أوباما... انتصار مفهوم الأمة الأميركية
![تصغير](/theme_alraimedia/images/icon/reduceIcon.png)
![تكبير](/theme_alraimedia/images/icon/enlargeIcon.png)
| بقلم صبحي غندور * |
لم تكن المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة مجرد تنافس بين مرشح «جمهوري» وآخر «ديموقراطي»، كما جرت العادة في سابقاتها من المعارك الانتخابية التي عاشتها الولايات المتحدة. ففوز باراك أوباما هو انتصار لنهج معتدل مقابل نهج التطرف الذي ساد خلال أعوام عهد بوش، واحتضنه «الحزب الجمهوري». هو انتصار لمفهوم الأمة الأميركية القائمة على نسيج متعدد من الأعراق، والأديان، وليس المفاهيم العنصرية التي تريد إبقاء أميركا على أصولها الأوروبية ضد المهاجرين غير الأوروبيين، وعلى أصولها العرقية البيضاء، ضد السود، والسمر، وأصولها المسيحية البروتستانية ضد الجماعات الأخرى حتى وإنْ كانت مسيحية.
انتصار باراك أوباما هو انتصار للدستور الأميركي العظيم الذي يساوي بين كل المواطنين، لكن العادات، والتقاليد، والمفاهيم الموروثة، كانت تقف حاجزاً أمام تطبيق دستور جرى وضعه منذ أكثر من مائتي عام، إذ لم تأخذ المرأة الأميركية مثلاً حقها بالتصويت إلا في العقد الثاني من القرن الماضي، ولم يصل لرئاسة أميركا أي شخص غير بروتستاني باستثناء رئيس واحد هو جون كنيدي المسيحي الكاثوليكي، ولم تنتخب أميركا بعد حربها الأهلية بين الشمال والجنوب أي رئيس من ولاية جنوبية سوى الرئيس جيمي كارتر الذي جاء من ولاية جورجيا. فكيف بأن يصل الآن إلى موقع الرئاسة شخص ذو بشرة سوداء ابن مهاجر أفريقي كيني مسلم؟
هو إذا بلا شك تحول كبير يحدث في المجتمع الأميركي. بل هو مزيج من التحولات الاجتماعية والسياسية التي أفرزت ظاهرة باراك أوباما.
وليس صحيحاً أن سلبيات عهد بوش وحدها هي التي أدت إلى انتصار أوباما. فظاهرة أوباما كانت صدمة أولاً داخل «الحزب الديموقراطي» نفسه في مواجهة المرشحة القوية هيلاري كلينتون، حيث لم يظن البعض أن بإمكان أوباما الفوز بترشيح «الحزب الديموقراطي» أصلاً فكيف بانتخابه رئيساً لأميركا! وقد نجح أوباما أولاً في الانتخابات التمهيدية على مدار أشهر في ولايات أميركية عدة، ثم حاز على غالبية النسبة المطلوبة لترشيحه باسم الحزب، واستمرت شعبيته في النمو والتزايد حتى انتصاره في معركة الرئاسة الأميركية.
كان حجم التأييد الشعبي الأميركي لظاهرة أوباما يكبر يوماً بعد يوم، حتى أصبح تياراً هادراً يجرف كل ما أمامه من عوائق، وحملات تشويه وتشكيك، وليصبح رمزاً للتغيير الفعلي المطلوب في المجتمع الأميركي، وفي الحياة السياسية الأميركية.
وقد شكلت شخصية أوباما رمزاً لمزيج يجمع الأميركيين ولا يفرقهم، يوحد ما بينهم ولا يزيد في انقسامهم الذي يعانون منه اجتماعياً، وسياسياً، وعرقياً. فأوباما الشاب المتوسط العمر هو حلقة وصل ما بين جيل الشباب، وكبار السن في أميركا، وهو أيضاً المنتمي إلى الطبقة الوسطى والمدافع عن مصالحها، وهو ابن المهاجر الإفريقي الذي يرمز الآن أيضاً إلى عشرات الملايين من المهاجرين الجدد إلى أميركا، وهو ابن أب مسلم إفريقي وأسود وأم مسيحية أميركية بيضاء اللون، وهو الذي جمع بين مستوى عالٍ جداً من الدراسة الأكاديمية في أشهر جامعات أميركا، وبين التطوع والتفاعل العملي مع أبناء الطبقات الفقيرة أو المحرومين من العلم والعمل.
انتصر أوباما لأنه يرمز أيضاً إلى المستقبل الذي يطمح إليه الجيل الأميركي الجديد. هذا الجيل الذي لم يجد في أعوام إدارة بوش إلا الحروب، والفساد، والانهيار الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، وكلها حالات تهدم الحاضر وتعيق بناء المستقبل.
لذلك كان انتصار أوباما انتصار المستقبل الأميركي المنشود على الحاضر المرفوض، انتصار الأمل بالتغيير نحو الأفضل، بعدما سادت الحياة السياسية الأميركية عقود من الركود، والوراثة السياسية، والتجاهل الكبير لمصالح الطبقات الوسطى والفقيرة.
وسيكون لانتصار أوباما أميركياً انعكاسات كبيرة على كيفية رؤية أميركا في العالم، وعلى سياستها الخارجية بعد ثمانية أعوام من سياسة انفرادية متطرفة راهنت على نظرية «الحروب الاستباقية» لتحقيق أجندة هي الآن موضع نقد حتى من داخل «الحزب الجمهوري» وأركان فيه.
لكن من المهم أن لا ينظر العرب إلى أوباما وكأنه «المخلص» القادم لإنقاذهم من مشاكلهم، ومن رواسب إدارة بوش والسياسة الأميركية في المنطقة. فباراك أوباما هو رئيس أميركي للأمة الأميركية وما لها من مصالح وأولويات في العالم، وما عندها الآن من أصدقاء وخصوم. لكن التغيير الإيجابي الذي سيحدث على الصعيد الدولي في ظل إدارة أوباما، سيظهر في وقف سياسة إدارة بوش التي خسرت الكثير من أصدقاء أميركا، وزادت من قوة خصومها، وأشعلت حروباً ما كان يجب أن تحدث، كالحرب على العراق، وامتنعت عن إقامة تسويات سلمية عادلة حيث كان يتوجب حدوثها كما في الصراع العربي-الإسرائيلي.
وستكون إدارة أوباما إيجابية ومنصفة بحق القضايا العربية بمقدار ما تكون المنطقة العربية إيجابية مع نفسها، وبالمدى الذي سيتوافق به العرب مع أنفسهم، وما سيتفقون عليه من رؤية مشتركة لأزماتهم المشتركة. فصحيح أن المصالح الأميركية هي التي تحدد سياسة أي رئيس أميركي، لكن هناك أيضاً اختلافات تحدث بين رئيس وآخر في كيفية تحقيق هذه المصالح، وفي الرؤية العامة لدى هذا الرئيس أو ذاك.
وربما يكون خير مثال على ذلك ما شهدته أميركا والعالم من تغيير حدث بعد اغتيال الرئيس جون كنيدي عام 1963 وتولي نائبه جونسون الرئاسة الأميركية. فرغم أن كنيدي، وجونسون كانا في إدارة واحدة ومن حزب واحد لكنْ كل منهما كان يملك رؤية مختلفة للسياسة الأميركية، ووراء كل منهما أيضاً كانت تقف شبكة من المصالح، والشركات، وقوى النفوذ داخل أميركا.
فالرئيس الأميركي جون كنيدي كان يتبادل الرسائل آنذاك مع جمال عبد الناصر بشأن القضية الفلسطينية، وكيفية إيجاد حل عادل لها، بينما تدهورت في ظل رئاسة جونسون العلاقات الأميركية - العربية. وكان كنيدي يعارض التورط العسكري الأميركي الكبير في فيتنام، بينما قام بذلك نائبه جونسون بعد أن أصبح رئيساً.
إن انتصار باراك أوباما هو انتصار لنهج الاعتدال ضد فكر التطرف وأساليبه، وضد توزيع العالم بين شرق، وغرب، وحضارات تتصارع! وفي فوز أوباما إمكانات كثيرة لإضعاف فكر التطرف والعنصرية في عموم العالم. فعسى أن يكون يوم الرابع من نوفمبر 2008 بداية انتصار نهج الاعتدال في كل مكان، وبداية لتصحيح مفاهيم وأوضاع سادت العالم في العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
alhewar@alhewar.com
لم تكن المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة مجرد تنافس بين مرشح «جمهوري» وآخر «ديموقراطي»، كما جرت العادة في سابقاتها من المعارك الانتخابية التي عاشتها الولايات المتحدة. ففوز باراك أوباما هو انتصار لنهج معتدل مقابل نهج التطرف الذي ساد خلال أعوام عهد بوش، واحتضنه «الحزب الجمهوري». هو انتصار لمفهوم الأمة الأميركية القائمة على نسيج متعدد من الأعراق، والأديان، وليس المفاهيم العنصرية التي تريد إبقاء أميركا على أصولها الأوروبية ضد المهاجرين غير الأوروبيين، وعلى أصولها العرقية البيضاء، ضد السود، والسمر، وأصولها المسيحية البروتستانية ضد الجماعات الأخرى حتى وإنْ كانت مسيحية.
انتصار باراك أوباما هو انتصار للدستور الأميركي العظيم الذي يساوي بين كل المواطنين، لكن العادات، والتقاليد، والمفاهيم الموروثة، كانت تقف حاجزاً أمام تطبيق دستور جرى وضعه منذ أكثر من مائتي عام، إذ لم تأخذ المرأة الأميركية مثلاً حقها بالتصويت إلا في العقد الثاني من القرن الماضي، ولم يصل لرئاسة أميركا أي شخص غير بروتستاني باستثناء رئيس واحد هو جون كنيدي المسيحي الكاثوليكي، ولم تنتخب أميركا بعد حربها الأهلية بين الشمال والجنوب أي رئيس من ولاية جنوبية سوى الرئيس جيمي كارتر الذي جاء من ولاية جورجيا. فكيف بأن يصل الآن إلى موقع الرئاسة شخص ذو بشرة سوداء ابن مهاجر أفريقي كيني مسلم؟
هو إذا بلا شك تحول كبير يحدث في المجتمع الأميركي. بل هو مزيج من التحولات الاجتماعية والسياسية التي أفرزت ظاهرة باراك أوباما.
وليس صحيحاً أن سلبيات عهد بوش وحدها هي التي أدت إلى انتصار أوباما. فظاهرة أوباما كانت صدمة أولاً داخل «الحزب الديموقراطي» نفسه في مواجهة المرشحة القوية هيلاري كلينتون، حيث لم يظن البعض أن بإمكان أوباما الفوز بترشيح «الحزب الديموقراطي» أصلاً فكيف بانتخابه رئيساً لأميركا! وقد نجح أوباما أولاً في الانتخابات التمهيدية على مدار أشهر في ولايات أميركية عدة، ثم حاز على غالبية النسبة المطلوبة لترشيحه باسم الحزب، واستمرت شعبيته في النمو والتزايد حتى انتصاره في معركة الرئاسة الأميركية.
كان حجم التأييد الشعبي الأميركي لظاهرة أوباما يكبر يوماً بعد يوم، حتى أصبح تياراً هادراً يجرف كل ما أمامه من عوائق، وحملات تشويه وتشكيك، وليصبح رمزاً للتغيير الفعلي المطلوب في المجتمع الأميركي، وفي الحياة السياسية الأميركية.
وقد شكلت شخصية أوباما رمزاً لمزيج يجمع الأميركيين ولا يفرقهم، يوحد ما بينهم ولا يزيد في انقسامهم الذي يعانون منه اجتماعياً، وسياسياً، وعرقياً. فأوباما الشاب المتوسط العمر هو حلقة وصل ما بين جيل الشباب، وكبار السن في أميركا، وهو أيضاً المنتمي إلى الطبقة الوسطى والمدافع عن مصالحها، وهو ابن المهاجر الإفريقي الذي يرمز الآن أيضاً إلى عشرات الملايين من المهاجرين الجدد إلى أميركا، وهو ابن أب مسلم إفريقي وأسود وأم مسيحية أميركية بيضاء اللون، وهو الذي جمع بين مستوى عالٍ جداً من الدراسة الأكاديمية في أشهر جامعات أميركا، وبين التطوع والتفاعل العملي مع أبناء الطبقات الفقيرة أو المحرومين من العلم والعمل.
انتصر أوباما لأنه يرمز أيضاً إلى المستقبل الذي يطمح إليه الجيل الأميركي الجديد. هذا الجيل الذي لم يجد في أعوام إدارة بوش إلا الحروب، والفساد، والانهيار الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، وكلها حالات تهدم الحاضر وتعيق بناء المستقبل.
لذلك كان انتصار أوباما انتصار المستقبل الأميركي المنشود على الحاضر المرفوض، انتصار الأمل بالتغيير نحو الأفضل، بعدما سادت الحياة السياسية الأميركية عقود من الركود، والوراثة السياسية، والتجاهل الكبير لمصالح الطبقات الوسطى والفقيرة.
وسيكون لانتصار أوباما أميركياً انعكاسات كبيرة على كيفية رؤية أميركا في العالم، وعلى سياستها الخارجية بعد ثمانية أعوام من سياسة انفرادية متطرفة راهنت على نظرية «الحروب الاستباقية» لتحقيق أجندة هي الآن موضع نقد حتى من داخل «الحزب الجمهوري» وأركان فيه.
لكن من المهم أن لا ينظر العرب إلى أوباما وكأنه «المخلص» القادم لإنقاذهم من مشاكلهم، ومن رواسب إدارة بوش والسياسة الأميركية في المنطقة. فباراك أوباما هو رئيس أميركي للأمة الأميركية وما لها من مصالح وأولويات في العالم، وما عندها الآن من أصدقاء وخصوم. لكن التغيير الإيجابي الذي سيحدث على الصعيد الدولي في ظل إدارة أوباما، سيظهر في وقف سياسة إدارة بوش التي خسرت الكثير من أصدقاء أميركا، وزادت من قوة خصومها، وأشعلت حروباً ما كان يجب أن تحدث، كالحرب على العراق، وامتنعت عن إقامة تسويات سلمية عادلة حيث كان يتوجب حدوثها كما في الصراع العربي-الإسرائيلي.
وستكون إدارة أوباما إيجابية ومنصفة بحق القضايا العربية بمقدار ما تكون المنطقة العربية إيجابية مع نفسها، وبالمدى الذي سيتوافق به العرب مع أنفسهم، وما سيتفقون عليه من رؤية مشتركة لأزماتهم المشتركة. فصحيح أن المصالح الأميركية هي التي تحدد سياسة أي رئيس أميركي، لكن هناك أيضاً اختلافات تحدث بين رئيس وآخر في كيفية تحقيق هذه المصالح، وفي الرؤية العامة لدى هذا الرئيس أو ذاك.
وربما يكون خير مثال على ذلك ما شهدته أميركا والعالم من تغيير حدث بعد اغتيال الرئيس جون كنيدي عام 1963 وتولي نائبه جونسون الرئاسة الأميركية. فرغم أن كنيدي، وجونسون كانا في إدارة واحدة ومن حزب واحد لكنْ كل منهما كان يملك رؤية مختلفة للسياسة الأميركية، ووراء كل منهما أيضاً كانت تقف شبكة من المصالح، والشركات، وقوى النفوذ داخل أميركا.
فالرئيس الأميركي جون كنيدي كان يتبادل الرسائل آنذاك مع جمال عبد الناصر بشأن القضية الفلسطينية، وكيفية إيجاد حل عادل لها، بينما تدهورت في ظل رئاسة جونسون العلاقات الأميركية - العربية. وكان كنيدي يعارض التورط العسكري الأميركي الكبير في فيتنام، بينما قام بذلك نائبه جونسون بعد أن أصبح رئيساً.
إن انتصار باراك أوباما هو انتصار لنهج الاعتدال ضد فكر التطرف وأساليبه، وضد توزيع العالم بين شرق، وغرب، وحضارات تتصارع! وفي فوز أوباما إمكانات كثيرة لإضعاف فكر التطرف والعنصرية في عموم العالم. فعسى أن يكون يوم الرابع من نوفمبر 2008 بداية انتصار نهج الاعتدال في كل مكان، وبداية لتصحيح مفاهيم وأوضاع سادت العالم في العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
alhewar@alhewar.com