مذكرات السادات ... خلف أسوار السجن 6 / معاملة سيئة واستجوابات مستمرة ومحاولات للإيقاع به عن طريق عملاء للبوليس السياسي
«نار» الحاكم العسكري ... ولا «جنة» النيابة!








| القاهرة - «الراي» |
للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات جوانب خفية في شخصيته، ليست معروفة على نطاق واسع، تكشفها «مذكرات السادات في السجن»، والتي حصل على تفاصيلها الكاتب الصحافي المصري محمود صلاح، وكشف عن تفاصيلها لـ «الراي»، في حلقات تنشر متتالية، وهي في أربعينات القرن الماضي وقبيل قيام ثورة يوليو 1952، حيث تظهر أن السادات شكل أول تنظيم سري داخل الجيش المصري... وسعى أكثر من مرة لاتصال تنظيمه بالألمان وقت الحرب العالمية الثانية لإبلاغهم باستعداد هذا التنظيم للقتال ضد قوات الاحتلال الإنكليزي في مصر، في مقابل حصولها على الاستقلال بعد نهاية الحرب، ودبر محاولة لإخراج
الفريق عزيز المصري سرا من مصر، بالاتفاق مع الألمان، لمساندة ثورة رشيد الكيلاني ضد الإنكليز في العراق، ولم يتردد في مساعدة جاسوس ألماني، فعرف طريقه إلى السجن للمرة الأولى في حياته، وبعد خروجه أمضى فترة عصيبة من حياته.
بعد أن فقد وظيفته كضابط برتبة يوزباشي «نقيب»، ولم تثنه المعاناة عن طريق العمل السياسي السري لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، إلى أن دخل السجن مرة أخرى متهما مع آخرين بقتل وزير المالية الأسبق أمين عثمان، فيما اعتبر وقتها- أهم قضية سياسية في مصر.
حياة السجن والتشرد، أكسبت، بحسب كاتب المذكرات، شخصية السادات درجة من الصلابة والعزم، وقدرات خاصة على مقاومة السلطة الظالمة، وأتاحت له في بعض الأوقات عندما كانت إدارات السجون تخفف من قبضتها عليه - فرصة للتأمل والقراءة العميقة،
وأكسبته أيضا قدرة على التعامل مع الآخرين في المواقف العصيبة، وأعطته نوعا من التدريب العملي على الإصرار على تحقيق الهدف، والصبر والجلد في مواجهة الظروف غير المواتية حتى تحين اللحظة المناسبة.
وتكشف مذكراته في السجن أيضا عن تكتيك أصيل في ممارسة السادات السياسية - والتي ظهرت بوضوح في ما بعد عندما أصبح رئيسا لمصر- هو الجرأة الشديدة ومفاجأة الخصم بخطوة غير متوقعة... فها هو السادات في لحظة ما من سجنه يقرر الهروب ليبلغ الملك فاروق في قصر عابدين، والرأي العام في مصر كلها، برسالة احتجاج على الأوضاع في السجون، ثم يعود بمحض إرادته في اليوم التالي.
• لما طلب السادات تفسيراً من هيكمان عن سر بقائه في غرفة مظلمة شديدة الرطوبة طيلة اليوم لم يأته الرد
• «أنت بتمسك كام ساعة نوبتجية؟» ... سؤال كشف به السادات عن جاسوس عرَّف نفسه على أنه صحافي
• كثرة التحقيقات في المعتقل جعلت السادات يقول «نار الحاكم العسكري ولا جنة النيابة»
• كاد السادات يدلي باعترافاته في وجود محامٍ ولما رُفض طلبه بحجة سرية التحقيق... تراجع
• ليلى السجانة أحبت السجين رقم 19 فكانت تطلب له فسحة «أطول» كي تتمكن من مناجاته
• رائحة «الكباب» و«الكفتة» اخترقت أحشاء السادات فثار في وجه المأمور فأمر له بأكلة «شيمي»
• احتفل السادات بنقل اللورد كليرن بـ«دستة» جاتوه أكل منها 3 قطع «فاسدة» أصابته بتسمم
• كانت حيازة ورقة بيضاء في المعتقل جريمة يعاقب مرتكبها !
• آمن السادات في سجن الأجانب أن شر ما يصاب به إنسان ذو مثل عليا الانحطاط العقلي
القاهرة - من محمود صلاح :
تلخص يوميات السادات في الفترة من يناير حتى يونيو 1946 معاناته داخل السجن مع قائده الانكليزي «هيكمان»، وشكاواه الى النائب العام لتحسين معاملته، ويرصد محاولات الايقاع به عن طريق معتقل يدعي أنه «صحافي» ناقم على حكم الانكليز وأعوانهم، لكن السادات بذكائه الفطري يكتشف أنه أحد أعوان البوليس السياسي أو أحد «العملاء المغررين»، بالتعبير الفني، ثم محاولات الضغط عليه لاثبات صلته بعدد آخر من المعتقلين، من خلال استجواب النيابة له مرات عدة في وقت مبكر من صباحات أيام الشتاء شديدة البرودة، اضافة الى حرمانه لفترة من القراءة والكتابة، بدعوى تطبيق «لائحة السجون»، حتى أن السادات تذكر تحقيقات الحاكم العسكري بالخير مقارنة بتحقيقات النيابة، وأوشك أن يفقد توازنه ويشك في كثير من القيم.
ولا تخلو مذكرات السادات في السجن - كما الحياة نفسها - من أشياء طريفة، فها هو يرصد نشأة علاقة حب بين سجينة ومسجون، حتى انها طلبت من مأمور السجن فترة «فسحة» أطول ليمكنها من مناجاة حبيبها، ويسرد قصة احتفاله بخبر نقل السفير البريطاني الأسبق اللورد كيلرن من مصر، بأن طلب شراء «دستة» جاتوه من خارج السجن، وزعها على المساجين والسجانات، واحتفظ لنفسه بثلاث قطع، لكنه استيقظ في اليوم التالي على ألم شديد في المعدة، فقد كان الجاتوه فاسدا.
خلال فترة محاكمته في قضية اغتيال أمين عثمان، قضى اليوزباشي أنور السادات 913 يوما في السجن، كان يكتب خلالها مذكراته على شكل يوميات عن ظروف السجن والأحداث التي يعيشها والشخصيات الغريبة التي التقاها داخل السجن، وقد نشرتها في ما بعد مجلة «المصور» تحت عنوان «30 شهرا في السجن ـ صندوق الدنيا في محكمة الجنايات»!
كتب السادات في يومياته داخل السجن يقول:
21 يناير 1946:
يظهر أن خطابي للنائب العام أحدث أثرا، فقد أحضر لي مأمور السجن ملابسي، وكذا أحضر الصابون...
لا أريد أن أفكر فانني أشعر بأسئلة عديدة تؤرقني، ولا أجد لها جوابا فان «هيكمان» يتغير في كل لحظة كما يبدو لي بشكل جاف لا أدري له تعليلا.
الفسحة في السجن معدومة، وأكاد أقضي الأربع والعشرين ساعة في الغرفة، وهي مظلمة وشديدة الرطوبة لأنها في الدور الأول على سطح الأرض، ولما طلبت تفسير ذلك من هيكمان هز رأسه ولم يجب!
22 يناير 1946:
أصبحت الحالة لا تطاق ـ فلم يسمح لي الضابط النوبتجي اليوم بالتوجه الى دورة المياه في الصباح كالمعتاد وعبثا حاولت التفاهم معه، ولم ينقذ الموقف الا نزول هيكمان من منزله فسمح لي بأن أقضي حاجتي وأتوضأ!
وقد كتبت للنائب العام مرة ثانية أعلمه بهذه المعاملة الشاذة، فطلبني وكيل النيابة عند الظهر وأثبت شكواي، وخاصة في ما يختص بالسماح لي بالقراءة ولكنه، سامحه الله لم يسمح لي بشيء حتى ولا بالمصحف الشريف.
27 يناير 1946:
خرجت اليوم للفسحة فقابلني شاب أخبرني أنه صحافي معتقل على ذمة قضية صحافية، وأخذ يحدثني عن قضيته، ثم تدرج الى التحدث عن السياسة والانكليز، والذين يتعاونون معهم، وكيف أن الكفاح الحق يجب أن يتجه أولا الى القضاء على هذه الفئة من المصريين لأنها طابور خامس يكمن في ظهر البلد... الخ... وكنت طوال الوقت أقوم بدور المستمع، سكت «الصحافي» قليلا، وعاد يخبرني أن الغرفة التي أسكنها وهي رقم 6 كان يسكنها في وقت من الأوقات شفيق منصور الذي أعدم في قضية اغتيال السردار، وكيف تمكن البوليس والنيابة من أخذ الاعترافات منه، فقال انهم لم يكونوا يسمحون له بالنوم، ثم يأخذونه في ساعة الفجرية وهي ساعة «النومة الحلوة» في عربة حنطور، ويمشون بها على النيل ويأمرون شفيق منصور بالوقوف طوال الوقت، حتى اذا أخذته سنة النوم أيقظته أسنان سناكي المرافقين له، وبذلك وبطرق أخرى «لم يوضحها» تحطمت أعصاب المتهم وأدلى باعترافه...
وعاد الصحافي الى السكوت فترة أخرى، وهو ناظر اليّ في اشفاق، ثم قال لي انه علم من أحد العساكر السجانين أن الغرفة رقم 2 «وهي مقفلة دائما ويسدل خلف بابها ستار سميك بخلاف جميع غرف السجن»، تحوي سرا غريبا، وهو أن بها آلات وأجهزة تركب على الجهاز التنفسي للانسان وعلى رأسه ليصبح في غيبوبة، يدلي فيها بكل ما في قلبه من أسرار يحرص على اخفائها وهو في حالته الطبيعية! ولاحظ صاحبنا أنني لا أتكلم مطلقا واكتفى بأن أظهر له علامات عجبي من آن لآخر، فسألني لماذا لا أتكلم وأخبره بالحقيقة عله يتمكن من مساعدتي قانونيا، فقلت له بهدوء «أنت بتمسك كام ساعة نوبتجية؟»، فرد على الفور من دون تفكير: «12 ساعة»، ثم احمر وجهه وأدرك خطأه فقام في الحال وتركني... وحضر اليَّ السجان يعنفني لأنني تأخرت في الطابور ويأمرني بالذهاب الى غرفتي، فقمت وأنا أضحك في كمي.
30 يناير 1946:
حدث في الساعة الثالثة من صباح اليوم مشهد مسرحي رائع! فقد استيقظت في الساعة الثانية صباحا على صرير فتح القفل ودفع المزلاج بشدة للخلف ثم دخل الضابط الجزار، وطلب اليَّ أن ألبس لأنني مطلوب للتحقيق، فقمت من تحت البطاطين على السرير، لأنتظر ما يقرب من ساعة في جو هو الثلج تماما، ثم عاد الجزار، وقادني الى الطرقة الخارجية حيث وجدت ثلاثة شبان ينتفضون من شدة البرد مثلي، وكان أول أثر انطبع في ذهني عند رؤيتهم أنهم طلاب الابتدائي أو على الأكثر في أوائل الثانوي - وأُمرت أن أقف مع هؤلاء الأولاد ولكن بعيدا قليلا، بحيث وقف الجزار وتوفيق السعيد بيني وبينهم، وظللنا صامتين فترة ولدت في نفسي، بالاشتراك مع سكون الليل وبرد الساعة الشديد رهبة هي مزيد من الخوف والقلق الشديد... وأردت أن أحول فكري عن هذا القلق، فتوجهت بالحديث الى توفيق السعيد أسأله عن أخيه، وهو زميل لي بالجيش، ولكنه رد بخشونة طالبا اليَّ السكوت لأن «البك وكيل النيابة» في الطريق، فزادت هذه المعاملة من اضطرابي ومضت فترة قد تكون قصيرة، ولكن خيل اليَّ أنها أيام، ثم خرج الينا وكيل النيابة ونحن في موقفنا هذا، ورأيته أول ما رأيته يزيح ستارة الغرفة رقم 2 الخضراء، ويقف قليلا حيث انعكس عليه ضوء الغرفة، ثم تقدم الينا في خطوات ثقيلة وبدأ بالثلاثة الصغار فتفرس في وجوههم، ثم أتى اليّ فتفرس في وجهي، وفي لهجة عميقة سألنا: من منكم يعرف الآخر؟ فتعرف أحد الشبان الثلاثة على الاثنين الباقيين وهو ينتفض، ولم يتعرف عليّ أحد، ثم كرر هذا الأمر ثانية، مشيرا اليّ بشكل ذكرني «بأبي حجاج» وهو يمثل رجل الساعة في برنتانيا! ولكن لم يتعرف عليّ أحد، فأمر باعادتي الى غرفتي حيث لم أنم الى الصباح.
31 يناير 1946:
آمنت بالله... نار الحاكم العسكري، ولا جنة النيابة... تكرر المشهد التمثيلي نفسه في الساعات الأولى من صباح اليوم ولكن بثلاثة وجوه جديدة، بدأت أشعر بتعب وارتباك عصبي شديدين، لذلك أرسلت للنائب العام تلغرافا أستنجد به وأطلب مقابلته بحضور محامٍ.
2 فبراير 1946:
استدعاني اليوم وكيل النيابة ظهرا، وكان بيده التلغراف وحقق معي بشأنه، فرفضت الادلاء بسبب ارساله الا بحضور المحامي، سواء أمام النائب العام أو أمام المحقق، ولما أعلمني باستحالة ذلك لسرية التحقيق، أجلت الادلاء بما أريد الى فرصة أخرى.
4 فبراير 1946:
ليلى الهندية تحب السجين رقم 19، هذه هي العبارة التي يرددها السجن كله، قالتها لي سنية الفراشة والسجانة والعسكري السجان، بل أكثر من هذا تقدمت ليلى للمأمور بطلب اعطاء المسجون رقم 19 فسحة أطول لكي تتمتع بالتحدث اليه ومناجاته، وقد دفعني الفضول لرؤية هذا «الحبُّوب»، وبكل عناء تمكنت من أن أراه لمدة نصف دقيقة على الأكثر، فوجدته يستحق اعجاب ليلى فعلا، اذ كان شابا أشقر ذا أنف روماني وشعره أصفر، وتقاطيع متناسقة في رجولة، وقد علمت في ما بعد أنه يدعى محمد ابراهيم كامل.
5 فبراير 1946:
تحسنت معاملتي نسبيا، واتضح رسميا أن صاحبنا «الصحافي» اياه لم يكن سوى أحد أعوان البوليس السياسي، أو أحد «العملاء المغررين»، بالتعبير الفني، وكان يتحاشى مقابلتي عند خروجي للفسحة، وهي عشر دقائق طوال اليوم زيدت عشرا أخرى، وسمح لي بقراءة المقطم والأهرام.
8 فبراير 1946:
حدث أن خرجت من غرفتي الى دورة المياه اليوم ظهرا، فوجدت العسكري المراسلة يدخل الغرفة رقم 1 ومعه لفة «كباب وكفتة» اخترقت رائحتها أحشائي! ولما سألت قيل لي ان المتهم الأول في هذه الغرفة هو وستة آخرون، وأنهم يأكلون ما يشاؤون! مرت فترة ولم أدخل الغرفة الا عندما حضر المأمور ـ وكان قد تعين مأمور مصري في هذه الفترة ـ فتكلمت معه بغلظة هي رد فعل الجوع، كان من نتيجتها أن سمح لي بعد جهد بأكلة من «الشيمي» على حسابي، ولا أزال أحس بحلاوة هذه الأكلة الى الآن!
14 فبراير 1946:
ليس في الامكان أبدع مما كان... فقد استيقظت اليوم على صوت حنون يغني كليوباترا وآهاتها ـ انها «ليلى» في الغرفة المجاورة.
لقد امتزجت البراءة مع رقة الأنوثة في اخراج هذا النغم الساحر حتى خيل اليَّ أنه ليس صوت بشر، انني أعشق الموسيقى بكل جوارحي، وأكثر من ذلك فهي تضفي على هذا الجو الرهيب لونا خفيفا طليا من الجمال الذي يرتفع بالنفس على آفاق الروح فينسى الانسان الزمان والمكان والأشياء!
أستغفرك اللهم وأحمدك حتى ترضى.
17 فبراير 1946:
طلعت علينا جريدة «المقطم» وفيها خبر نقل (السفير البريطاني الأسبق - اللورد) «كيلرن» من مصر، ولما كنت أبغض هذا المخلوق الذي أدمى كرامة مصر كلها، فقد صممت على أن أحتفل بهذه المناسبة بقدر ما أتمكن، وأرسلت في شراء دستة جاتوه باسم المسجونة ليلى الهندية ووزعتها على ليلى والسجانات والسجان والفراشة واستبقيت لنفسي ثلاث قطع أحتفل بأكلها على فنجان شاي المساءـ وقد استمتعت بأكلها أيما استمتاع، خاصة وأن «المعازيم» تركوها لي لأنها من النوع الدسم المملوء بالكريمة!
وفي نحو الساعة الثانية صباحا استيقظت على مغص واسهال مروع، واتضح لي أن الجاتوه كان تالفا، وقد جيء به من دكان في شارع محمد علي!
انني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول الى حقد دفين منذ هذه الليلة!!
30 يونيو 1946:
لقد مضى عليَّ منذ نقلت الى هذا السجن أربعة أشهر كاملة، خلتها - لشدة ما اكتنفني خلالها من ظلام - أطول من أربعة أعوام!
ولطالما حاولت خلال تلك الفترة أن أسطر شيئا، لعلي أنفض بذلك عن صدري ما يخيم عليه من الكآبة والجمود، ولكن هيهات لي أن أجد القلم، فان الأقلام هنا محظور وجودها، وغرفتي وثيابي يفتشان بانتظام ودقة مرتين يوميا... وان وجد القلم فلا يوجد الورق، وحيازتي لورقة بيضاء جريمة أعاقب عليها! واذا أراد الله لي أن أجمع بين ورقة وقلم، وأحتفظ بهما بمنجاة من التفتيش انتظارا لليل، كنت بذلك أغالط نفسي، فالزنزانة التي تحتويني مصممة بحيث لا ينفذ اليها النور الا من كوة قرب السقف تسمح لضوء النهار فقط أن يغازل الغرفة، أما في الليل فيجب أن تقترن الوحدة بالظلام.
لا سبيل الى الكتابة اذاً، ولا سبيل أيضا الى القراءة، فقد منعت من استحضار كتب أو قراءة الصحف، وأصبحت ـ في القرن العشرين ـ أعيش عيشة حيوانية بحتة، في قفص من الحجر، طوله ثلاث خطوات وعرضه خطوتان، طيلة الأربع والعشرين ساعة، لا يقطعها الا صرير مفتاح الحارس عندما يفتح باب القفص ليقذف لي بالأكل، ثم يعيد القفل ثانية، وهكذا!
ولماذا؟! لأنه يراد أن أقضي تلك الفترة القلقة في سجن الأجانب على نحو من الفزع والرهبة، ثم تتلوها هذه الحقبة في سجن مصر في ظلمة واجداب ووحدة!
ان شر ما يصاب به انسان ذو مثل عليا هو الانحطاط العقلي، فالقراءة والاطلاع ألزم للفرد من الطعام في هذا العالم الذي اتصل قاصيه بدانيه، ولكنهم في النيابة - سامحهم الله - لا يؤمنون بذلك في ما يظهر، بدليل أنهم أمروا بأن يطبق علينا شيء كريه يسمى «لائحة السجون»، ذلك الأثر البربري من آثار الاحتلال البغيض!
ولقد حاولت جاهدا خلال هذه الفترة أن أحتفظ بشيء من معنوياتي بعد أن فقدت كل أمل في الانصاف والعدالة، بل لا أكون مغاليا اذا اعترفت لنفسي صراحة بأنني كدت أن أفقد توازني، وأن أشك في كثير من القيم!
ولكن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، فقد أراد لي ولبقية المتهمين في يوم من أيام شهر يونيو 1946 أن تزاح هذه الغمة عن صدورنا فصدر أمر باختلاطنا أثناء النهار، وركبت الكهرباء في الزنزانة فأضيئت ليلا، وسمح لي بقراءة الكتب والصحف، وبالأقلام والورق.
وهكذا بدأت الحياة تدب في نفوسنا من جديد، وبدأت أفيق من ذلك الكابوس الكريه، وكأنما أشرقت علينا الشمس بعد طول ظلام، وطــلع علينا أمل منعــــش بعد يأس مفجع، ولا غرو فهي حياة جديدة، حتــــى لو كــــانت داخل القــــضبان!.
للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات جوانب خفية في شخصيته، ليست معروفة على نطاق واسع، تكشفها «مذكرات السادات في السجن»، والتي حصل على تفاصيلها الكاتب الصحافي المصري محمود صلاح، وكشف عن تفاصيلها لـ «الراي»، في حلقات تنشر متتالية، وهي في أربعينات القرن الماضي وقبيل قيام ثورة يوليو 1952، حيث تظهر أن السادات شكل أول تنظيم سري داخل الجيش المصري... وسعى أكثر من مرة لاتصال تنظيمه بالألمان وقت الحرب العالمية الثانية لإبلاغهم باستعداد هذا التنظيم للقتال ضد قوات الاحتلال الإنكليزي في مصر، في مقابل حصولها على الاستقلال بعد نهاية الحرب، ودبر محاولة لإخراج
الفريق عزيز المصري سرا من مصر، بالاتفاق مع الألمان، لمساندة ثورة رشيد الكيلاني ضد الإنكليز في العراق، ولم يتردد في مساعدة جاسوس ألماني، فعرف طريقه إلى السجن للمرة الأولى في حياته، وبعد خروجه أمضى فترة عصيبة من حياته.
بعد أن فقد وظيفته كضابط برتبة يوزباشي «نقيب»، ولم تثنه المعاناة عن طريق العمل السياسي السري لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، إلى أن دخل السجن مرة أخرى متهما مع آخرين بقتل وزير المالية الأسبق أمين عثمان، فيما اعتبر وقتها- أهم قضية سياسية في مصر.
حياة السجن والتشرد، أكسبت، بحسب كاتب المذكرات، شخصية السادات درجة من الصلابة والعزم، وقدرات خاصة على مقاومة السلطة الظالمة، وأتاحت له في بعض الأوقات عندما كانت إدارات السجون تخفف من قبضتها عليه - فرصة للتأمل والقراءة العميقة،
وأكسبته أيضا قدرة على التعامل مع الآخرين في المواقف العصيبة، وأعطته نوعا من التدريب العملي على الإصرار على تحقيق الهدف، والصبر والجلد في مواجهة الظروف غير المواتية حتى تحين اللحظة المناسبة.
وتكشف مذكراته في السجن أيضا عن تكتيك أصيل في ممارسة السادات السياسية - والتي ظهرت بوضوح في ما بعد عندما أصبح رئيسا لمصر- هو الجرأة الشديدة ومفاجأة الخصم بخطوة غير متوقعة... فها هو السادات في لحظة ما من سجنه يقرر الهروب ليبلغ الملك فاروق في قصر عابدين، والرأي العام في مصر كلها، برسالة احتجاج على الأوضاع في السجون، ثم يعود بمحض إرادته في اليوم التالي.
• لما طلب السادات تفسيراً من هيكمان عن سر بقائه في غرفة مظلمة شديدة الرطوبة طيلة اليوم لم يأته الرد
• «أنت بتمسك كام ساعة نوبتجية؟» ... سؤال كشف به السادات عن جاسوس عرَّف نفسه على أنه صحافي
• كثرة التحقيقات في المعتقل جعلت السادات يقول «نار الحاكم العسكري ولا جنة النيابة»
• كاد السادات يدلي باعترافاته في وجود محامٍ ولما رُفض طلبه بحجة سرية التحقيق... تراجع
• ليلى السجانة أحبت السجين رقم 19 فكانت تطلب له فسحة «أطول» كي تتمكن من مناجاته
• رائحة «الكباب» و«الكفتة» اخترقت أحشاء السادات فثار في وجه المأمور فأمر له بأكلة «شيمي»
• احتفل السادات بنقل اللورد كليرن بـ«دستة» جاتوه أكل منها 3 قطع «فاسدة» أصابته بتسمم
• كانت حيازة ورقة بيضاء في المعتقل جريمة يعاقب مرتكبها !
• آمن السادات في سجن الأجانب أن شر ما يصاب به إنسان ذو مثل عليا الانحطاط العقلي
القاهرة - من محمود صلاح :
تلخص يوميات السادات في الفترة من يناير حتى يونيو 1946 معاناته داخل السجن مع قائده الانكليزي «هيكمان»، وشكاواه الى النائب العام لتحسين معاملته، ويرصد محاولات الايقاع به عن طريق معتقل يدعي أنه «صحافي» ناقم على حكم الانكليز وأعوانهم، لكن السادات بذكائه الفطري يكتشف أنه أحد أعوان البوليس السياسي أو أحد «العملاء المغررين»، بالتعبير الفني، ثم محاولات الضغط عليه لاثبات صلته بعدد آخر من المعتقلين، من خلال استجواب النيابة له مرات عدة في وقت مبكر من صباحات أيام الشتاء شديدة البرودة، اضافة الى حرمانه لفترة من القراءة والكتابة، بدعوى تطبيق «لائحة السجون»، حتى أن السادات تذكر تحقيقات الحاكم العسكري بالخير مقارنة بتحقيقات النيابة، وأوشك أن يفقد توازنه ويشك في كثير من القيم.
ولا تخلو مذكرات السادات في السجن - كما الحياة نفسها - من أشياء طريفة، فها هو يرصد نشأة علاقة حب بين سجينة ومسجون، حتى انها طلبت من مأمور السجن فترة «فسحة» أطول ليمكنها من مناجاة حبيبها، ويسرد قصة احتفاله بخبر نقل السفير البريطاني الأسبق اللورد كيلرن من مصر، بأن طلب شراء «دستة» جاتوه من خارج السجن، وزعها على المساجين والسجانات، واحتفظ لنفسه بثلاث قطع، لكنه استيقظ في اليوم التالي على ألم شديد في المعدة، فقد كان الجاتوه فاسدا.
خلال فترة محاكمته في قضية اغتيال أمين عثمان، قضى اليوزباشي أنور السادات 913 يوما في السجن، كان يكتب خلالها مذكراته على شكل يوميات عن ظروف السجن والأحداث التي يعيشها والشخصيات الغريبة التي التقاها داخل السجن، وقد نشرتها في ما بعد مجلة «المصور» تحت عنوان «30 شهرا في السجن ـ صندوق الدنيا في محكمة الجنايات»!
كتب السادات في يومياته داخل السجن يقول:
21 يناير 1946:
يظهر أن خطابي للنائب العام أحدث أثرا، فقد أحضر لي مأمور السجن ملابسي، وكذا أحضر الصابون...
لا أريد أن أفكر فانني أشعر بأسئلة عديدة تؤرقني، ولا أجد لها جوابا فان «هيكمان» يتغير في كل لحظة كما يبدو لي بشكل جاف لا أدري له تعليلا.
الفسحة في السجن معدومة، وأكاد أقضي الأربع والعشرين ساعة في الغرفة، وهي مظلمة وشديدة الرطوبة لأنها في الدور الأول على سطح الأرض، ولما طلبت تفسير ذلك من هيكمان هز رأسه ولم يجب!
22 يناير 1946:
أصبحت الحالة لا تطاق ـ فلم يسمح لي الضابط النوبتجي اليوم بالتوجه الى دورة المياه في الصباح كالمعتاد وعبثا حاولت التفاهم معه، ولم ينقذ الموقف الا نزول هيكمان من منزله فسمح لي بأن أقضي حاجتي وأتوضأ!
وقد كتبت للنائب العام مرة ثانية أعلمه بهذه المعاملة الشاذة، فطلبني وكيل النيابة عند الظهر وأثبت شكواي، وخاصة في ما يختص بالسماح لي بالقراءة ولكنه، سامحه الله لم يسمح لي بشيء حتى ولا بالمصحف الشريف.
27 يناير 1946:
خرجت اليوم للفسحة فقابلني شاب أخبرني أنه صحافي معتقل على ذمة قضية صحافية، وأخذ يحدثني عن قضيته، ثم تدرج الى التحدث عن السياسة والانكليز، والذين يتعاونون معهم، وكيف أن الكفاح الحق يجب أن يتجه أولا الى القضاء على هذه الفئة من المصريين لأنها طابور خامس يكمن في ظهر البلد... الخ... وكنت طوال الوقت أقوم بدور المستمع، سكت «الصحافي» قليلا، وعاد يخبرني أن الغرفة التي أسكنها وهي رقم 6 كان يسكنها في وقت من الأوقات شفيق منصور الذي أعدم في قضية اغتيال السردار، وكيف تمكن البوليس والنيابة من أخذ الاعترافات منه، فقال انهم لم يكونوا يسمحون له بالنوم، ثم يأخذونه في ساعة الفجرية وهي ساعة «النومة الحلوة» في عربة حنطور، ويمشون بها على النيل ويأمرون شفيق منصور بالوقوف طوال الوقت، حتى اذا أخذته سنة النوم أيقظته أسنان سناكي المرافقين له، وبذلك وبطرق أخرى «لم يوضحها» تحطمت أعصاب المتهم وأدلى باعترافه...
وعاد الصحافي الى السكوت فترة أخرى، وهو ناظر اليّ في اشفاق، ثم قال لي انه علم من أحد العساكر السجانين أن الغرفة رقم 2 «وهي مقفلة دائما ويسدل خلف بابها ستار سميك بخلاف جميع غرف السجن»، تحوي سرا غريبا، وهو أن بها آلات وأجهزة تركب على الجهاز التنفسي للانسان وعلى رأسه ليصبح في غيبوبة، يدلي فيها بكل ما في قلبه من أسرار يحرص على اخفائها وهو في حالته الطبيعية! ولاحظ صاحبنا أنني لا أتكلم مطلقا واكتفى بأن أظهر له علامات عجبي من آن لآخر، فسألني لماذا لا أتكلم وأخبره بالحقيقة عله يتمكن من مساعدتي قانونيا، فقلت له بهدوء «أنت بتمسك كام ساعة نوبتجية؟»، فرد على الفور من دون تفكير: «12 ساعة»، ثم احمر وجهه وأدرك خطأه فقام في الحال وتركني... وحضر اليَّ السجان يعنفني لأنني تأخرت في الطابور ويأمرني بالذهاب الى غرفتي، فقمت وأنا أضحك في كمي.
30 يناير 1946:
حدث في الساعة الثالثة من صباح اليوم مشهد مسرحي رائع! فقد استيقظت في الساعة الثانية صباحا على صرير فتح القفل ودفع المزلاج بشدة للخلف ثم دخل الضابط الجزار، وطلب اليَّ أن ألبس لأنني مطلوب للتحقيق، فقمت من تحت البطاطين على السرير، لأنتظر ما يقرب من ساعة في جو هو الثلج تماما، ثم عاد الجزار، وقادني الى الطرقة الخارجية حيث وجدت ثلاثة شبان ينتفضون من شدة البرد مثلي، وكان أول أثر انطبع في ذهني عند رؤيتهم أنهم طلاب الابتدائي أو على الأكثر في أوائل الثانوي - وأُمرت أن أقف مع هؤلاء الأولاد ولكن بعيدا قليلا، بحيث وقف الجزار وتوفيق السعيد بيني وبينهم، وظللنا صامتين فترة ولدت في نفسي، بالاشتراك مع سكون الليل وبرد الساعة الشديد رهبة هي مزيد من الخوف والقلق الشديد... وأردت أن أحول فكري عن هذا القلق، فتوجهت بالحديث الى توفيق السعيد أسأله عن أخيه، وهو زميل لي بالجيش، ولكنه رد بخشونة طالبا اليَّ السكوت لأن «البك وكيل النيابة» في الطريق، فزادت هذه المعاملة من اضطرابي ومضت فترة قد تكون قصيرة، ولكن خيل اليَّ أنها أيام، ثم خرج الينا وكيل النيابة ونحن في موقفنا هذا، ورأيته أول ما رأيته يزيح ستارة الغرفة رقم 2 الخضراء، ويقف قليلا حيث انعكس عليه ضوء الغرفة، ثم تقدم الينا في خطوات ثقيلة وبدأ بالثلاثة الصغار فتفرس في وجوههم، ثم أتى اليّ فتفرس في وجهي، وفي لهجة عميقة سألنا: من منكم يعرف الآخر؟ فتعرف أحد الشبان الثلاثة على الاثنين الباقيين وهو ينتفض، ولم يتعرف عليّ أحد، ثم كرر هذا الأمر ثانية، مشيرا اليّ بشكل ذكرني «بأبي حجاج» وهو يمثل رجل الساعة في برنتانيا! ولكن لم يتعرف عليّ أحد، فأمر باعادتي الى غرفتي حيث لم أنم الى الصباح.
31 يناير 1946:
آمنت بالله... نار الحاكم العسكري، ولا جنة النيابة... تكرر المشهد التمثيلي نفسه في الساعات الأولى من صباح اليوم ولكن بثلاثة وجوه جديدة، بدأت أشعر بتعب وارتباك عصبي شديدين، لذلك أرسلت للنائب العام تلغرافا أستنجد به وأطلب مقابلته بحضور محامٍ.
2 فبراير 1946:
استدعاني اليوم وكيل النيابة ظهرا، وكان بيده التلغراف وحقق معي بشأنه، فرفضت الادلاء بسبب ارساله الا بحضور المحامي، سواء أمام النائب العام أو أمام المحقق، ولما أعلمني باستحالة ذلك لسرية التحقيق، أجلت الادلاء بما أريد الى فرصة أخرى.
4 فبراير 1946:
ليلى الهندية تحب السجين رقم 19، هذه هي العبارة التي يرددها السجن كله، قالتها لي سنية الفراشة والسجانة والعسكري السجان، بل أكثر من هذا تقدمت ليلى للمأمور بطلب اعطاء المسجون رقم 19 فسحة أطول لكي تتمتع بالتحدث اليه ومناجاته، وقد دفعني الفضول لرؤية هذا «الحبُّوب»، وبكل عناء تمكنت من أن أراه لمدة نصف دقيقة على الأكثر، فوجدته يستحق اعجاب ليلى فعلا، اذ كان شابا أشقر ذا أنف روماني وشعره أصفر، وتقاطيع متناسقة في رجولة، وقد علمت في ما بعد أنه يدعى محمد ابراهيم كامل.
5 فبراير 1946:
تحسنت معاملتي نسبيا، واتضح رسميا أن صاحبنا «الصحافي» اياه لم يكن سوى أحد أعوان البوليس السياسي، أو أحد «العملاء المغررين»، بالتعبير الفني، وكان يتحاشى مقابلتي عند خروجي للفسحة، وهي عشر دقائق طوال اليوم زيدت عشرا أخرى، وسمح لي بقراءة المقطم والأهرام.
8 فبراير 1946:
حدث أن خرجت من غرفتي الى دورة المياه اليوم ظهرا، فوجدت العسكري المراسلة يدخل الغرفة رقم 1 ومعه لفة «كباب وكفتة» اخترقت رائحتها أحشائي! ولما سألت قيل لي ان المتهم الأول في هذه الغرفة هو وستة آخرون، وأنهم يأكلون ما يشاؤون! مرت فترة ولم أدخل الغرفة الا عندما حضر المأمور ـ وكان قد تعين مأمور مصري في هذه الفترة ـ فتكلمت معه بغلظة هي رد فعل الجوع، كان من نتيجتها أن سمح لي بعد جهد بأكلة من «الشيمي» على حسابي، ولا أزال أحس بحلاوة هذه الأكلة الى الآن!
14 فبراير 1946:
ليس في الامكان أبدع مما كان... فقد استيقظت اليوم على صوت حنون يغني كليوباترا وآهاتها ـ انها «ليلى» في الغرفة المجاورة.
لقد امتزجت البراءة مع رقة الأنوثة في اخراج هذا النغم الساحر حتى خيل اليَّ أنه ليس صوت بشر، انني أعشق الموسيقى بكل جوارحي، وأكثر من ذلك فهي تضفي على هذا الجو الرهيب لونا خفيفا طليا من الجمال الذي يرتفع بالنفس على آفاق الروح فينسى الانسان الزمان والمكان والأشياء!
أستغفرك اللهم وأحمدك حتى ترضى.
17 فبراير 1946:
طلعت علينا جريدة «المقطم» وفيها خبر نقل (السفير البريطاني الأسبق - اللورد) «كيلرن» من مصر، ولما كنت أبغض هذا المخلوق الذي أدمى كرامة مصر كلها، فقد صممت على أن أحتفل بهذه المناسبة بقدر ما أتمكن، وأرسلت في شراء دستة جاتوه باسم المسجونة ليلى الهندية ووزعتها على ليلى والسجانات والسجان والفراشة واستبقيت لنفسي ثلاث قطع أحتفل بأكلها على فنجان شاي المساءـ وقد استمتعت بأكلها أيما استمتاع، خاصة وأن «المعازيم» تركوها لي لأنها من النوع الدسم المملوء بالكريمة!
وفي نحو الساعة الثانية صباحا استيقظت على مغص واسهال مروع، واتضح لي أن الجاتوه كان تالفا، وقد جيء به من دكان في شارع محمد علي!
انني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول الى حقد دفين منذ هذه الليلة!!
30 يونيو 1946:
لقد مضى عليَّ منذ نقلت الى هذا السجن أربعة أشهر كاملة، خلتها - لشدة ما اكتنفني خلالها من ظلام - أطول من أربعة أعوام!
ولطالما حاولت خلال تلك الفترة أن أسطر شيئا، لعلي أنفض بذلك عن صدري ما يخيم عليه من الكآبة والجمود، ولكن هيهات لي أن أجد القلم، فان الأقلام هنا محظور وجودها، وغرفتي وثيابي يفتشان بانتظام ودقة مرتين يوميا... وان وجد القلم فلا يوجد الورق، وحيازتي لورقة بيضاء جريمة أعاقب عليها! واذا أراد الله لي أن أجمع بين ورقة وقلم، وأحتفظ بهما بمنجاة من التفتيش انتظارا لليل، كنت بذلك أغالط نفسي، فالزنزانة التي تحتويني مصممة بحيث لا ينفذ اليها النور الا من كوة قرب السقف تسمح لضوء النهار فقط أن يغازل الغرفة، أما في الليل فيجب أن تقترن الوحدة بالظلام.
لا سبيل الى الكتابة اذاً، ولا سبيل أيضا الى القراءة، فقد منعت من استحضار كتب أو قراءة الصحف، وأصبحت ـ في القرن العشرين ـ أعيش عيشة حيوانية بحتة، في قفص من الحجر، طوله ثلاث خطوات وعرضه خطوتان، طيلة الأربع والعشرين ساعة، لا يقطعها الا صرير مفتاح الحارس عندما يفتح باب القفص ليقذف لي بالأكل، ثم يعيد القفل ثانية، وهكذا!
ولماذا؟! لأنه يراد أن أقضي تلك الفترة القلقة في سجن الأجانب على نحو من الفزع والرهبة، ثم تتلوها هذه الحقبة في سجن مصر في ظلمة واجداب ووحدة!
ان شر ما يصاب به انسان ذو مثل عليا هو الانحطاط العقلي، فالقراءة والاطلاع ألزم للفرد من الطعام في هذا العالم الذي اتصل قاصيه بدانيه، ولكنهم في النيابة - سامحهم الله - لا يؤمنون بذلك في ما يظهر، بدليل أنهم أمروا بأن يطبق علينا شيء كريه يسمى «لائحة السجون»، ذلك الأثر البربري من آثار الاحتلال البغيض!
ولقد حاولت جاهدا خلال هذه الفترة أن أحتفظ بشيء من معنوياتي بعد أن فقدت كل أمل في الانصاف والعدالة، بل لا أكون مغاليا اذا اعترفت لنفسي صراحة بأنني كدت أن أفقد توازني، وأن أشك في كثير من القيم!
ولكن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، فقد أراد لي ولبقية المتهمين في يوم من أيام شهر يونيو 1946 أن تزاح هذه الغمة عن صدورنا فصدر أمر باختلاطنا أثناء النهار، وركبت الكهرباء في الزنزانة فأضيئت ليلا، وسمح لي بقراءة الكتب والصحف، وبالأقلام والورق.
وهكذا بدأت الحياة تدب في نفوسنا من جديد، وبدأت أفيق من ذلك الكابوس الكريه، وكأنما أشرقت علينا الشمس بعد طول ظلام، وطــلع علينا أمل منعــــش بعد يأس مفجع، ولا غرو فهي حياة جديدة، حتــــى لو كــــانت داخل القــــضبان!.