فاصلة / «ساق العرش» ... الإنسان تاريخاً

فهد توفيق الهندال


| فهد توفيق الهندال |
في كتابه الجميل () وترجمة سيزا قاسم يذكر يوري لوتمان أن الإنسان يُخضع العلاقات الإنسانية والنظم لاحداثيات المكان، بما يمكن اضفاؤه** من صفات مكانية على أفكار مجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد ما يقربه إلى الإفهام. وينطـبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعية، الدينية، السياسية، الأخلاقية والزمنية. بل إن هذا التبادل بين الصور الذهنية والمكانية امتد إلى التصاق معان أخلاقية بالاحداثيات المكانية النابعة من حضارة المجتمع وثقافته.
بهذا نجد أن المكان الروائي يرتبط - إلى جانب السرد بالمكان، الحدث، الزمن وسائر العناصر المكونة للرواية، وهو بذلك لا يتقيد بفضاء واحد، فقد تنتقل الشخصية من مكان لآخر، وتتوقف في الأمكنة كمراحل في مسيرة اكتسابها، ويتعدد إذا انتقلت بين الفضاء الفعلي والحلم والفكر والتذكر، ويتولد من ذلك فضاءات عديدة يتشكل منها الفضاء الروائي العام.
في رواية (ساق العرش) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2007، اعتمد الشاعر محمد هشام المغربي على بوح ذاتي لبطله المتكلم كسارد عليم يشكّل القص من حوله، ينطلق في زمن السرد الآني إلى ما هو أبعد بحثا عن هوية ما، تعيد له اعتباره الشخصي/ الجماعي كفرد ينتمي لتاريخ ما له مكانته المجيدة، وهو ما شكّل بداية السرد الذاتي حول سؤال الهوية المكانية، لكونه يرى نفسه/ الحضري غير المندمج مع صبية منطقة سكنه التي ترعرع بها في صباه، ولعل تعجبه لم ينفصل عن سابقه من التساؤل والاستغراب في كيف يمكن أن يجمع المكان فردا لا ينتمي إليه اجتماعيا، خصوصا وأنه ليس كأي فرد يظن ظنون أبيه أنه من أصول مختلفة عن البقية الساكنين في نفس المكان، مما جعله يظن أن هذا الفخر الغائب/ المغيّب ساق كامن بدأ يبحث عن جذوره في حوارات مختلفة مع أبيه الذي يعيش بدوره تنوع هوية المكان: الأصل من جهة الجد، ميلاد الأب هناك، النزوح إلى هنا/ الكويت، فاكتسب صفة الفعل كاسم جديد (النازح) في المكان الأخير وهو ما أدخل السارد في حوارات داخلية، ختم قفلها المعتاد: «الولد سر أبيه».
تأتي المفارقة المكانية بعد ذلك في عام 90، حيث يعيش السارد محنة التمزق المكاني. ولعل معادلة الـ «هنا» والـ «هناك» تمثّل موضوعها في الحاضر الذي يفترض أن يُلغي الماضي، على اعتبار أن المكان الجديد يتطلب كل ما هو جديد.
وبعد وفاة الأب جاءت الفرصة المنتظرة، حيث مكّنت السارد في أن يشد حبل السرد الذاتي أكثر عبر أحداث غيّرت من نمطية تفكيره النازح لتدخل في علاقة جدلية أطرافها المدينة/ المكان، السارد/ الكائن، الكينونة/ الماضي، باشتراك العناصر السابقة وما يقابلها تتضح لنا معادلة المكان إلى الكائن وما كان. لينطلق السرد من نقطة وفاة الأب والبحث عن السر المتوارث، عبر أسئلة الذات عن الانتماء في هذا العبث المحيط به. إلا أن العبث يجده في بحثه الدائم عن أصوله وسؤاله الدائم عن المكان التي تنسب له مكانتهم هناك المختلفة حتما عن مكانتهم هنا. وهو ما جعله يتجه إلى حيث تقوده بوصلة العاطفة إلى هناك. إلا أن السرد يُدين الماضي:
«ألومك يا والدي، ألومك اليوم أكثر من قبل، كيف لم تكشف لي عنه؟ كيف طمست تاريخي ونسبتني للصحراء وأشجار العرفج؟ لماذا أورثتني القحط والعطش وألصقتني بالحر والغبار؟
وأنا كنت من استهجن رفضي للحالة، وأقول: كفى عبثا يا ولد، بلدك هذي... كن وطنيا ولو ليوم واحد».
أمام هذا العمل الروائي الأول والوحيد لمحمد هشام المغربي، استشعر كما نوعيا من الكتابة السردية ما يزال مخبأ/ منتظرا في جيب هذا الشاعر، فهلا يُلقي علينا جديده عن قريب؟
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
[email protected]
في كتابه الجميل () وترجمة سيزا قاسم يذكر يوري لوتمان أن الإنسان يُخضع العلاقات الإنسانية والنظم لاحداثيات المكان، بما يمكن اضفاؤه** من صفات مكانية على أفكار مجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد ما يقربه إلى الإفهام. وينطـبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعية، الدينية، السياسية، الأخلاقية والزمنية. بل إن هذا التبادل بين الصور الذهنية والمكانية امتد إلى التصاق معان أخلاقية بالاحداثيات المكانية النابعة من حضارة المجتمع وثقافته.
بهذا نجد أن المكان الروائي يرتبط - إلى جانب السرد بالمكان، الحدث، الزمن وسائر العناصر المكونة للرواية، وهو بذلك لا يتقيد بفضاء واحد، فقد تنتقل الشخصية من مكان لآخر، وتتوقف في الأمكنة كمراحل في مسيرة اكتسابها، ويتعدد إذا انتقلت بين الفضاء الفعلي والحلم والفكر والتذكر، ويتولد من ذلك فضاءات عديدة يتشكل منها الفضاء الروائي العام.
في رواية (ساق العرش) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2007، اعتمد الشاعر محمد هشام المغربي على بوح ذاتي لبطله المتكلم كسارد عليم يشكّل القص من حوله، ينطلق في زمن السرد الآني إلى ما هو أبعد بحثا عن هوية ما، تعيد له اعتباره الشخصي/ الجماعي كفرد ينتمي لتاريخ ما له مكانته المجيدة، وهو ما شكّل بداية السرد الذاتي حول سؤال الهوية المكانية، لكونه يرى نفسه/ الحضري غير المندمج مع صبية منطقة سكنه التي ترعرع بها في صباه، ولعل تعجبه لم ينفصل عن سابقه من التساؤل والاستغراب في كيف يمكن أن يجمع المكان فردا لا ينتمي إليه اجتماعيا، خصوصا وأنه ليس كأي فرد يظن ظنون أبيه أنه من أصول مختلفة عن البقية الساكنين في نفس المكان، مما جعله يظن أن هذا الفخر الغائب/ المغيّب ساق كامن بدأ يبحث عن جذوره في حوارات مختلفة مع أبيه الذي يعيش بدوره تنوع هوية المكان: الأصل من جهة الجد، ميلاد الأب هناك، النزوح إلى هنا/ الكويت، فاكتسب صفة الفعل كاسم جديد (النازح) في المكان الأخير وهو ما أدخل السارد في حوارات داخلية، ختم قفلها المعتاد: «الولد سر أبيه».
تأتي المفارقة المكانية بعد ذلك في عام 90، حيث يعيش السارد محنة التمزق المكاني. ولعل معادلة الـ «هنا» والـ «هناك» تمثّل موضوعها في الحاضر الذي يفترض أن يُلغي الماضي، على اعتبار أن المكان الجديد يتطلب كل ما هو جديد.
وبعد وفاة الأب جاءت الفرصة المنتظرة، حيث مكّنت السارد في أن يشد حبل السرد الذاتي أكثر عبر أحداث غيّرت من نمطية تفكيره النازح لتدخل في علاقة جدلية أطرافها المدينة/ المكان، السارد/ الكائن، الكينونة/ الماضي، باشتراك العناصر السابقة وما يقابلها تتضح لنا معادلة المكان إلى الكائن وما كان. لينطلق السرد من نقطة وفاة الأب والبحث عن السر المتوارث، عبر أسئلة الذات عن الانتماء في هذا العبث المحيط به. إلا أن العبث يجده في بحثه الدائم عن أصوله وسؤاله الدائم عن المكان التي تنسب له مكانتهم هناك المختلفة حتما عن مكانتهم هنا. وهو ما جعله يتجه إلى حيث تقوده بوصلة العاطفة إلى هناك. إلا أن السرد يُدين الماضي:
«ألومك يا والدي، ألومك اليوم أكثر من قبل، كيف لم تكشف لي عنه؟ كيف طمست تاريخي ونسبتني للصحراء وأشجار العرفج؟ لماذا أورثتني القحط والعطش وألصقتني بالحر والغبار؟
وأنا كنت من استهجن رفضي للحالة، وأقول: كفى عبثا يا ولد، بلدك هذي... كن وطنيا ولو ليوم واحد».
أمام هذا العمل الروائي الأول والوحيد لمحمد هشام المغربي، استشعر كما نوعيا من الكتابة السردية ما يزال مخبأ/ منتظرا في جيب هذا الشاعر، فهلا يُلقي علينا جديده عن قريب؟
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
[email protected]