خواطر تقرع الأجراس / قطار العرب واللسان الأصفر
مصطفى سليمان
| مصطفى سليمان |
أسمع- أنا العربي- عن تنافس الدول، غير العربية، عن تصنيع وتدشين أسرع قطار في العالم. وشعوب التنين الأصفر والميكادو هم السبّاقون. ونحن... غير اللاحقين! **
حفظنا منذ الطفولة أناشيد قومية جامحة: بلاد العُرْب أوطاني من الشام لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ... وقد بشِمنا، وما تفنى الأناشيد!
لماذا لا يدخل العرب صراع القطارات ليصلوا بين أوطانهم؟ ألسنا في صراع الحضارات؟
دائماً أحلم أحلاماً عربية. ليس أضغاث أحلام. ولا كوابيس. وإليكم آخر حلم لا كابوس!
رأيت في ما يرى النائم أن طبول العرب قرعت ليلاً - لاجتماع طارئ في الصحراء. كان بخور الدراويش يعبق في خياشيم الليل، والصندل والعود والنّـدُّ والأبانوس يتلظّى في المجامر الصوفية.
بدأت الخطابات تمزّق طبلة أذن صمت الليل. وبعد نقاش وجدال، وعراك وخصام، صدر القرار التاريخي: قرر العرب دخول صراع القطارات، على صهوة قطار قومي يربط بين المحيط والخليج لخدمة إنساننا العربي وتمتين الروابط القومية والتاريخية، والاقتصادية، والاجتماعية... بين الأشقّاء العرب.
مرّت عقود. وكان صباحٌ. وكان مساء. فكان القطار: مقطورات أشبه بزنزانات الباستيل. تتّسع لأكثر من ثلاثمئة مليون راكب. مصنوعة من حديد الخوذات الفولاذية، ذات اللون العسكري الفتّا...ك! في إحدى المقطورات الزنزانات، أُقيم متحف قومي لتخليد تراث الأمة: خناجر مسمومة نُقِش عليها بالخط الفارسي منمنمات من دم عمر وعثمان وعلي مُذَيَّلة بـ دعاء ( رضي الله عنهم ). وهناك سيف الجلاّد مسرور، سيّاف الرشيد. ومقابله منجنيق وسيف الحجّاج بن يوسف الثّقفي يلمع بوهج الدم... وسيوف داحس والغبراء والبسوس وكربلاء... لتخليد معارك العرب القومية! وهناك السياط اللاهبة، وعليها نتفٌ من اللحم القومي. حرير الجواري يبرق، ودفوف القيان تنقر، ودنان أبي نواس الذي سبّ العرب وشتمهم وهزّأ قيمهم، تنتشي بخمرتها المعتّقة منذ قرون النشوة العباسية.
في زاوية منعزلة ديوان شعر ضخم مكتوب على غلافه الأسود، بدم لزج لم يجفّ بعدُ: (ديوان العرب).
في مقطورة الخردة! تكدّست مخطوطات قديمة فريدة في العلوم المختلفة، والفلسفة، واللغات، والتاريخ، والآداب... تقبع في صناديق مقفلة بالغبار، تفوح منها العفونة، ويغلّفها بصاق العناكب.
ياله من قطار! أين منه قطار الميكادو والتنين الأصفر؟
أما عجلاته فمشبوكة بأعقاب البنادق والحراب الحمراء وهي تزأر فوق سكة مرصوفة من عظام الجماجم القومية! ألسنا أمة واحدة؟ بلى وأيم الله!
وأما مداخنه فتنفث بخاراً أحمر. صفيره صرخات حمراء، تختلط فيها استغاثات الرجال في الأقبية الرطبة المعتمة من طنجة حتى البصرة، مع اختلاطات حارُّة لتأوّهات المومسات في مقصورات ألف ليلة وليلة، مع صراخ شعراء من خلف القضبان اتُّهموا بالخروج على السلطان، مع طبول شعراء جعلوا ألسنتهم نعالاً يابسة لأحذية (وليّ الأمر).
ويسير القطار. بركاب بلا حقائب. بلا تذاكر. بلا أحلام محطات. ويظل يسير... يسير... ولا يصل، كأنه مُوَكَّلٌ بفضاء الله يذرعه! يدخل الأنفاق ولا يخرج. يتسكّع على أرصفة التاريخ ولا يرحل. فما من محطة تستقبله!
ورأيت في ما يرى النائم، أن قطار التنين الأصفر مرَّ كبرق خاطف قرب قطار العرب. ومدَّ له لساناً أصفر، أطول من... لسان العرب!
*كاتب سوري
أسمع- أنا العربي- عن تنافس الدول، غير العربية، عن تصنيع وتدشين أسرع قطار في العالم. وشعوب التنين الأصفر والميكادو هم السبّاقون. ونحن... غير اللاحقين! **
حفظنا منذ الطفولة أناشيد قومية جامحة: بلاد العُرْب أوطاني من الشام لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ... وقد بشِمنا، وما تفنى الأناشيد!
لماذا لا يدخل العرب صراع القطارات ليصلوا بين أوطانهم؟ ألسنا في صراع الحضارات؟
دائماً أحلم أحلاماً عربية. ليس أضغاث أحلام. ولا كوابيس. وإليكم آخر حلم لا كابوس!
رأيت في ما يرى النائم أن طبول العرب قرعت ليلاً - لاجتماع طارئ في الصحراء. كان بخور الدراويش يعبق في خياشيم الليل، والصندل والعود والنّـدُّ والأبانوس يتلظّى في المجامر الصوفية.
بدأت الخطابات تمزّق طبلة أذن صمت الليل. وبعد نقاش وجدال، وعراك وخصام، صدر القرار التاريخي: قرر العرب دخول صراع القطارات، على صهوة قطار قومي يربط بين المحيط والخليج لخدمة إنساننا العربي وتمتين الروابط القومية والتاريخية، والاقتصادية، والاجتماعية... بين الأشقّاء العرب.
مرّت عقود. وكان صباحٌ. وكان مساء. فكان القطار: مقطورات أشبه بزنزانات الباستيل. تتّسع لأكثر من ثلاثمئة مليون راكب. مصنوعة من حديد الخوذات الفولاذية، ذات اللون العسكري الفتّا...ك! في إحدى المقطورات الزنزانات، أُقيم متحف قومي لتخليد تراث الأمة: خناجر مسمومة نُقِش عليها بالخط الفارسي منمنمات من دم عمر وعثمان وعلي مُذَيَّلة بـ دعاء ( رضي الله عنهم ). وهناك سيف الجلاّد مسرور، سيّاف الرشيد. ومقابله منجنيق وسيف الحجّاج بن يوسف الثّقفي يلمع بوهج الدم... وسيوف داحس والغبراء والبسوس وكربلاء... لتخليد معارك العرب القومية! وهناك السياط اللاهبة، وعليها نتفٌ من اللحم القومي. حرير الجواري يبرق، ودفوف القيان تنقر، ودنان أبي نواس الذي سبّ العرب وشتمهم وهزّأ قيمهم، تنتشي بخمرتها المعتّقة منذ قرون النشوة العباسية.
في زاوية منعزلة ديوان شعر ضخم مكتوب على غلافه الأسود، بدم لزج لم يجفّ بعدُ: (ديوان العرب).
في مقطورة الخردة! تكدّست مخطوطات قديمة فريدة في العلوم المختلفة، والفلسفة، واللغات، والتاريخ، والآداب... تقبع في صناديق مقفلة بالغبار، تفوح منها العفونة، ويغلّفها بصاق العناكب.
ياله من قطار! أين منه قطار الميكادو والتنين الأصفر؟
أما عجلاته فمشبوكة بأعقاب البنادق والحراب الحمراء وهي تزأر فوق سكة مرصوفة من عظام الجماجم القومية! ألسنا أمة واحدة؟ بلى وأيم الله!
وأما مداخنه فتنفث بخاراً أحمر. صفيره صرخات حمراء، تختلط فيها استغاثات الرجال في الأقبية الرطبة المعتمة من طنجة حتى البصرة، مع اختلاطات حارُّة لتأوّهات المومسات في مقصورات ألف ليلة وليلة، مع صراخ شعراء من خلف القضبان اتُّهموا بالخروج على السلطان، مع طبول شعراء جعلوا ألسنتهم نعالاً يابسة لأحذية (وليّ الأمر).
ويسير القطار. بركاب بلا حقائب. بلا تذاكر. بلا أحلام محطات. ويظل يسير... يسير... ولا يصل، كأنه مُوَكَّلٌ بفضاء الله يذرعه! يدخل الأنفاق ولا يخرج. يتسكّع على أرصفة التاريخ ولا يرحل. فما من محطة تستقبله!
ورأيت في ما يرى النائم، أن قطار التنين الأصفر مرَّ كبرق خاطف قرب قطار العرب. ومدَّ له لساناً أصفر، أطول من... لسان العرب!
*كاتب سوري