مقال

مَنْ يَهُنْ...

تصغير
تكبير
| إبراهيم صموئيل |
في الأساس، قبول المثقف المبدع لجائزة تكريم يقدّمها مستبدٌّ طاغية عبر أحد وزرائه وأعوانه هو جائزة تكريم يقدمها المبدع للطاغية تتضمن بالضرورة شكراً وعرفاناً بطغيانه!
لا معنى آخر للقبول غير هذا المعنى! فالطغاة يحتاجون أيضا إلى شهادات اعتراف وقبول وتبرئة من مختلف الفئات الاجتماعية، خاصة إذا كانت من مبدعين في أي حقلٍ ثقافي، ولذا تراهم يوعزون إلى وزرائهم كي يصطادوا من النجوم أبرزهم وأكثرهم شهرة بغية تقديم الجوائز المعنوية والمادية لهم تحت يافطة مراوغة «... على مجمل نتاجهم وعلى مساهمتهم في رفد حركة الأدب والفكر والفن... الخ»!
بالطبع، يعرف المسؤولون في الأنظمة الشمولية مَنْ يختارون، وكيف يختارون، ومتى. يعرفون المحتاج مالياً من غير المحتاج، ويعرفون المهادن صاحب المواقف الرمادية من أصحاب المواقف الصادقة الصريحة، ويعرفون التوقيت المناسب كذلك، كأن يصيب المرض الشديد مبدعاً فيحتاج إلى أموال باهظة للعلاج، أو يكون على أبواب الشيخوخة، أو هو أُهمِل عمداً لسنوات كثيرة في ظل الاستبداد فتعطّش للضوء، أو يكون من غير هذا وذاك: إبداعه وفكره في مطرح، ومواقفه العملية في مطرح آخر. أي يعرفون الفريسة السهلة من العصيّة.
والمبدعون، من جهتهم، يعرفون أن تصحير الحياة الثقافية الفكرية سببها النظام الشمولي، وأن تقهقهر السينما والمسرح والفنون المختلفة أسبابها مصادرة الحريات وحق التعبير، وتضييق الأفق، وتدجين المؤسسات الثقافية وقولبتها وفقاً لعملية تحويل البلاد إلى مزارع خاصة للحاكم وأعوانه، ويعرفون- بحكم طبيعة حقول نشاطهم- الكثير الكثير... غير أنهم، لأسباب متعدّدة، يطمرون معارفهم ورؤوسهم في الرمال!
مع حلول الربيع العربي بات القابلون بجوائز المستبدين وبأوسمتهم وجهاً لوجه مع ما قبلوا نيله وتقلّده، رغم أنهم لم يكونوا- قبل خلع الحكّام وإسقاط الأنظمة- بحال أفضل. لكنَّ الإحراج الجديد صار في كيفية ركوبهم موجة الثورة في بلدانهم، ومناصرة شعوبهم ضد طغاتهم الحاكمين، والحال أن شهادات التقدير لمّا تزل تزين مكتباتهم، وأموال نظام الطاغية المخلوع التي مُنحت لهم لم تنفق بكاملها بعد؟!! بل إن بعض المبدعين ما زالت صورهم الفوتوغرافية وهم ينحنون أمام الوزير لتقلد الوشاح، أو صورهم في حفل التكريم إلى جانب المسؤولين، لا تزال معلقة على جدران مكاتبهم!
الآن، وقد خُلع الحاكم بأمره، وحوكم المسؤولون أو فروا، ما السبيل أمام المبدع الذي قَبِلَ بأعطيات النظام المخلوع كي يجاهر بمعارضته للسلطة التي كانت حاكمة ولرجالها ورموزها وأعوانها وأفعالها التي عاثت فساداً وتخريباً في البلاد؟! ما سبيله لمناصرة الثورة التي اندلعت في بلاده ضد الحاكم وضد مؤسساته التي أنشأها على مقاس قدمه، وضد أحابيله التي مارسها لخداع شعبه، وضد وزرائه الذين كانوا أذرع الأخطبوط لنظام حكمه؟!
يبدو أن لا حرج لدى تلك الفئة! بعضهم اليوم، ممن مدحوا بالأمس، في مقدمة المتشددين في فضح النظام السابق وألاعيبه! وبعضهم، ممن ارتضى التكريم، في طليعة الشارحين للتدمير الذي مارسته الوزارات والمؤسسات ورجال السلطة في العهد البائد! بل وبعضهم، ممن تباهى بالتكريم، لا يتردّد في تعرية كيفيات شراء الذمم والضمائر، وأساليب الإغراء والإغواء التي مورست من رجال السلطة مع مختلف فئات الشعب!
ما من إحراج على الإطلاق!
فمن وجد سبيلاً لتبرير قبوله «ثلاثين من الفضة» أُعطية سلطةٍ في زمن الاستبداد، سيجد بعد سقوط النظام واندحار السلطة سبلاً كثيرة لتبرير قبوله ومواقفه السابقة، إذ من طبيعة التلفيق والتذرع والتحايل ركوبَ أي موجة كانت دون خشية من غرق، وهو ما نلحظه اليوم بكثرة لدى عدد من حملة جوائز وأوسمة المستبدين السابقين، سواء على مواقعهم الالكترونية أو على صفحات الجرائد والمجلات، أو عبر الحوارات، ومن دون أن يرفَّ لهم جفن!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي