الدليل الفقهي / عَرْضُ المرأةِ نفسَها للزواج






زاوية فقهية يقدمها الداعية الإسلامي الدكتور عبدالرؤوف الكمالي أستاذ الفقه بكلية التربية الأساسية
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: «جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! جئت أهبُ لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعَّد النظر فيها وصوَّبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا, جلسَتْ، فقام رجل من أصحابه, فقال: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجةٌ فزوِّجْنيها. قال: فهل عندك من شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله! فقال: اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئًا؟ فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر ولو خاتَمًا من حديد, فذهب، ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله! ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري - قال سهل: ما له رداء - فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك؟! إن لبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء. فجلس الرجل، حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولِّيًا, فأَمر به فدُعِيَ به، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، عدَّدَها, فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: اذهب، فقد ملَّكْتُكَها بما معك من القرآن» متفق عليه, واللفظ لمسلم.
وفي رواية: قال له: «انطلق, فقد زوَّجتُكَها، فعلِّمْها من القرآن».
وفي رواية للبخاري: «أمْكَنَّاكها بما معك من القرآن».
ولأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما تحفظ؟ قال: سورةَ البقرةِ، والتي تليها. قال: قم فعلِّمْها عشرين آية».
الشرح:
(فصعَّد النظر فيها وصوَّبه): في «النهاية» لابن الأثير: أي: نظر أعلاها وأسفلها وتأملها. وهو من أدلة جواز النظر إلى من يريد زواجها.
(ولأبي داود عن أبي هريرة: قال): أي: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
أهمُّ فوائد الحديث:
دَلَّ الحديثُ على مسائلَ عديدةٍ، وقد تتبَّعَها ابن التِّين، وقال: هذه إحدى وعشرون فائدةً, بوَّب البخاري على أكثرها.
قال الإمام الصنعاني رحمه الله -: ولنأت بأنفَسِها وأوضحِها:
(الأولى): جوازُ عرض المرأة نفسَها على رجلٍ من أهل الصلاح.
(الثانية): جوازُ النظر من الرجل لإرادة التزوج وإن لم يكن خاطبًا.
(الثالثة): أنَّ الإمام - [أي: الحاكم, ومثله القاضي؛ لأنه نائبٌ عنه] يَعقد للمرأة من غير سؤالٍ عن وليها: هل هو موجودٌ أو لا؟ حاضرٌ أو لا؟ ولا سؤالُها: هل هي في عصمة رجل أو عدمه, قال الخطابي: وإلى هذا ذهب جماعةٌ؛ حملاً على ظاهر الحال.
(الرابعة): أنه لا بد من الصداق في النكاح، وأنه يصح أن يكون شيئًا يسيرًا؛ فإنَّ قوله: « ولو خاتمًا من حديد », مبالغةٌ في تقليله, فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان, أو مَن إليه ولاية العقد مما فيه منفعة.
وضابطه: أن كل ما يصلح أن يكون قيمةً وثمنًا لشيءٍ, يصح أن يكون مهرا.
ونقل القاضي عياضٌ الإجماعَ على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له، ولا يحل به النكاح, لكنْ قال ابن حزم: يصح بكل ما يسمى شيئًا، ولو حبةً من شعير, لكنه قولٌ مرجوحٌ؛ لقوله في الحديث: « من استطاع منكم الباءة... ومن لم يستطع...» دلَّ على أنه شيء لا يستطيعه كل واحد، وحبة الشعير مستطاعة لكل أحد.
وكذلك قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا}, وقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم}, دالٌّ على اعتبار المالية في الصداق, حتى قال بعضهم: أقله خمسون، وقيل: أربعون، وقيل: خمسة دراهم، وإن كانت هذه التقادير لا دليل على اعتبارها بخصوصها، والحق أنه يصح بما يكون له قيمةٌ، وإن تحقرت.
(الخامسة): أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة, فلو عُقد بغير ذكر صداقٍ, صح العقد، ووجب لها مهر المثل بالدخول.
(الساسة): أنه يستحب تعجيل المهر.
(السابعة): أنه يجوز الحَلِف وإن لم يكن عليه اليمين.
وأنه يجوز الحَلِف على ما يظنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال له بعد يمينه: « اذهب إلى أهلك, فانظر هل تجد شيئًا؟» فدل أن يمينه كانت على ظنه، ولو كانت لا تكون إلا على العلم لم يكن للأمر بذهابه إلى أهله فائدة.
(الثامنة): أنه لا يجوز للرجل أن يُخرِجَ من ملكه ما لا بد له منه, كالذي يستر عورته أو يَسُدُّ خَلَّتَه من الطعام والشراب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علَّلَ منعه عن قسمة ثوبه بقوله: «إن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء». (التاسعة): أنه لا تجب الخُطبة للعقد؛ لأنها لم تذكر في شيء من طرق الحديث، وتقدم أن الظاهرية تقول بوجوبها، وهذا يرد قولهم.
(العاشرة): أنه يصح أن يكون الصداق منفعةً كالتعليم، ويقاس عليه غيره، ويدل عليه أيضًا - قصة موسى مع شعيب.
وخالف الحنفية، فقالوا: إن التزوج بغير مهر من خواصه صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف الأصل.
(الحادية عشرة): قوله « بما معك من القرآن » يحتمل - كما قاله القاضي عياضٌ وجهين:
أظهرهما: أن يعلمها ما معه من القرآن أو قدْرًا معيَّنًا منه، ويكون ذلك صداقا، ويؤيده: قوله في بعض طرقه الصحيحة: «فعلِّمْها مِنَ القرآن»، وفي بعضها تعيين عشرٍ من الآيات.