معالم «الشرق الأوسط الجديد»... في تقرير «كارنيغي» / الحلقة الخامسة

تصغير
تكبير

الشرق حلم الباحثين الغربيين، فلياليه، في بعض آدابهم، سمر تحت أضواء النجوم ونهاراته حياة ممزوجة بالكد في برد الشتاء وقيظ الصيف، هذا هو الشرق القديم الذي حاول الساسة والكتاب الماضون توصيفه من بعيد. أما الجديد فلهيب لا يطفئه ماء واستعار لا يستكين إلى تهدئة، هكذا تبدو صراعاته التي لها بداية وليس لها نهاية.

يُقال إن أول من أطلق اسم «الشرق الأوسط» كان ضابط البحرية الأميركي ألفرد ماهان في بواكير القرن الماضي. هذا الاسم الذي نظّر فيه أخيراً الكثيرون من السياسيين والباحثين الذي حاولوا صياغة رؤية جديدة لخارطته التي تشكلت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى (سايكس ـ بيكو). الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كانت له رؤيته للشرق الأوسط الجديد من منظور حل الصراع العربي - الإسرائيلي، أما الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش فرؤيته من منظور نشر الديموقراطية.

ولعل أكثر ما عزز الحديث عن ولادة الشرق الأوسط الجديد ما تحدثت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إبان حرب يوليو 2006 بين إسرائيل و«حزب الله» عن أن المنطقة تشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد.

ورغم حديث رايس إلا أن وقف العمليات العدائية بعد القرار 1701، وضمور واشنطن عن نشر الديموقراطية في المنطقة، خوفاً من صعود الإسلاميين، أخمد الحديث عن خارطة الشرق الأوسط الجديد لدى صناع القرار. بيد أن ذلك لم يمنع أن يكون الشرق الأوسط الجديد مادة يتناولها الدارسون في أرقى المراكز البحثية، خصوصاً أن جملة تحديات تفرضها أحداث المنطقة قد تعيد تشكيل خارطتها.

«الشرق الأوسط الجديد» آخر تقارير، أو دراسات، «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، أعده مجموعة من كبار الباحثين، هم مارينا أوتاواي، ناثان ج. براون، عمرو حمزاوي، كريم سجدبور، وبول سالم.

التقرير يشير إلى أن الخطوة الأولى نحو صوغ سياسة جديدة في فهم حقائق الشرق الأوسط الجديد، تكمن في ملاحظة مجموعات، أو ساحات، الدول الثلاث المؤلفة من الساحة العراقية - الإيرانية، والساحة اللبنانية - السورية، والساحة الفلسطينية - الإسرائيلية، ومعها قضايا ثلاث حساسة ومتداخلة تتمثل بالانتشار النووي، المذهبية، وتحدي الإصلاح السياسي. وهذه الساحات والقضايا تحدد مجتمعة معالم الشرق الأوسط الجديد.

وإلى نص التقرير الذي سيُعرض على حلقات.




«أجندة الحرية» الأميركية... في خبر كان



لا ريب في انه يمكن الدفع بسهولة بفشل مساعي إدارة بوش المتعلقة بتعزيز الديموقراطية او ما اصبح يعرف «بأجندة الحرية» والتداعيات غير المتوقعة الناجمة عن الإصرار على الإصلاح السياسي في بداية عهد بوش. فاليوم لم يعد دعم الديموقراطية في صلب اولويات السياسة الأميركية المعتمدة ازاء الشرق الأوسط رغم ان معضلات التحول الديموقراطي في العالم العربي والتي شجبها تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مازالت على عهدها دون تحسن. ووحدها ثلاثة انظمة عربية في البحرين ولبنان واليمن اظهرت تحسناً طفيفاً وفقاً لمؤشر بيت الحرية بين عامي 2002 و2006 لتنتقل من «غير حرة» إلى «حرة جزئياً». ومما زاد الأمر سوءاً حقيقة ان المصداقية الأميركية تأثرت بشدة من جراء بسياسة وعدت بداية  بالكثير ومن ثم تم تجميدها بصمت بل ربما جرى التخلي عنها تماماً.

ولا يعزى فشل أجندة الحرية إلى الخيارات السياسية غير الصائبة التي اعتمدتها ادارة بوش تجاه بعض الدول فحسب، بل ايضاً إلى مجموعة من الحقائق الكامنة في السياسات العربية والأميركية على حد سواء والتي من شأنها التأثير في اي سياسة مستقبلية تهدف دعم الاصلاح الديموقراطي، تقليدياً ركزت الأهداف الأميركية في الشرق الأوسط على الأمن ودعم اسرائيل وتحقيق السلام العربي - الإسرائيلي وضمان تدفق النفط بحرية. وتقتضي هذه الأهداف الثلاثة بلا استثناء قدراً من الاستقرار في المنطقة. وتماشياً مع السياسات المعتمدة على امتداد العالم إبان الحرب البادرة، لم تلق الولايات المتحدة بالا ازاء السياسات الداخلية للأنظمة العربية وحيال سلوكها ما دامت متحالفة مع واشنطن اقليمياً ودولياً وما دامت مسيطرة على مجتمعاتها. وحتى في التسعينات، عندما انتشرت صناعة الديموقراطية الأميركية بسرعة في اصقاع العالم كافة، عقب نهاية الحرب الباردة، فإنها سارت بخطى متثاقلة في الشرق الأوسط واتسمت برامج تعزيز الديموقراطية بقلتها وضيق نطاقها وعدم تنفيذها الا عندما سمحت الأنظمة الحاكمة بذلك وتخلت الولايات المتحدة عنها سريعاً عند معارضة الحكام لها.

وعقب 11 سبتمبر 2001 رغب الرئيس بوش في الابتعاد عن هذه السياسة وأفاد في خطاب القاه في الوقف الوطني للديموقراطية في العام 2003: «لم تنفع ستون عاماً من تبريرات الأمم الغربية وتفهمها لغياب الحرية في الشرق الأوسط في ضمان امتنا لأنه لا يمكن على المدى الطويل شراء الاستقرار على حساب الحرية»، ثم بدأ بوش ولايته الثانية عبر التشديد على ان التوتر القديم العهد بين الأمن والديموقراطية قد انتهى: «فمصالح اميركا الحيوية ومعتقداتنا الراسخة باتت واحدة الآن».

ولم يتمخض الخطاب الرئاسي الرسمي الذي وعد بالكثير واستند إلى القيم والمصالح الأميركية عن اي شيء يقترب من الثورة الديموقراطية الموعودة. وأدت محدودية النتائج المحققة إلى زيادة حدة الخطاب الرسمي ومضاعفة التمويل لبرامج دعم الديموقراطية عبر مبادرة الشراكة من أجل الشرق الأوسط وكذلك الافراط في استخدام خطاب الديموقراطية كوعيد ينتظر الأعداء ومصدر لضغط بين الفينة والأخرى على بعض الأصدقاء، بيد ان التحول عن دعم الديموقراطية جاء سريعاً ما ان رتبت الانتخابات العربية نتائج اعتبرت اميركا غير مرضية وتراجعت بالتبعية اجندة الحرية، فمن جهة، عمقت الانتخابات التي نظمت في العراق ولبنان من الانقسامات الطائفية وسمحت في مصر وفلسطين للإسلاميين بإظهار عمق الدعم الشعبي لهم وقدراتهم التنطيمية العالية، بل مكنتهم من الفوز بوضوح في فلسطين. ومع تأزم السياسة الأميركية في المنطقة واستمرار تدهور الأوضاع في العراق والمواجهة مع ايران وحلفائها، عادت الأنظمة السلطوية الصديقة لواشنطن والتي يمكن الاعتماد عليها اقليمياً عادت لتكون مقبولة ومفضلة لدى ادارة بوش خصوصاً إذا ما قورنت بالإسلاميين. ورتب ذلك تحولاً جذرياً في الخطاب الأميركي الرسمي الذي استعاض عن وصف انظمة حكم بالسلطوية بمصطلح الدول المعتدلة. وبحلول العام 2007 بدت الولايات المتحدة بمظهر من عاد تحديداً إلى سياسة شراء الاستقرار على حساب الحرية التي شجبت منذ سنوات قليلة.

ولا ينبغي هنا النظر إلى التحول في سياسة دعم الديموقراطية على انه مجرد علامة من علامات تقلب ادارة كثرت تحولاتها، بل هو يقع في موقع القلب من اشكالية كبرى مفادها انه في حين قد تكون مصالح الولايات المتحدة ومبادئها الراسخة بشأن الحرية متناغمة على المدى البعيد، فإنها قد تتصادم على المدى القريب لاسيما في جزء من العالم لواشنطن به مصالح شديدة الحيوية ويتسم داخلياً بوضع سياسي غير مستقر على الاطلاق. وليس هذا التصادم بين المصالح القريبة والبعيدة المدى بالجديد، فالولايات المتحدة ما برحت تسعى إلى حماية مصلحتين اساسيتين متناقضتين في بعض مضامينهما الا وهما النفاذ إلى النفط العربي وحماية دولة اسرائيل. وعلى المنوال نفسه اخفقت ادارة بوش في التوصل إلى رؤية استراتيجية للتوفيق بين مصلحة مهمة على المدى البعيد وهي تعزيز الحرية والديموقراطية وبين مصالح ا خرى آنية ولا تحتمل التأجيل.

كذلك وللموضوعية ينبغي الاشارة إلى ان حقائق السياسة والاجتماع بغالبية دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا قد ساهمت بصورة او اخرى في تقويض التزام الولايات المتحدة بدعم الديموقراطية. فغالبية الأنظمة العربية لم تقاوم الخطاب الأميركي الجديد عن التحول الديموقراطي مقاومة علنية، بل زعمت غالبيتها ان الديموقراطية هدف من اهدافها على المدى البعيد معتمدة في المجمل لإظهار حسن نيتها بعض الاصلاحات الشكلية التي لا تحد من سلطتها. بيد أن بعض الأنظمة امتعض من الموقف الأميركي الجديد المنتقد لها، وهو ما انطبق بشكل واضح على حليفين قديمين للولايات المتحدة شعرا باستهدافهما استهدافاً جائراً رغم ان الضغط المباشر الممارس عليهما لم يكن في النهاية سوى ضغط محدود للغاية.

ومن بين حلفاء واشنطن العرب، خضعت مصر لأكبر قدر من الضغط في سياق سياسة دعم الديموقراطية. فبوش أشار اليها (وإن بتهذيب) باعتبارها دولة بحاجة إلى الاصلاح واعطت وزيرة الخارجية رايس شرحاً تفصيليا أكثر عن المقاربة الأميركية للإصلاح الديموقراطي في خطاب القته في القاهرة في يونيو من العام 2005. وفي يناير 2006، ذهبت الولايات المتحدة إلى ابعد من ذلك، فألغت اجتماعاً معداً لإطلاق المفاوضات على اتفاق تجارة حرة بين البلدين تعبيراً منها عن عدم رضاها عن محاولة النظام لجم المعارضة، وبوجه التحديد القيام بسجن المعارض الليبرالي ايمن نور زعيم حزب الغد على اساس يعتقد بصورة واسعة انها غير صحيحة. وجاء رد مصر على الضغط الأميركي وقبل ذلك الضغوط الداخلية للدفع التحول الديموقراطي في سياقين، فأدخلت بعض التغييرات تضمنت تعديلا دستوريا يقضي بانتخاب رئيس الجمهورية في انتخابات مباشرة وتعددية ثم اعقب افراغ الاصلاح من معناه عبر ربطه بشروط حصرت المنافسة على الرئاسة بشكل كبير ولاحقاً عبر سن مجموعة جديدة من التعديلات الدستورية قيدت اكثر من التعديلات الدستورية.

الا ان الضغط الأميركي على مصر وغيرها من بعض الدول العربية لم يدم طويلاً، ففي منتصف العام 2006، ومع تدهور الوضع في العراق وتعاظم القلق حيال تصاعد النفوذ الإيراني، نسيت ادارة بوش انتقاداتها السابقة للانظمة السلطوية الصديقة واعادت تعريفها بالمعتدلة وسعت إلى تشكيل تحالف مناهض لايران مع الدول اعضاء مجلس التعاون الخليجي، بالاضافة إلى مصر والاردن، ومن ثم تم التخلي عن محاولات  تعزيز الاصلاح ودعم الديموقراطية في ظل احتياج واشنطن لحلفائها.

ودفع الحكام المدركون تمام الادراك لمأزق الولايات المتحدة في المنطقة ولابعاده الاستراتيجية بقوة نحو العودة إلى السياسات الاميركية السابقة لاحداث 11 سبتمبر 2001 اي تجاهل السلوك الداخلي للحلفاء العرب والتركيز على اعمالهم الاقليمية والدولية. ولعل من ابرز المؤشرات على نجاح الضغط العربي ضد سياسة دعم الديموقراطية هو التراجع الملحوظ منذ العام 2006 كما وكيفا للانتقادات الصادرة عن ادارة بوش عن السياسات الداخلية في الدول العربية المعتدلة رغم الاشارات الواضحة إلى انقلاب بعض الانظمة الحاكمة على الاصلاحات الجزئية التي تمت بالماضي، واوضحها ولا شك مصر والاردن، وغضت ادارة بوش الطرف علنا عن التدابير القمعية المتبعة ضد حركات المعارضة وبشكل اساسي ضد الاخوان المسلمين في مصر وجبهة العمل الاسلامي في الاردن، فضلا عن العديد من التغييرات غير الديموقراطية على مستويات اخرى.

كذلك، لم تجد الولايات المتحدة شركاء اقوياء في محاولاتها دعم الديموقراطية من الاسفل إلى الاعلى عبر تحفيز احزاب المعارضة الليبرالية وقوى المجتمع المدني، ورغم ان غالبية الدول العربية اضحت تسمح بدرجة من التعددية في النظام السياسي وببعض المساحة للمعارضة، فان المستفيد الأكبر من مساعي الدمقرطة الاميركية لم تكن الاحزاب الليبرالية، بل الاحزاب الاسلامية الاكبر والاحسن تنظيما وبالتالي اقدر على الاستفادة من فرص الانفتاح السياسي رغم التدابير الامنية المشددة التي عادة ما تفرضها انظمة الحكم عليها، من جهتها، اثبتت المعارضة الليبرالية المقبولة من الولايات المتحدة ومن الغرب انها اضعف القوى السياسية كافة، فقد اظهرت نتائج الانتخابات على امتداد المنطقة ضعف تنظيمها وبرامجها ومحدودية قواعدها الناخبة.

ولا يعزى ضعف المعارضة الليبرالية بالكامل إلى اخفاقاتها الذاتية، فالانظمة الحاكمة استخدمت مرارا تدابير قمعية ضد الاحزاب والحركات الليبرالية كما ان مجمل التغيرات المجتمعية في بلاد العرب قد رتب انحسار مساحات الفعل غير الديني، بيد ان الاحزاب الليبرالية قد عمقت بفعلها من ازمتها، فهي تجاهلت مهمة التنظيم والتأطير ولم تركز وتستثمر الكثير لبناء قواعد ناخبة مستقرة وهو الشرط الاساسي لضمان المشاركة بنجاح في حياة سياسية تستند إلى الانتخابات وان لم تكن كاملة الديموقراطية. وكنتيجة لذلك، تحولت الكتل الناخبة الكبرى في المجتمعات العربية إلى تأييد الحركات الاسلامية ذات الشعارات الدينية الجاذبة وصاحبة المصداقية المجتمعية لما قامت وتقوم به في مجال العمل مع الجماهير في حين نزعت الاحزاب الليبرالية الضعيفة على الاقل في بعض الحالات نحو التحالف مع انظمة الحكم خوفا من الاسلاميين.

وبالتبعية، اضحت الحركات الاسلامية قلب المعارضة النابض في غالبية الدول العربية بل واصبحت احتمالية الاصلاح الديموقراطي ترتبط اليوم إلى حد كبير بالاسلاميين، وغالبا ما يتم طرح التساؤل عما اذا كانت الحركات الاسلامية تقبل بالعملية الديموقراطية كوسيلة لاكتساب السلطة فقط وفي هذه الحالة لا يمكن للديموقراطية ان تستمر ام ان الاخيرة ستستمر بعد تسلم الاسلاميين لمقاليد الحكم في ظل التمسك بالقيم الديموقراطية واحترام العملية الديموقراطية، ولا ريب في ان بعض الحركات الاسلامية هي منظمات متشددة وعنيفة لا تقبل بالخيار الديموقراطي، الا ان هؤلاء لا يشاركون العمليات الانتخابية، اما الاحزاب والحركات الاسلامية غير العنيفة فتقبل قبولا تاما بفكرة مفادها ان المشاركة في الانتخابات لا تتعارض مع المبادئ الاسلامية وهي ملتزمة بالتنافس في انتخابات وطنية وبلدية فضلا عن مشاركتها في انتخاب مجالس ادارة النقابات المهنية وتلك تشكل قوة سياسية مهمة في العالم العربي. بل انضمت الحركات الاسلامية في بعض الدول العربية إلى الائتلافات الحاكمة كشركاء صغار وشكلت «حماس» في فلسطين الحكومة في اعقاب انتخابات العام 2006.

كما يطرح تساؤل اخر يدور عما اذا كانت الحركات الاسلامية التي تقبل بالديموقراطية كآلية تقبل بقيمها ايضا، وواقع الامر ان الاجابة عن هذا السؤال أصعب بكثير من الاجابة عن السؤال السابق، بيد ان الواضح ان ثمة خلافات جوهرية بين الاحزاب الاسلامية وبعضها البعض، فبعضها يحافظ على جناح عسكري على غرار الاحزاب الشيعية كافة في العراق، «وحزب الله» في لبنان «وحماس» في فلسطين. وفي حين لم تستخدم هذه الاحزاب القوة العسكرية قط في العملية الانتخابية، فان اجنحتها العسكرية تمنحها نفوذا يفوق باشواط ما كسبته في الانتخابات، وفي المقابل، بين الاحزاب الاسلامية من قطع شوطا طويلا في رفض العنف والقبول بالتعددية إلى حد صار معه من الصعب عليها العودة إلى الوراء. ففي المغرب والجزائر والكويت والبحرين مثلاً أحزاب إسلامية تؤكد على خيار «المشاركة أولاً» وهي مندمجة بقوة في النظام السياسي، بل ان هذه الأحزاب تنظر إلى الوطن أو الدولة القومية لا الى الأمة الاسلامية كميدان لعملها وتقبل بمبدأ مواطنة الحقوق المتساوية تبتعد على نحو تصاعدي عن النقاشات الأيديولوجية مركزةً على وضع برامج عملية لتنفيذ أو اقتراح تنفيذ سياسات عامة محددة. أخيراً، في مصر والأردن على سبيل المثال لا الحصر أحزاب أو حركات إسلامية ممزقة بين الايديولوجي والعملي في ظل الصراع المستمر بينها وبين الأنظمة الحاكمة. وهي بذلك عالقة بين مطرقة الممارسة السلمية للسياسة وما يرافقها من حاجة الى تطوير برنامج سياسي عملي وبين سندان المواجهة المستمرة مع الحكام وتلك ترفع من أسهم المتشددين بداخلها وتزيد من القبول الشعبي للشعارات الأيديولوجية الحادة. فعلى سبيل المثال، تظهر مسودة مشروع برنامج الحزب السياسي الصادر عن جماعة الاخوان المسلمين المصرية في سبتمبر من العام 2007 تراجعاً نحو مواقف أيديولوجية لحركة سعت مراراً الى اداء المشاركة السياسية على نحو مستقر وما لبثت تحرم منه.

وفي المحصلة الأخيرة، أظهر اعتماد أجندة الحرية وسياسة دعم الديموقراطية من جانب إدارة بوش ثم التخلي عنها استحالة القيام بأي تحول سريع نحو الديموقراطية في المنطقة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة في غالبية الدول العربية ومع تردي الأوضاع الاقليمية. فحتى اذا ما نجحت الولايات المتحدة في التوفيق بين أهدافها البعيدة والقريبة المدى بما يكفي لاتباع سياسة متسقة ازاء ملف الديموقراطية، فإن مساعيها ستُحبط في المدى القريب بفعل الأنظمة الحاكمة التي لا مصلحة لها في تعريض سلطتها للخطر. فواقع الأمر أن الذين يعرفون بالإصلاحيين داخل نخب الحكم العربية في المؤسسات الحاكمة لا يرغبون الا في الاصلاح الاقتصادي والتحديث الاداري لا الحريات المدنية والسياسية او المشاركة السياسية غير المقيدة، في حين تتسم أحزاب المعارضة الليبرالية ومنظمات المجتمع المدني التي ترى بها الولايات المتحدة حليفة طبيعية بضعف مهول في غالبية الدول. أما الحركات الاسلامية التي اختارت المشاركة في الحياة السياسية فتتمتع في دولها بحسن التنظيم وبقدرتها الفائقة على تطوير قواعد انتخابية مستقرة، بيد أن واشنطن ترى بها في غالب الأحيان تهديداً بدلاً من حليف محتمل في دعم الديموقراطية. لذا وبصورة واقعية من شأن سياسة دعم الديموقراطية ان تتطلب إطاراً زمنياً أطول بكثير مما كانت عليه الحال في أقاليم العالم الأخرى لا بد لها من نظرة لا تقسم العالم بين أخيار وأشرار وحنكة ديبلوماسية تفوق تلك التي أظهرتها ادارة بوش خلال السنوات الماضية.


التوترات الطائفية

من بين التداعيات الخطيرة للغزو الأميركي للعراق يحتل تصاعد وتيرة التوتر الطائفي ليس في العراق فحسب بل أيضاً في المنطقة برمتها مرتبة متقدمة. فقد أدت التوترات بين السنة والشيعة مصحوبة بتنامي القوة والنفوذ الايرانيين الى تزايد القلق في بعض الدول العربية وكذلك في الولايات المتحدة ازاء صعود ما سمي بالقوة الشيعية في الشرق الأوسط. وكان أول من حذر من صعود القوة الشيعية الملك الاردني عبدالله الثاني في كلمة له في ديسمبر من العام 2005 أمام جمهور أميركي مستخدماً عبارة «الهلال الشيعي» لوصف طموح ايراني مزعوم لتغيير النظام الاقليمي عبر اقامة شبكة تحالفات مع الانظمة والحركات الشيعية في الشرق الأوسط الذي يشكل به السنة الغالبية. وبعد بضعة أسابيع، عاود الرئيس مبارك الحديث عن الموضوع نفسه متهماً المواطنين الشيعة في العراق والخليج بالولاء لايران أكثر من ولائهم لأوطانهم. غير أن تشكل هلال شيعي هو أمر مبالغ به ويجافي القراءة الموضوعية لحقائق المنطقة. فرغم شيوع الاستياء في أوساط الشيعة لا سيما في دول الخليج وطبعاً في لبنان، كما ورد آنفاً، فإنه من غير المرجح أن يُترجم هذا الاستياء الى تحالف اقليمي كبير تهيمن عليه ايران.

وتكمن أولى الحقائق المهمة هنا في أن تسييس الهوية الشيعية يرتبط بمجموعة من العوامل من بينها نجاح الثورة الاسلامية بإيران وتشديدها على الهوية الدينية في مقابل نزوع نظام شاه ايران السابق الى الاعتماد على إرث الامبراطورية الفارسية القديمة. كما ان التغيرات التي حدثت بالعراق في أعقاب الغزو الأميركي وسيطرة القوة الشيعية على الحكومة الجديدة يشاركهم بها الأكراد مع تمتع السنة بتمثيل أو نفوذ ضئيلين أسهم أيضاً في تسييس مسألة الشيعة بالشرق الأوسط تماماً كما ساعد على ذلك ضعف بل وغياب القوى الشيعية العلمانية. وأخيراً، أسهم تزايد أهمية «حزب الله» في الدفع بالاتجاه ذاته، فـ «حزب الله» لم يصبح لاعباً داخلياً قادراً على شلّ الحكومة اللبنانية فحسب، بل صار أيضاً لاعباً اقليمياً عبر نجاحه في الوقوف في وجه اسرائيل وآلتها العسكرية في صيف العام 2006 مكتسباً بذلك هالة بطولية متميزة.

بيد ان الحقيقة الثانية التي ينبغي التركيز عليها هي أن الشيعة ليسوا أكثرية الا في ايران والعراق والبحرين حيث يشكلون في الأخيرة 70 في المئة من السكان وهم ايضاً أكبر مذهب في لبنان رغم انهم ليسوا الاكثرية. ورغم عدم توافر أرقام دقيقة، فإنه من الواضح بمكان أن نسبة الشيعة من السكان في الغالبية الساحقة من الدول العربية والاسلامية ضئيلة للغاية مما يعني عملاً أن التركيز على بزوغ «هلال شيعي» ليس بالاستراتيجية الناجحة لايران.

أما الحقيقة الثالثة والأهم فتتمثل في شيوع الاستياء في صفوف الشيعة في العديد من الدول العربية لما يواجهونه من تمييز مؤسسي ضدهم ضارب في الجذور ولمعاناتهم من ظروف معيشية متدنية عموماً.

ولا ريب في أن التمييز لا يولد إلا شعوراً بالاستياء والضغينة يعتمل في نفوس الأقليات الشيعية في الخليج وكذلك بلبنان. غير أن السؤال الحقيقي هو عما اذا كان مثل هذا الشعور قد ترجم الى نشاط سياسي وان صح ذلك فأي نوع من النشاط هو إما معارضة سياسية سلمية وإما عنف؟ وواقع الأمر انه حتى اليوم، لم يؤد الشعور بالضغينة بين الشيعة الى عنف مفتوح الا في لحظات معدودة في بلدين. أما في لبنان، فقد رتب الاستياء الشيعي في الستينات والسبعينات الاندفاع نحو تعبئة كبرى أسهمت بها ديناميات الحرب الأهلية بين العامين 1975 و1990.

ورغم ذلك فإن ذات الأدلة تنفي بصورة حاسمة تطور حركة شيعية عابرة لحدود الدول الشرق أوسطية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي