البوسنة تطلّ على الخليج من «الباب العالي»

مطاحن مائية قرب يايتزي... من المواقع السياحية التي تفتقر إلى الاستثمارات





شلالات يايتزي من أجمل تسع شلالات في العالم










| استطلاع وتصوير عبادة اللدن |
تتصالح سراييفو مع مجرى دمعها كل صباح. تضرب مع نهر «أليجا ليبا» الذي ظل خمس سنوات خط تماسٍ أحمر، موعداً للفرح والموسيقى والاستثمارات... وربما السياحة الخليجية**.
شيئاً فشيئاً، يتحرّر الزائر من ثقل الذاكرة. تصبح المدينة بمذاق أجبانها وخبزها الساخن وعسلها الأسود، ورائحة خروف يتقلب لساعات على الجمر في ليل بارد.
تقدّم البوسنة والهرسك نفسها لزائرها الآتي من الشرق، بوجه سيدة عشرينية بملامح سلافيّة تقدم للزائر حلوى ما زالت تحتفظ باسمها العربي الذي يختصر وصفاً لمذاق البلاد: إنها «راحة الحلقوم»!
في الطريق من المطار إلى الفندق وسط المدينة، تسنّى لوفدٍ رافقته «الراي» من الكويت بدعوةٍ من «الخطوط التركية»، اكتشاف الملامح الأولى للوجه العصري للعاصمة. بضعة مجمعات تجارية كبرى، يرتفع على أحدها شعار قناة «الجزيرة» الناطقة بالبوسنية التي افتتحتها الشبكة القطرية هناك العام الماضي. قد تكون هذه العاصمة الوحيدة التي يمكن أن تقرأ فيها كلمة عربية بهذه الضخامة في وسط أوروبا وشرقها.
تعيد المدينة ربط شرايينها بالشرق ببطء وتثاقل، بعد 150 عاماً من خروج الأتراك العثمانيين منها، متنازلين عن حكمها للامبراطورية النمساوية- المجرية الصاعدة في ذلك الزمان إلى شرق الرايخ الثالث. في عيون الناس هنا مزيج محيّر من العتب واللامبالاة تجاه الشرق وهم يروُون للزائر الشرقي ماذا جرى في غيابه.
حتى اهتمام بالبوسنة خلال مآسي التسعينات انتهى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. لكن الحركة تعود الآن، وتركيا هي الباب العالي إلى الشرق؛ هنا أعادت بناء مسجدٍ عمره مئات السنين هدمه الصرب، وهناك أعادت بناء جسر تاريخي، وهنالك تكية صوفية نقشبندية يؤمها الأتراك. رحلات «الخطوط التركية» تصل مدن الخليج بسراييفو برحلات يومية، هذا فضلاً عن رحلات «الخطوط البوسنية» اليومية إلى اسطنبول. تلك الشركة التي بنتها «التركية» وأهدتها للبوسنة.
ليست كثيرةً أخبار المدينة. ثلاثة قصص إخبارية فقط في مئة وخمسين عاماً من العزلة، كان أحدها كافياً ليشعل الحرب العالمية الأولى. يوم مرّ ولي عهد النمسا فرانز فرديناند بموكبه في سراييفو كان الموت بانتظاره على يد ناشط صربي في 8 يونيو 1914. في اليوم التالي اجتاحت النمسا بولندا واندلعت الحرب.
أنهت الحرب امبراطورية العثمانيين وقلّصت طموحات الأتراك. كان على ذلك الجيب المسلم في البلقان أن يذوب في مملكة واحدة مع صربيا وكرواتيا وسلوفينيا، إلى أن قامت الاتحاد اليوغوسلافي بزعامة تيتو الشهير، في ظلال المد السوفياتي.
غابت سراييفو عن عناوين الأخبار العالمية 70 عاماً بالتمام والكمال، قبل أن يكتمل بناء المدينة الأولمبية الشهيرة قرب نهر أيجا ليبا لتستضيف المدينة الألعاب الأولمبية الشتوية في العام 1984، أي بعد أربع سنواتٍ من موت تيتو. خُيّل حينها لكثيرين أن مآذن المدينة الألف ليست إلا كمعالم السياحة في غرناطة.
لكن التاريخ استفاق فجأة، وكان القدر يخبئ للبلاد أكبر المآسي في تاريخها الممتد إلى مئة ألف سنة. غير بعيد يقف مبنى التلفزيون البوسني الشديد التحصين شاهداً على الفصل الأقسى من حصار سراييفو بين العامين 1992 و1995. هناك دارت أشرس المعارك للسيطرة على القناة التي كانت النافذة الوحيدة للبوسنيين لإيصال صور المجازر إلى العالم.
بين حقبتين
لا ينتهي حديث الحرب إلا حين تضع النادلة قطع لحم الخروف المشوية على الطريقة البوسنية في الصحون البيضاوية، وإلى جانبها تصب نوعاً من القشطة البيضاء تستهوي صديقنا التركي.
في ذلك المطعم الشهير الذي تزدحم على جدرانه صور رؤساء وملوك ووزراء، لا يتسع المكان لأكثر من أربع طاولات دائرية تعلو عن الأرض ليس أكثر من نصف متر، وتتوسط ما يشبه الديوانية الملتصقة بالحائط، وبضع كراسٍ دائرية صغيرة لمن لم يكد مكاناً. مر من هنا عبدالله غول وأحمد داود أوغلو ورؤساء ووزراء من حول العالم.
لا بد أن المكان يستهوي الأتراك. فالأطباق التقليدية هنا وأسماؤها وطريقة شواء اللحم تصل البلاد بالحقبة التركية. الطبق الأساسي اسمه «الصحن»، والكباب اسمه «كبابجي»، والطنجرة لها الاسم نفسه تقريباً، وفي المطبخ البوسني الكثير من المحاشي واللحم المطهو بعظمه ودهنه.
وللخروف في المطبخ البوسني قصة ومذاق. فالأرض البكر وحدها تُطعم الخرفان من عشبها الطبيعي غير الملوث بأي مواد كيماوية طوال السنة. وثمة مطاعم مشهورة بتخزين العشب الأخضر في أكوام ينهال فوقها الثلج شتاء، ليصبح أشبه بثلّاجة طبيعية توفر للخروف قوته لما تبقى من عمره، قبل أن يأتي الزبائن ليتلذذوا بلحمه الطري.
في باشكارجيا (Ba??ar?ija)، حيث المدينة القديمة والسوق التراثي المخصص للمشاة مازال التراث العثماني حاضراً في شطر المكان. مسجد غازي خسرو بيك واحد من مئات المساجد في العاصمة، لكنه الأشهر والأجمل بقبته الدائرية وقرميده الأخضر والآيات القرآنية المكتوبة بخط الثلث، والموضأة الكبيرة في صحن المسجد الخارجي، والنُزل المجاورة له.
غازي خسرو بيك، باني المسجد الذي أعادت السعودية ترميمه في التسعينات، كان أقوى حكام البوسنة في الحقبة العثمانية، وهو بوسنيّ أمه التركية ليست إلا ابنة السلطان سليم الأول. حكم سراييفو في عهد خاله السلطان سليمان القانوني. بنى المسجد في العام 1531، وقد ورد في العديد من المراجع أنه بنى مسجداً مطابقاً للمسجد الذي حمل اسمه في مدينة حلب السورية في العام 1536.
يخبرنا الزائر عن طقوسٍ رمضانية عامرة يشهدها المسجد، ليس أقلها جمع الزكاة الذي تتولاه إحدى الجمعيات في مبنى في زاوية الصحن.
على الناحية الأخرى من الشارع، «المدرسة» (medresa) التي أسسها غازي بيك ما زالت تحتفظ باسمها العربي. في ذلك الشارع يلاقيك الشرق الذي أنت آتٍ منه بسحنةٍ أوروبية. تلاقيك سيدة عند باب محلها لتعرض عليك شراء إبريق وأوانٍ نحاسية، أو لوحات خشبية تحمل بسملةً أو آية.
تسير ل تصل إلى خطٍ فاصل بين حقبتين. ستشعر بعدها أنك دخلت أحد شوارع فيينا أو بودابست. إنه شطر المدينة القديمة الذي بنته الامبراطورية النمساوية المجرية، منذ أن حكمت المدينة في العام 1863. غير بعيد ستجد كنيسة الروح القدس العملاقة، وهي واحدة من ثلاث كنائس بُنيت في ذلك العهد لتشهد على الأيام كيف يُداولها الله بين الدول. وعلى مسافة أمتار كنيسٌ يهودي يكتمل معه لقب المدينة: «قدس أوروبا».
دولة بثلاثة رؤوس
من ذلك المزيج الحضاري تصنع البوسنة حاضرها في نظام اتحادي لا مثيل له بتعقيده الذي لا مثيل له في العالم، بموجب اتفاقية دايتون للسلام في العام 1995. دولة بثلاثة رؤوس يشكلون معاً المجلس الرئاسي، ويتناوبون على الكرسي الأول كل ثمانية أشهر، مرة للبوشناق المسلمين ومرة للصرب الأورثوذكس ومرة للكروات الكاثوليك. وفي قلب الاتحاد «جمهورية سبريسكا»، دولة الصرب في قلب الدولة.
لكن تجربة العقدين الماضين أثبتت قدرة البوسنيين على تجاوز الماضي لرسم صورة حديثة للبلاد، لا تخلو من التنافس بين مكوّنات «شعوب» البوسنة والهرسك.
الزائر من الخليج لا بد أن يأخذه المرشد البوشناقي من سراييفو إلى جبل بيلاشنيتسا (Bjela?nica) في محيطها، الذي استضاف بعض أنشطة الألعاب الأولمبية الشتوية في 1984، وهو من أشهر مراكز التزلج في شرق أوروبا، إذ تغمره الثلوج على مدى ثلثي أشهر السنة، فيما يتحوّل إلى منتزهات للاستكشاف وركوب الدراجة والتجذيف المائي صيفاً.
في أطراف المدينة أيضاً، منتزه المدينة الكبيرة الذي هو عبارةٌ عن محميّة طبيعية تتفجّر فيها مياه الينابيع الآتية من الجبال المحيطة.
لم تصبح سراييفو بحمدون أو عاليه أو دبي أو شرم الشيخ بالنسبة للكويتيين، لكن أعداداً متزايدة من العائلات الخليجية والكويتية يمكن ملاحظتها صيفاً في المجمعات التجارية أو في المنتزهات.
ثمة مدن أخرى على خارطة السحر البوسني. موستار، عاصمة الهرسك، الأكثر دفئاً والأقرب إلى البحر الأدرياتيكي. هناك حيث نهر نيترافا، وفوقه الجسر الشهير الذي هدمته الحرب، وأعيد بناؤه قبل سنوات. هناك لا بد من زيارة المساجد الأثرية، مثل مسجد نصوح آغا، والمكتبة العامة والمتحف اللذين يؤرخان لتاريخ المدينة ومآسي الحرب.
في الاتجاه الآخر نحو وسط البلاد،، لا بد من المرور على ترافنيك، تلك القلعة العثانية المذهلة، وإلى جوارها مسجد السليمانية الذي يعود إلى القرن السادس عشر، وهو أحد المساجد التي هدمتها حرب التسعينات تماماً وأعادت تركيا بناءه.
في يايتزي قصة أخرى. المدينة بأكملها عبارة عن قلعة محصّنة بسور حجري عظيم. ليس غريباً أن تكون تلك آخر مدينة استسلمت للعثمانيين. داخل السور يتجاور نصبٌ كاثوليكي مع مسجدٍ أُعيد بناؤه بعد الحرب، على الطراز نفسه الذي بُني به قبل أربعة قرون. هناك أيضاً لا بد من المرور بالشلالات الرائعة، حيث تُقام حفلات الأعراس الخاصة، وبحيرة شهيرة في أطرافها مطاحن تقليدية تعمل بالمياه، وما زالت تحتفظ بشكلها التاريخي.
الوجه السياحي للبلاد يتقدم الأولويات. ملامح شرقية لبلد يجاهد لتحقيق نمو اقتصادي واستقرار سياسي يسلك به الطريق إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
لا تبدو الطريق سهلة. البوسنيّون أنفسهم يردّدون دائماً أنه «ليس سهلاً أن تكون مسلماً في أوروبا»، لكنهم على الأرجح مصرّون على الرهان. الصور في الأعلى (من اليمين):
1 - جسر موستار الشهير الذي هُدم في الحرب وأعيد بناؤه قبل سنوات
2 - الخط الفاصل بين الحقبتين العثمانية والنمساوية- المجرية في المدينة القديمة لسراييفو
3 - مشهد من محمية طبيعية مفتوحة للعائلات قرب سراييفو
4 - مسجد غازي خسرو بيك الأشهر في العاصمة
سين جيم
• هل تتوافر الرحلات الجوية إلى البوسنة والهرسك؟
- لا خطوط مباشرة إلى البوسنة، لكن بالإمكان السفر إليها يومياً عبر تركيا، إذ تشغل الخطوط الجوية التركية رحلات يومية من اسطنبول إلى سراييفو. وتستغرق الرحلة نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة بين الكويت واسطنبول، ونحو ساعة ونصف الساعة بين اسطنبول وسراييفو.
• هل أحتاج إلى تأشيرة؟
- لا يحتاج المواطن الكويتي إلى استصدار تأشيرة مسبقاً للدخول إلى البوسنة. وهناك جنسيات أخرى معفية من التأشيرة مثل مواطني الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وقطر.
وبإمكان الذين يحملون «الشنغن» الحصول على التأشيرة البوسنية في المطار، بشرط أن يكونوا قادمين من إحدى الدول الأوروبية. أما أصحاب الجنسيات الأخرى فبإمكانهم الحصول على التأشيرة من سفارة جمهورية البوسنة والهرسك في الكويت الموجودة في بيان.
• ماذا عليّ أن أحمل من نقود؟
- العملة المتداولة في البوسنة والهرسك هي المارك البوسني، وهي تعادل نصف يورو تقريباً، لكن العملة الأوروبية متداولة على نطاق واسع. وبالإمكان الدفع بالبطاقات الائتمانية في الفنادق والمجمعات الكبيرة، لكن ليس في المحلات العادية. وتظل تكلفة السياحة في البوسنة منخفضة نسبياً، وهي قريبة عموماً من مستويات الأسعار في أوروبا الشرقية.
• ما اللغة التي علي إتقانها هناك؟
- اللغة الأوسع انتشاراً هي اللغة البوشناقية (عند المسلمين البوشناق)، إلى جانب الصربية والكرواتية. وما زال انتشار اللغة الانكليزية محدوداً نوعاً ما، لكن تظل تجد في السوق أو في المطعم من يترجم لك.
• هل أحتاج إلى رخصة قيادة؟
- لا حاجة إلى رخصة قيادة دولية، بل تكفي الرخصة المحلية.
الاستثمار الخليجي ... بداية اكتشاف
فندق «بريستول» الذي نزل فيه الوفد الكويتي، وهو أحد أكبر فندقين في سراييفو، يحمل إرثاً تاريخياً كبيراً، وقد أعادت بناءه مجموعة «SEIC» التي يساهم في ملكيتها البنك الإسلامي للتنمية ومجموعة من المستثمرين السعوديين، ووضعت له ضوابط متفقة مع الشريعة، ليلائم احتياجات العائلات الخليجية المحافظة التي باتت أكثر حضوراً في البلاد.
وخلال فترة الإقامة، شهد الفندق حفل استقبال لشركة «»، شارك فيه عدد من وجوه الأعمال البارزة في سراييفو، وجرى الحديث عن عدد من المشاريع العقارية والفندقية الكبرى.
الحضور الاستثماري الكويتي مازال خجولاً ومحصوراً في العقار، لكن الفرص تبدو كبيرة، وربما تتغير الصورة في حال وُجد من يلتفت إلى ذلك.
تتصالح سراييفو مع مجرى دمعها كل صباح. تضرب مع نهر «أليجا ليبا» الذي ظل خمس سنوات خط تماسٍ أحمر، موعداً للفرح والموسيقى والاستثمارات... وربما السياحة الخليجية**.
شيئاً فشيئاً، يتحرّر الزائر من ثقل الذاكرة. تصبح المدينة بمذاق أجبانها وخبزها الساخن وعسلها الأسود، ورائحة خروف يتقلب لساعات على الجمر في ليل بارد.
تقدّم البوسنة والهرسك نفسها لزائرها الآتي من الشرق، بوجه سيدة عشرينية بملامح سلافيّة تقدم للزائر حلوى ما زالت تحتفظ باسمها العربي الذي يختصر وصفاً لمذاق البلاد: إنها «راحة الحلقوم»!
في الطريق من المطار إلى الفندق وسط المدينة، تسنّى لوفدٍ رافقته «الراي» من الكويت بدعوةٍ من «الخطوط التركية»، اكتشاف الملامح الأولى للوجه العصري للعاصمة. بضعة مجمعات تجارية كبرى، يرتفع على أحدها شعار قناة «الجزيرة» الناطقة بالبوسنية التي افتتحتها الشبكة القطرية هناك العام الماضي. قد تكون هذه العاصمة الوحيدة التي يمكن أن تقرأ فيها كلمة عربية بهذه الضخامة في وسط أوروبا وشرقها.
تعيد المدينة ربط شرايينها بالشرق ببطء وتثاقل، بعد 150 عاماً من خروج الأتراك العثمانيين منها، متنازلين عن حكمها للامبراطورية النمساوية- المجرية الصاعدة في ذلك الزمان إلى شرق الرايخ الثالث. في عيون الناس هنا مزيج محيّر من العتب واللامبالاة تجاه الشرق وهم يروُون للزائر الشرقي ماذا جرى في غيابه.
حتى اهتمام بالبوسنة خلال مآسي التسعينات انتهى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. لكن الحركة تعود الآن، وتركيا هي الباب العالي إلى الشرق؛ هنا أعادت بناء مسجدٍ عمره مئات السنين هدمه الصرب، وهناك أعادت بناء جسر تاريخي، وهنالك تكية صوفية نقشبندية يؤمها الأتراك. رحلات «الخطوط التركية» تصل مدن الخليج بسراييفو برحلات يومية، هذا فضلاً عن رحلات «الخطوط البوسنية» اليومية إلى اسطنبول. تلك الشركة التي بنتها «التركية» وأهدتها للبوسنة.
ليست كثيرةً أخبار المدينة. ثلاثة قصص إخبارية فقط في مئة وخمسين عاماً من العزلة، كان أحدها كافياً ليشعل الحرب العالمية الأولى. يوم مرّ ولي عهد النمسا فرانز فرديناند بموكبه في سراييفو كان الموت بانتظاره على يد ناشط صربي في 8 يونيو 1914. في اليوم التالي اجتاحت النمسا بولندا واندلعت الحرب.
أنهت الحرب امبراطورية العثمانيين وقلّصت طموحات الأتراك. كان على ذلك الجيب المسلم في البلقان أن يذوب في مملكة واحدة مع صربيا وكرواتيا وسلوفينيا، إلى أن قامت الاتحاد اليوغوسلافي بزعامة تيتو الشهير، في ظلال المد السوفياتي.
غابت سراييفو عن عناوين الأخبار العالمية 70 عاماً بالتمام والكمال، قبل أن يكتمل بناء المدينة الأولمبية الشهيرة قرب نهر أيجا ليبا لتستضيف المدينة الألعاب الأولمبية الشتوية في العام 1984، أي بعد أربع سنواتٍ من موت تيتو. خُيّل حينها لكثيرين أن مآذن المدينة الألف ليست إلا كمعالم السياحة في غرناطة.
لكن التاريخ استفاق فجأة، وكان القدر يخبئ للبلاد أكبر المآسي في تاريخها الممتد إلى مئة ألف سنة. غير بعيد يقف مبنى التلفزيون البوسني الشديد التحصين شاهداً على الفصل الأقسى من حصار سراييفو بين العامين 1992 و1995. هناك دارت أشرس المعارك للسيطرة على القناة التي كانت النافذة الوحيدة للبوسنيين لإيصال صور المجازر إلى العالم.
بين حقبتين
لا ينتهي حديث الحرب إلا حين تضع النادلة قطع لحم الخروف المشوية على الطريقة البوسنية في الصحون البيضاوية، وإلى جانبها تصب نوعاً من القشطة البيضاء تستهوي صديقنا التركي.
في ذلك المطعم الشهير الذي تزدحم على جدرانه صور رؤساء وملوك ووزراء، لا يتسع المكان لأكثر من أربع طاولات دائرية تعلو عن الأرض ليس أكثر من نصف متر، وتتوسط ما يشبه الديوانية الملتصقة بالحائط، وبضع كراسٍ دائرية صغيرة لمن لم يكد مكاناً. مر من هنا عبدالله غول وأحمد داود أوغلو ورؤساء ووزراء من حول العالم.
لا بد أن المكان يستهوي الأتراك. فالأطباق التقليدية هنا وأسماؤها وطريقة شواء اللحم تصل البلاد بالحقبة التركية. الطبق الأساسي اسمه «الصحن»، والكباب اسمه «كبابجي»، والطنجرة لها الاسم نفسه تقريباً، وفي المطبخ البوسني الكثير من المحاشي واللحم المطهو بعظمه ودهنه.
وللخروف في المطبخ البوسني قصة ومذاق. فالأرض البكر وحدها تُطعم الخرفان من عشبها الطبيعي غير الملوث بأي مواد كيماوية طوال السنة. وثمة مطاعم مشهورة بتخزين العشب الأخضر في أكوام ينهال فوقها الثلج شتاء، ليصبح أشبه بثلّاجة طبيعية توفر للخروف قوته لما تبقى من عمره، قبل أن يأتي الزبائن ليتلذذوا بلحمه الطري.
في باشكارجيا (Ba??ar?ija)، حيث المدينة القديمة والسوق التراثي المخصص للمشاة مازال التراث العثماني حاضراً في شطر المكان. مسجد غازي خسرو بيك واحد من مئات المساجد في العاصمة، لكنه الأشهر والأجمل بقبته الدائرية وقرميده الأخضر والآيات القرآنية المكتوبة بخط الثلث، والموضأة الكبيرة في صحن المسجد الخارجي، والنُزل المجاورة له.
غازي خسرو بيك، باني المسجد الذي أعادت السعودية ترميمه في التسعينات، كان أقوى حكام البوسنة في الحقبة العثمانية، وهو بوسنيّ أمه التركية ليست إلا ابنة السلطان سليم الأول. حكم سراييفو في عهد خاله السلطان سليمان القانوني. بنى المسجد في العام 1531، وقد ورد في العديد من المراجع أنه بنى مسجداً مطابقاً للمسجد الذي حمل اسمه في مدينة حلب السورية في العام 1536.
يخبرنا الزائر عن طقوسٍ رمضانية عامرة يشهدها المسجد، ليس أقلها جمع الزكاة الذي تتولاه إحدى الجمعيات في مبنى في زاوية الصحن.
على الناحية الأخرى من الشارع، «المدرسة» (medresa) التي أسسها غازي بيك ما زالت تحتفظ باسمها العربي. في ذلك الشارع يلاقيك الشرق الذي أنت آتٍ منه بسحنةٍ أوروبية. تلاقيك سيدة عند باب محلها لتعرض عليك شراء إبريق وأوانٍ نحاسية، أو لوحات خشبية تحمل بسملةً أو آية.
تسير ل تصل إلى خطٍ فاصل بين حقبتين. ستشعر بعدها أنك دخلت أحد شوارع فيينا أو بودابست. إنه شطر المدينة القديمة الذي بنته الامبراطورية النمساوية المجرية، منذ أن حكمت المدينة في العام 1863. غير بعيد ستجد كنيسة الروح القدس العملاقة، وهي واحدة من ثلاث كنائس بُنيت في ذلك العهد لتشهد على الأيام كيف يُداولها الله بين الدول. وعلى مسافة أمتار كنيسٌ يهودي يكتمل معه لقب المدينة: «قدس أوروبا».
دولة بثلاثة رؤوس
من ذلك المزيج الحضاري تصنع البوسنة حاضرها في نظام اتحادي لا مثيل له بتعقيده الذي لا مثيل له في العالم، بموجب اتفاقية دايتون للسلام في العام 1995. دولة بثلاثة رؤوس يشكلون معاً المجلس الرئاسي، ويتناوبون على الكرسي الأول كل ثمانية أشهر، مرة للبوشناق المسلمين ومرة للصرب الأورثوذكس ومرة للكروات الكاثوليك. وفي قلب الاتحاد «جمهورية سبريسكا»، دولة الصرب في قلب الدولة.
لكن تجربة العقدين الماضين أثبتت قدرة البوسنيين على تجاوز الماضي لرسم صورة حديثة للبلاد، لا تخلو من التنافس بين مكوّنات «شعوب» البوسنة والهرسك.
الزائر من الخليج لا بد أن يأخذه المرشد البوشناقي من سراييفو إلى جبل بيلاشنيتسا (Bjela?nica) في محيطها، الذي استضاف بعض أنشطة الألعاب الأولمبية الشتوية في 1984، وهو من أشهر مراكز التزلج في شرق أوروبا، إذ تغمره الثلوج على مدى ثلثي أشهر السنة، فيما يتحوّل إلى منتزهات للاستكشاف وركوب الدراجة والتجذيف المائي صيفاً.
في أطراف المدينة أيضاً، منتزه المدينة الكبيرة الذي هو عبارةٌ عن محميّة طبيعية تتفجّر فيها مياه الينابيع الآتية من الجبال المحيطة.
لم تصبح سراييفو بحمدون أو عاليه أو دبي أو شرم الشيخ بالنسبة للكويتيين، لكن أعداداً متزايدة من العائلات الخليجية والكويتية يمكن ملاحظتها صيفاً في المجمعات التجارية أو في المنتزهات.
ثمة مدن أخرى على خارطة السحر البوسني. موستار، عاصمة الهرسك، الأكثر دفئاً والأقرب إلى البحر الأدرياتيكي. هناك حيث نهر نيترافا، وفوقه الجسر الشهير الذي هدمته الحرب، وأعيد بناؤه قبل سنوات. هناك لا بد من زيارة المساجد الأثرية، مثل مسجد نصوح آغا، والمكتبة العامة والمتحف اللذين يؤرخان لتاريخ المدينة ومآسي الحرب.
في الاتجاه الآخر نحو وسط البلاد،، لا بد من المرور على ترافنيك، تلك القلعة العثانية المذهلة، وإلى جوارها مسجد السليمانية الذي يعود إلى القرن السادس عشر، وهو أحد المساجد التي هدمتها حرب التسعينات تماماً وأعادت تركيا بناءه.
في يايتزي قصة أخرى. المدينة بأكملها عبارة عن قلعة محصّنة بسور حجري عظيم. ليس غريباً أن تكون تلك آخر مدينة استسلمت للعثمانيين. داخل السور يتجاور نصبٌ كاثوليكي مع مسجدٍ أُعيد بناؤه بعد الحرب، على الطراز نفسه الذي بُني به قبل أربعة قرون. هناك أيضاً لا بد من المرور بالشلالات الرائعة، حيث تُقام حفلات الأعراس الخاصة، وبحيرة شهيرة في أطرافها مطاحن تقليدية تعمل بالمياه، وما زالت تحتفظ بشكلها التاريخي.
الوجه السياحي للبلاد يتقدم الأولويات. ملامح شرقية لبلد يجاهد لتحقيق نمو اقتصادي واستقرار سياسي يسلك به الطريق إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
لا تبدو الطريق سهلة. البوسنيّون أنفسهم يردّدون دائماً أنه «ليس سهلاً أن تكون مسلماً في أوروبا»، لكنهم على الأرجح مصرّون على الرهان. الصور في الأعلى (من اليمين):
1 - جسر موستار الشهير الذي هُدم في الحرب وأعيد بناؤه قبل سنوات
2 - الخط الفاصل بين الحقبتين العثمانية والنمساوية- المجرية في المدينة القديمة لسراييفو
3 - مشهد من محمية طبيعية مفتوحة للعائلات قرب سراييفو
4 - مسجد غازي خسرو بيك الأشهر في العاصمة
سين جيم
• هل تتوافر الرحلات الجوية إلى البوسنة والهرسك؟
- لا خطوط مباشرة إلى البوسنة، لكن بالإمكان السفر إليها يومياً عبر تركيا، إذ تشغل الخطوط الجوية التركية رحلات يومية من اسطنبول إلى سراييفو. وتستغرق الرحلة نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة بين الكويت واسطنبول، ونحو ساعة ونصف الساعة بين اسطنبول وسراييفو.
• هل أحتاج إلى تأشيرة؟
- لا يحتاج المواطن الكويتي إلى استصدار تأشيرة مسبقاً للدخول إلى البوسنة. وهناك جنسيات أخرى معفية من التأشيرة مثل مواطني الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وقطر.
وبإمكان الذين يحملون «الشنغن» الحصول على التأشيرة البوسنية في المطار، بشرط أن يكونوا قادمين من إحدى الدول الأوروبية. أما أصحاب الجنسيات الأخرى فبإمكانهم الحصول على التأشيرة من سفارة جمهورية البوسنة والهرسك في الكويت الموجودة في بيان.
• ماذا عليّ أن أحمل من نقود؟
- العملة المتداولة في البوسنة والهرسك هي المارك البوسني، وهي تعادل نصف يورو تقريباً، لكن العملة الأوروبية متداولة على نطاق واسع. وبالإمكان الدفع بالبطاقات الائتمانية في الفنادق والمجمعات الكبيرة، لكن ليس في المحلات العادية. وتظل تكلفة السياحة في البوسنة منخفضة نسبياً، وهي قريبة عموماً من مستويات الأسعار في أوروبا الشرقية.
• ما اللغة التي علي إتقانها هناك؟
- اللغة الأوسع انتشاراً هي اللغة البوشناقية (عند المسلمين البوشناق)، إلى جانب الصربية والكرواتية. وما زال انتشار اللغة الانكليزية محدوداً نوعاً ما، لكن تظل تجد في السوق أو في المطعم من يترجم لك.
• هل أحتاج إلى رخصة قيادة؟
- لا حاجة إلى رخصة قيادة دولية، بل تكفي الرخصة المحلية.
الاستثمار الخليجي ... بداية اكتشاف
فندق «بريستول» الذي نزل فيه الوفد الكويتي، وهو أحد أكبر فندقين في سراييفو، يحمل إرثاً تاريخياً كبيراً، وقد أعادت بناءه مجموعة «SEIC» التي يساهم في ملكيتها البنك الإسلامي للتنمية ومجموعة من المستثمرين السعوديين، ووضعت له ضوابط متفقة مع الشريعة، ليلائم احتياجات العائلات الخليجية المحافظة التي باتت أكثر حضوراً في البلاد.
وخلال فترة الإقامة، شهد الفندق حفل استقبال لشركة «»، شارك فيه عدد من وجوه الأعمال البارزة في سراييفو، وجرى الحديث عن عدد من المشاريع العقارية والفندقية الكبرى.
الحضور الاستثماري الكويتي مازال خجولاً ومحصوراً في العقار، لكن الفرص تبدو كبيرة، وربما تتغير الصورة في حال وُجد من يلتفت إلى ذلك.