيرة أي منها، بل تتضمن تأكيداً بأن الثوابت يجب أن تتعزز، والهوامش يمكن أن تختصر وتتهذب، وأن هناك جوهراً يستحق أن ندافع عنه مهما اختلفت انتماءاتنا ومهما تعددت مشاربنا. فمنذ المجلس التشريعي في عام 8391 حتى الاستقلال والمجلس التأسيسي الذي توج أعماله بالدستور في عام 2691 إلى انتخاب مجلس الأمة في 3691 والمجالس التالية «وبعضها بائس شكلاً وموضوعاً» حتى مجلسنا الحالي، تجربة غنية بإيجابياتها وسلبياتها، بحسناتها وسيئاتها، لكنها جديرة بالاحترام وجديرة بالرعاية والتطوير. وهي لم تكن لتستطيع الخروج من الأزمات التي مرت بها ـ وبعضها خطير ـ لولا إيمان المجتمع الكويتي الراسخ بالديموقراطية النابعة منه نظاماً لحياته، وبتوازن السلطات نهجاً يكفل استقرار الدولة وديمومة الديموقراطية.
ولا شك ان الانتخابات المقبلة استحقاق مهم يدعو إلى التمعن في تجربتنا الديموقراطية، إذ يحدد مسارها على مدى السنوات المقبلة، وهي ستختلف نوعاً عن انتخابات 2991 التي تمت وجرح الغزو لم يندمل بعد، فكانت إعلاناً للداخل والخارج عن قدرة مجتمعنا على استكمال عودة مؤسساته على رغم الحدث الخطير، وقدرته على تصحيح الخطأ واسترجاع ما سُـلب من حقه في الديموقراطية قبل ذلك الغزو.
وإذا كانت انتخابات 2991 ساهمت في تصفية آثار العدوان الخارجي على البلاد ومؤسساتها وتصفية بعض مرارات التجربة الديموقراطية في الداخل، فإن انتخابات العام الحالي هي انتخابات تثبيت الثقة بنظامنا ومؤسساتنا وإعادة الثقة بأنفسنا وتجربتنا الديموقراطية، ومنها يجب أن نخرج من عقدتين. عقدة الغزو وعقدة النقص. فالغزو ماض لن يتكرر ما دمنا مجمعين على الوحدة إزاء نتائجه ـ بإذن الله ـ وعلى معالجة آثاره بحزم وواقعية. والنقص وهم لأن تجربتنا ليست أقل عراقة من أي تجربة من المحيط إلى الخليج، بل أفضل من كثير منها. فيكفي أننا ننتخب حين يحين موعد الانتخاب، ونستطيع فضح التزوير لو حصل ولدينا لجنة لحقوق الإنسان، ولو أردنا المقارنة لطالت السبحة.
لكن يمكننا أن نقول باختصار، ان الكويت وجدت ما يناسبها. وجدت تجربة خاصة تحكمها ظروف موضوعية وآلية قابلة للتطوير، وهو التطوير الهادىء، لا مجال فيه لتطرف مريب، ولا ضرورة فيه لخنوع مذل، ولا حياد يطمئن المتربصين. وإذا كان الانحياز ممكناً، فإنه ليس حتماً للأشخاص بل للمؤسسات وللديموقراطية ضمانه استمرار هذه المؤسسات.
ماذا بعد؟ يبقى النقد ضرورة. لا تتحقق ديموقراطية من دونه ولا شفافية في غيابه. ويفترض أن تكون الانتخابات محكاً لتجديد الثقة بين ناخب واع ونائب مستحق، بل بين المواطن والمؤسسة التشريعية الأم، فيستقيم النقد، وتستقيم الممارسات، ونحول دون إضعاف مؤسساتنا واستنزاف ديموقراطيتنا في حملات مغرضة وفي كلام استهلاك، وهو كثير ومغر أيضاً، كونه السلعة الأرخص في سوق الكلام... فحذار.