فاصلة / الرواية... تاريخ من لا تاريخ له!

تصغير
تكبير
| فهد توفيق الهندال |

بهذا العنوان الاستفزازي، ألقى الروائي الراحل وصاحب المنجز الروائي العريض عبدالرحمن منيف إحدى محاضرته التي جمعها ومقالاته وحواراته حول الرواية في كتاب (الكاتب والمنفى)، منطلقا في محاضرته من بدايات الرواية العربية، مرورا بمراحل تطورها واختلافها، حتى تاريخ المحاضرة التي ألقيت في معرض الكتاب في دمشق عام 1989. حيث افترض أن الرواية ستغدو مرآة يرى العرب فيها أنفسهم، وتكون سجل الأفكار والأحلام وضباب الأمل! كما أنها ستكون والقول لمنيف تاريخ من لا تاريخ لهم، من الفقراء والمسحوقين والذين يحلمون بعالم أفضل، دون أن يعني ذلك أنها يمكن أن تصنع ثورة أو تغير في المجتمع، لأن ذلك لا تقوى عليه الرواية، ولا يمكنها أن تدعي ذلك، بحسب رأي منيف.

لاشك أن المحاضرة والكتاب إجمالا، نتاج خبرة متفتحة بالفكر والوعي الجاد والجريء في قراءة التاريخ والواقع، بعيدا عن الملائكية والمظلومية التي يسبغها البعض على ذاته دون الآخرين. فإذا كان توماس وارتون، يرى أن فضيلة الأدب تكمن في تسجيله المخلص لسمات العصر، والحفاظ على أبرز تمثيل و أفضل تعبير للأخلاق، فإننا بذلك أمام عرض نظري يخلو تماما من أي خصائص فنية أو منهجية أو تقنية، غابت وراء جماد الواقع و ثبات الصورة، تستبعد جمالية الكاتب وفنية وخيال أدوات الكتابة.

من هنا تأتي القيمة الفنية للرواية دون غيرها من الفنون الأدبية الأخرى إلى لغتها التي تفترض التضمين الشديد، ذات الدلالة التعبيرية و التأثير على المتلقي، لدرجة أنها يمكن أن تؤثر في رأيه. بخلاف اللغة اليومية المباشرة، التي لا تحتمل أي دلالات أو رموز، تجعلها قصيرة المدى، على عكس اللغة الأدبية للرواية ذات العمر الافتراضي الطويل.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه... ما العناصر التي تميّز الرواية عن غيرها من الفنون الأدبية الأخرى؟

المعروف أن الرواية تقوم على عنصرين مهمين متداخلين، يشكلان بنية النص الروائي، وهما: الحكاية والخطاب. فالأول الحكاية يرتبط بمرجعيات الواقع الحكائي، في حين يرتبط الثاني بتقنيات الكتابة الروائية.

ولعل كثيرين ركزوا على أهمية الخطاب الروائي لكونه فلسفة الكاتب في عالمه الروائي، فيذكر لوفيف أن الخطاب «قول يستحضر إلى الذهن عالما مأخوذا على محمل حقيقي في بعديه المادي والمعنوي ويقع في زمان ومكان محددين ويقدم في أغلب الأحيان معكوسا من خلال منظور شخصية أو أكثر بالإضافة إلى منظور الراوي اختلافا عن الشعر».

والأهم من ذلك أن يتحقق في الخطاب، عامل الرسالة، الذي ميزه جاكبسون في نظرية الاتصال الشهيرة، لكونها الرسالة المرجع الذي يحال إليه المتلقي، كي يتمكن من إدراك القول نفسه.

وعندما تصدى أدباء كبار لفن الرواية، لم تكن مجرد تحصيل حاصل، أو إغراء بريق مجد ما، بقدر ما أنه رسالة تتطلب جرأة وذهنا متوقدا، متحفزا، مستفزا للآخرين، لا يقبل لغة مغبشة تحت أي ذريعة، وحده الفن... الفن الذي انحاز إليه منيف في ذات المحاضرة بقوله:

«إن الفن، كما يقول هيغل، لا يوجد من اجل مجموعة صغيرة مغلقة من القلة المنعمة بامتياز الثقافة، بل من أجل الأمة بكاملها وهذا ما أتوقع أن تفعله الرواية».

فعلا... الرواية فن لا يعترف بالريادة الفقيرة أو تأثيث الكلام المنمق، وإنما بالفكر الواضح والموقف الجاد من الحياة.

والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.





* كاتب وناقد كويتي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي