مذكرات السادات ... خلف أسوار السجن 1 / الضابط المشاكس تعاون مع الألمان ليبعد بريطانيا عن بلاده

أول تنظيم سرّي في الجيش المصري

تصغير
تكبير
| القاهرة - «الراي» |

للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات جوانب خفية في شخصيته، ليست معروفة على نطاق واسع، تكشفها «مذكرات السادات في السجن»، والتي حصل على تفاصيلها** الكاتب الصحافي المصري محمود صلاح، وكشف عن تفاصيلها لـ «الراي»، في حلقات تنشر متتالية، وهي في أربعينات القرن الماضي وقبيل قيام ثورة يوليو 1952، حيث تظهر أن السادات شكل أول تنظيم سري داخل الجيش المصري... وسعى أكثر من مرة لاتصال تنظيمه بالألمان وقت الحرب العالمية الثانية لإبلاغهم باستعداد هذا التنظيم للقتال ضد قوات الاحتلال الإنكليزي في مصر، في مقابل حصولها على الاستقلال بعد نهاية الحرب، ودبر محاولة لإخراج

الفريق عزيز المصري سرا من مصر، بالاتفاق مع الألمان، لمساندة ثورة رشيد الكيلاني ضد الإنكليز في العراق، ولم يتردد في مساعدة جاسوس ألماني، فعرف طريقه إلى السجن للمرة الأولى في حياته، وبعد خروجه أمضى فترة عصيبة من حياته.

بعد أن فقد وظيفته كضابط برتبة يوزباشي «نقيب»، ولم تثنه المعاناة عن طريق العمل السياسي السري لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، إلى أن دخل السجن مرة أخرى متهما مع آخرين بقتل وزير المالية الأسبق أمين عثمان، فيما اعتبر وقتها- أهم قضية سياسية في مصر.

حياة السجن والتشرد، أكسبت، بحسب كاتب المذكرات، شخصية السادات درجة من الصلابة والعزم، وقدرات خاصة على مقاومة السلطة الظالمة، وأتاحت له في بعض الأوقات عندما كانت إدارات السجون تخفف من قبضتها عليه - فرصة للتأمل والقراءة العميقة،

وأكسبته أيضا قدرة على التعامل مع الآخرين في المواقف العصيبة، وأعطته نوعا من التدريب العملي على الإصرار على تحقيق الهدف، والصبر والجلد في مواجهة الظروف غير المواتية حتى تحين اللحظة المناسبة.

وتكشف مذكراته في السجن أيضا عن تكتيك أصيل في ممارسة السادات السياسية - والتي ظهرت بوضوح في ما بعد عندما أصبح رئيسا لمصر- هو الجرأة الشديدة ومفاجأة الخصم بخطوة غير متوقعة... فها هو السادات في لحظة ما من سجنه يقرر الهروب ليبلغ الملك فاروق في قصر عابدين، والرأي العام في مصر كلها، برسالة احتجاج على الأوضاع في السجون، ثم يعود بمحض إرادته في اليوم التالي. |القاهرة - من محمود صلاح|

«كراهية السادات للاحتلال البريطاني لمصر كانت دافعه الأول نحو العمل السري.. فشارك في تأسيس أول تنظيم سري داخل الجيش، ووضع خطة أولية لتهريب القائد العسكري الأسطوري الفريق عزيز المصري إلى العراق ليساعد ثورة رشيد غالي الكيلاني ضد الإنكليز في العراق بناء على اتفاق مع الألمان، لكنها لم تنجح، فأسند لأحد رفاقه تدبير خطة بديلة، ورغم انكشاف الأمر كله، والقبض على السادات والتحقيق معه لم يتوقف عن نشاطه ومحاولات اتصاله بالألمان للتعاون معهم ضد الإنكليز من أجل استقلال مصر.. ولم يتردد في معاونة جاسوس ألماني على اصلاح جهاز اللاسلكي الخاص به، وعندما كشفت المخابرات البريطانية أمر الجاسوس الألماني وجد كل من تعاون معه ومن بينهم السادات طريقه إلى السجن».

لم يدخل الرئيس الراحل أنور السادات السجن أو المعتقل مرة واحدة.. بل مرتين، وعرف طريقه إلى الزنزانة لسبب وحيد.. هو الوطنية وحب مصر، وكانت أول قضية انتهت به إلى المعتقل هي قضية الراقصة «حكمت فهمي» والجاسوس الألماني «ابلر».

دارت أحداث تلك القضية في الأربعينات من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1942 وقت أن تحولت أكثر من نصف الكرة الأرضية ساحة مباشرة وغير مباشرة لأحداث الحرب العالمية الثانية التي أشعلت النيران بين أقوياء العالم.. هتلر ودول المحور التابعة له من ناحية، والحلفاء على الناحية الأخرى، وفي مقدمتهم بريطانيا العظمى، والتي كانت تحتل مصر في ذلك الوقت.

كان أنور السادات ضابط اشارة في الجيش المصري يكره الاحتلال الإنكليزي، ويحلم بخروج المحتل من وطنه، ومن البداية اتجه الضابط الشاب الثائر ناحية القوى الوطنية التي كان يعتقد أنها تحارب الإنكليز، وكان يحلم ويعمل من أجل ثورة مسلحة يقوم بها الوطنيون والشرفاء من ضباط الجيش، وأنشأ بالفعل أول تنظيم سري من الضباط في الجيش المصري، وكان هذا التنظيم يضم عبداللطيف البغدادي وحسن ابراهيم وخالد محيي الدين وأحمد سعودي وحسن عزت وأحمد اسماعيل.

وفي تلك الأيام كان أنور السادات مفتونا بشخصية عزيز المصري الأسطورية، وكان عزيز المصري يجاهر بكراهيته للإنكليز، حتى ان سير «مايلز لامبسون» السفير البريطاني في مصر طلب ابعاده من الجيش، وشجعه عزيز المصري وطلب منه ومن زملائه توخي الحذر.

وفي ذلك الوقت، كانت جيوش هتلر قد اجتاحت أوروبا وبدأت تلحق بالحلفاء خسائر كبيرة، وبدا أن بريطانيا العظمى لن تستطيع الصمود أمام زحف قوات هتلر، وكان الجيش المصري يشترك مع القوات البريطانية التي تحتل مصر في الدفاع عن الصحراء الغربية ضد قوات المحور.

ولم يكن هناك وطني في مصر راض عن اشتراك مصر في الحرب لحساب بريطانيا التي تحتل مصر، حتى ان الشيخ محمد مصطفى المراغي - شيخ الأزهر - أعلنها صراحة قائلا «لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب»!

وفي تلك الأيام تم القبض لأول مرة على الضابط الشاب أنور السادات، والذي كان قد تم نقله للعمل كضابط اشارة في المدفعية في مرسي مطروح.

وتفجرت أزمة عندما أغضب رئيس الوزراء علي ماهر الإنكليز عندما قال في البرلمان «ان سياسة مصر هي تجنب ويلات الحرب».

غضب الإنكليز وطلبوا من الجيش المصري الانسحاب من مواقعه، وأن يسلم الضباط المصريون أسلحتهم قبل انسحابهم، لكن أنور السادات بدأ يحرض الضباط ويثير مشاعرهم ضد مسألة تسليم سلاحهم، وتمكن من اقناع الضباط برفض تسليم السلاح، وفي النهاية اضطرت ادارة الجيش لأن تأمر الضباط بالانسحاب مع الاحتفاظ بأسلحتهم!

وذات يوم.. طلب عزيز المصري من أنور السادات أن يقابله في محل جروبي، وفي هذا اللقاء أخبره أن الألمان طلبوا منه أن يسافر ليساعد رشيد غالي الكيلاني في ثورته ضد الإنكليز في العراق، وطلب عزيز المصري من أنور السادات أن يساعده على الهروب سرا من مصر، وأخبره أن الألمان بعثوا له برسالة يقولون له فيها: ان طائرة ألمانية سوف تكون في انتظاره عند جبل «رزة» بالقرب من صحراء الفيوم، ولم يتردد أنور السادات الضابط الوطني الذي يكره الإنكليز في وضع وتنفيذ خطة هروب عزيز المصري سرا من مصر، واشترى بالفعل سيارة طراز «بيك أب» تصلح للسير في الصحراء، لينقل فيها عزيز المصري إلى مكان الطائرة الألمانية التي سيهرب بواسطتها خارج مصر.

لكن المخابرات اكتشفت أن السادات اشترى السيارة، وكانوا يعلمون باتصالاته السابقة مع عزيز المصري، فصدرت أوامر بنقله إلى منطقة «الجراولة» بمرسى مطروح.

ولم يجد أنور السادات أمامه سوى أن يطلب من رفيقه في الجهاز ضد الإنكليز الضابط الطيار عبدالمنعم عبد الرؤوف مسألة تدبير هروب عزيز المصري.

وبالفعل قام عبدالمنعم عبدالرؤوف وزميله حسين صبري ذو الفقار بالاستيلاء على طائرة حربية، وضعا فيها الفريق عزيز المصري، وقررا الاقلاع بها إلى بيروت، لكن ما ان أقلعت الطائرة حتى اكتشف حسين صبري ذوالفقار نفاد الزيت، واضطر للهبوط بها فوق شجرة بالقرب من مدينة بنها!، واهتزت مصر كلها لمحاولة هروب عزيز المصري..

وتحرك البوليس السياسي في كل اتجاه، وتم القبض على أنور السادات، واقتيد من مكان عمله في منطقة «الجراولة» إلى القاهرة تحت الحراسة، وذهبوا به مباشرة إلى مكتب ابراهيم عطا الله باشا رئيس أركان الجيش المصري وبدأت النيابة التحقيق معه، ولم ينف السادات أنه كان على صلة بعزيز المصري، لكن النيابة في النهاية أفرجت عنه!

ولم تردعه عملية القبض والتحقيق ثم الافراج عن مواصلة نشاطه السياسي السري، وكانت الأحداث قد بدأت تزداد سخونة، فقد سقطت العلمين في يد القائد الأعلى الألماني روميل، وأصبح على بوابة مصر الغربية.

وكان شعور المصريين المعادي للإنكليز يتصاعد يوما بعد يوم، وبدأ أنور السادات يحرض زملاءه لكي يرسلوا ضابطا مصريا إلى روميل في العلمين، ليخبره بأمر التنظيم السري لضباط الجيش المصريين، وأنهم على استعداد للمشاركة في الحرب إلى جانبه ضد الإنكليز، مقابل أن تنال مصر استقلالها التام بعد هزيمة الإنكليز!

وهذا ما حدث بالفعل وأقلع الطيار أحمد سعودي برسالة تحمل هذا المعنى على طائرة حسن ابراهيم الحربية، وكانت طائرة بريطانية من طراز «جرادياتور»، فظن الألمان أنها طائرة بريطانية جاءت للهجوم على مواقعهم. فأطلقوا النيران عليها فوق العلمين، فانفجرت واستشهد الطيار أحمد سعودي!

وفي أحد الأيام...

دخل حسن عزت على أنور السادات، وقال له «عندي لك مفاجأة... ان ضابطين في الجيش الألماني يطلبان منك المساعدة!

وفرح السادات بهذا الخبر، فهو يريد أن يحارب الإنكليز حتى لو عن طريق مساعدة الألمان.

وفي هذا اليوم بدأت قصة أو مغامرة أنور السادات مع أغرب حكاية جاسوسية، أبطالها ضابطان ألمانيان وراقصة مصرية!

أما الراقصة فقد كانت حكمت فهمي أشهر راقصة مصرية في تلك الأيام، وكانت منذ طفولتها تكره الإنكليز وتتمنى الانتقام منهم بأي طريقة.

وكانت شهرة حكمت فهمي قد بدأت عندما عملت في كازينو «بديعة مصابني» في ميدان ابراهيم باشا، بجوار فندق «الكونتينينتال»، الذي كان مقرا للقيادة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو مقر «الراي» في القاهرة حاليا، وكان «كازينو بديعة» نفسه ملتقى للضباط البريطانيين الذين كانوا يقضون سهراتهم في هذا الكازينو، وفي الملاهي التي كانت منتشرة في منطقة الكيت كات.

ولم تكن حكمت فهمي مجرد راقصة جميلة، بل كانت أيضا فنانة عملت بالتمثيل مع فرق مسرحية شهيرة مثل فرقة علي الكسار وفرقة جورج أبيض وفرقة فاطمة رشدي، وقامت في السينما ببطولة فيلم «المتشردة»!

كانت رائعة الجمال، حتى ان الشاعر أحمد رامي كتب فيها ربع ديوانه الأول، وأيامها كان لكل راقصة لقب، وكان لقبها «سلطانة الغرام»، وكان أحمد رامي نفسه هو الذي أطلق عليها هذا اللقب!

وطارت شهرة حكمت فهمي من مصر إلى العالم، وأصبحت تسافر للرقص في أشهر الملاهي العالمية، وسافرت إلى ألمانيا ورقصت أمام هتلر ووزير دعايته جوبلز.

وذات يوم وبينما كانت ترقص في أحد ملاهي «فيينا» تعرفت على شاب وسيم ربطت بينهما قصة حب سريعة.

ولم تعلم حكمت فهمي أن هذا الشاب الذي أحبته هو حسين جعفر صاحب الأصول المصرية- هو في الحقيقة ألماني وضابط في المخابرات الألمانية، وفيما بعد أطلقت المخابرات الألمانية عملية أسمتها عملية «كوندور» كان هدفها زرع جاسوس ألماني في القاهرة لمساعدة القائد الألماني «روميل» بالمعلومات عن البريطانيين، في معركته الحاسمة المنتظرة ضد جيوش الحلفاء في شمال أفريقيا عند العلمين.

وتمكن ضابط المخابرات الألماني حسين جعفر - أو «ابلر» حسب اسمه الألماني- من التسلل عبر الصحراء إلى القاهرة، مع زميل له يدعى «مونكاستر»، وكانا يحملان كل معدات التجسس.

وأسرع الجاسوس الألماني «ابلر» بالاتصال بالراقصة حكمت فهمي، وصارحها بمهمته السرية، ووجدتها حكمت فهمي فرصة لعمل شيء ضد الإنكليز الذين تكرههم، فساعدت الجاسوس الألماني وزميله على السكن في عوامة على النيل بجوار عوامتها، وبدأت تمده بالأسرار والمعلومات الخطيرة التي كانت تحصل عليها خلال سهراتها مع المعجبين بها من القادة البريطانيين وهم سكارى.

لكن مفاجأة لم تكن في الحسبان وقعت عندما تعطل جهاز اللاسلكي الذي يبعث به الجاسوس الألماني رسائله إلى قيادة روميل، وطلب الجاسوس «ابلر» من حكمت فهمي أن تساعده، فوعدته بحل مشكلة اللاسلكي المعطل عن طريق ضابط مصري ثائر يكره الإنكليز، وكان هذا الضابط هو أنور السادات نفسه!

ووافق أنور السادات على الذهاب إلى عوامة الجاسوس الألماني «ابلر» وأصلاح جهاز اللاسلكي المعطل، وعندما دخل السادات العوامة سأل عن جهاز اللاسلكي فضحك الجاسوس «ابلر»، وقال له: تستطيع أن تجده... اذا عثرت عليه بنفسك!

وبدأ أنور السادات يبحث عن جهاز اللاسلكي ويطوف في حجرات العوامة التي لم يجد بها سوى وسائل الراحة والرفاهية، وصناديق الويسكي وكؤوس الشراب!

وأخيرا كشف له الجاسوس «ابلر» عن المخبأ السري لجهاز اللاسلكي، وكان داخل جهاز «بيك أب» موسيقي، بطريقة لا يمكن لأحد اكتشافها، وفحص أنور السادات الجهاز ووجده معطلا بالفعل، لكن الجاسوس «ابلر» قدم له جهاز لاسلكي آخر أميركي، وقال له انه جهاز قوي لكنه لا يعرف كيفية تشغيله، واكتشف السادات أن الجهاز ليست له مفاتيح، فاقترح على «ابلر» أن يشغله بمفاتيح مصرية الصنع يقوم هو نفسه بتركيبها.

ووافق الجاسوس الألماني على اقتراح السادات الذي حمل الجهاز في حقيبته، وتوجه به إلى بيته في كوبري القبة، لكن ما هي الا أيام حتى انكشف أمر الجاسوس الألماني عندما سهر في احدى الليالي، ودفع الثمن جنيهات إنكليزية مزيفة كان يحملها معه ثمنا للويسكي الذي شربه!

وتمكن رجال المخابرات البريطانية من دس فتاة ليل حسناء يهودية على الجاسوس الألماني الذي دعاها لقضاء سهرة في عوامته، وعادت اليهودية الحسناء لتؤكد لرجال المخابرات البريطانية أن الرجل لابد أنه جاسوس ألماني بالفعل!

وهكذا تم القبض على الجاسوس الألماني وزميله في العوامة، كما تم القبض على الراقصة حكمت فهمي، وبدأ رجال المخابرات البريطانية التحقيق معها، بتهمة الحصول على معلومات سرية من القادة البريطانيين وتسليمها للجاسوس الألماني!

وتم نقل الجاسوس «ابلر» وزميله والراقصة حكمت فهمي إلى سجن الأجانب.

وكان لابد لرجال المخابرات الإنكليزية أن يلقوا القبض على الضابط الثائر أنور السادات، عندما علموا أنه تعرف على الجاسوس الألماني، وتطوع لاصلاح جهاز اللاسلكي.

وطلب الإنكليز من السلطات المصرية القبض على أنور السادات، وهو ما حدث بالفعل، حيث تم القبض عليه في بيت والده في حدائق القبة.

وكانت هذه أول مرة يدخل فيها السادات السجن.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي