أماكن
العودة إلى الصعيد (1 من 2)

جمال الغيطاني


| جمال الغيطاني |
الإنسان ذاكرة، والذاكرة قوامها المكان والزمان، وما يوحد بينهما هو الإنسان نفسه، وعيه الذي يسترجع ويستخلص ويختار، ومع التقدم في العمر يستعيد المرء بداياته الأولى، وهذا ما ينطبق على صلتي بالمكان الذي شهد وفادتي إلى العالم، قرية جهينة، التي أصبحت مدينة كبيرة الآن، التي تقع على حدود الصحراء الغربية، حيث يمكن للإنسان أن يقف، قدم في الزراعة الخضراء، وقدم في الصحراء الصفراء، حيث الطبيعة شديدة الخصوصية، مفرداتها النخيل العتيق، والزراعات الممتدة، ومستويات الأرض المختلفة من سهل إلى مواضع أكثر ارتفاعا كانت في الزمن القديم وحتى وقت قريب، إلى ما قبل بناء السد العالي، تقام البيوت فوقها لتكون بمنأى عن مياه الفيضان التي كانت تغمر مساحات واسعة من الأراضي لأشهر عدة في الصيف وقد بطل ذلك الآن وانحسر بعد أن أتم السد ترويض النهر.
لهذا المكان عندي منزلة خاصة، ولكافة عناصره من أهل وموجودات وروائح وأصوات، كانت الأسرة تقيم في القاهرة القديمة، وقد اعتدنا السفر في أشهر الصيف لقضاء الاجازة الصيفية واستمر ذلك منتظما حتى سني شبابنا، عندما بدأت حياتي العملية، وأصبحت علاقتي بجهينة منطلقة مني وليست تابعة للأسرة.
خلال السنوات الأخيرة أصبحت علاقتي أكثر كثافة، ربما كمحاولة للاعتصام بالذاكرة، أو كرد فعل لحالة ضارية من الحنين، قوامها الرغبة في استعادة الأيام الأولى، والابتعاد عن العاصمة، وعن ضجيجها، وعن صخب الحياة الثقافية الذي انغمست فيه إلى حد كبير نتيجة انشغالي بالعمل العام، وعملي بالصحافة الذي يقتضي أمانة مطلقة في التعبير عن مواقف محددة من قضايا لا تحتمل الصمت مدفوعا بهاجس تأدية الواجب في زمن صعب وهذا ما يطول الحديث فيه.
أي فرصة الآن للاتجاه جنوبا أندفع إلى تنفيذها على الفور، وأحيانا أنطلق بدافع من ذاتي، ليس إلى جهينة فقط، إنما إلى مواقع شتى من صعيد مصر.
في المنيا، أزور بانتظام مقابر بني حسن، المحفورة في أعالي الجبل المطل على النهر، حيث اللوحات الجدارية الفريدة التي تمثل مرحلة رائعة الرقي من مراحل تطور الفن المصري في الدولة الوسطى، في هذه اللوحات نرى مشاهد الحياة اليومية وليس الطقوس الجنائزية فقط، إلى الجنوب قليلا العاصمة الدينية التي بناها إخناتون الفرعن الذي قاد ثورة دينية تركت آثارا عميقة على الفكر الإنساني، إنه أول من دعا إلى التوحيد، في أسيوط جبل درنكة والدير المحرق حيث النقطة الأخيرة التي وصلت إليها العائلة المقدسة عند زيارتها إلى مصر، وفي سوهاج مدينة أخميم حيث تقوم مجموعة من الآثار المصرية القديمة، أجملها على الإطلاق تمثال الملكة ميرت آمون، ابنة رمسيس الثاني، ويعد هذا التمثال أضخم تمثال لأنثى وصلنا من العصور القديمة، ارتفاعه يتجاوز السبعة عشر مترا، ويعد من أجمل الإبداعات الإنسانية في النحت، ولا أزور الصعيد إلا وأسعى إليه لأزوره، في أخميم أيضا بقايا معبد ضخم عندما زاره ابن بطوطة كان في حالة جيدة، ولكن لا يوجد منه الآن إلا بقايا، وتحت مقابر المسلمين يرقد متمددا تمثال هائل الحجم من الجرانيت الأحمر لرمسيس الثاني، يقدر وزنه بألف طن.
الإنسان ذاكرة، والذاكرة قوامها المكان والزمان، وما يوحد بينهما هو الإنسان نفسه، وعيه الذي يسترجع ويستخلص ويختار، ومع التقدم في العمر يستعيد المرء بداياته الأولى، وهذا ما ينطبق على صلتي بالمكان الذي شهد وفادتي إلى العالم، قرية جهينة، التي أصبحت مدينة كبيرة الآن، التي تقع على حدود الصحراء الغربية، حيث يمكن للإنسان أن يقف، قدم في الزراعة الخضراء، وقدم في الصحراء الصفراء، حيث الطبيعة شديدة الخصوصية، مفرداتها النخيل العتيق، والزراعات الممتدة، ومستويات الأرض المختلفة من سهل إلى مواضع أكثر ارتفاعا كانت في الزمن القديم وحتى وقت قريب، إلى ما قبل بناء السد العالي، تقام البيوت فوقها لتكون بمنأى عن مياه الفيضان التي كانت تغمر مساحات واسعة من الأراضي لأشهر عدة في الصيف وقد بطل ذلك الآن وانحسر بعد أن أتم السد ترويض النهر.
لهذا المكان عندي منزلة خاصة، ولكافة عناصره من أهل وموجودات وروائح وأصوات، كانت الأسرة تقيم في القاهرة القديمة، وقد اعتدنا السفر في أشهر الصيف لقضاء الاجازة الصيفية واستمر ذلك منتظما حتى سني شبابنا، عندما بدأت حياتي العملية، وأصبحت علاقتي بجهينة منطلقة مني وليست تابعة للأسرة.
خلال السنوات الأخيرة أصبحت علاقتي أكثر كثافة، ربما كمحاولة للاعتصام بالذاكرة، أو كرد فعل لحالة ضارية من الحنين، قوامها الرغبة في استعادة الأيام الأولى، والابتعاد عن العاصمة، وعن ضجيجها، وعن صخب الحياة الثقافية الذي انغمست فيه إلى حد كبير نتيجة انشغالي بالعمل العام، وعملي بالصحافة الذي يقتضي أمانة مطلقة في التعبير عن مواقف محددة من قضايا لا تحتمل الصمت مدفوعا بهاجس تأدية الواجب في زمن صعب وهذا ما يطول الحديث فيه.
أي فرصة الآن للاتجاه جنوبا أندفع إلى تنفيذها على الفور، وأحيانا أنطلق بدافع من ذاتي، ليس إلى جهينة فقط، إنما إلى مواقع شتى من صعيد مصر.
في المنيا، أزور بانتظام مقابر بني حسن، المحفورة في أعالي الجبل المطل على النهر، حيث اللوحات الجدارية الفريدة التي تمثل مرحلة رائعة الرقي من مراحل تطور الفن المصري في الدولة الوسطى، في هذه اللوحات نرى مشاهد الحياة اليومية وليس الطقوس الجنائزية فقط، إلى الجنوب قليلا العاصمة الدينية التي بناها إخناتون الفرعن الذي قاد ثورة دينية تركت آثارا عميقة على الفكر الإنساني، إنه أول من دعا إلى التوحيد، في أسيوط جبل درنكة والدير المحرق حيث النقطة الأخيرة التي وصلت إليها العائلة المقدسة عند زيارتها إلى مصر، وفي سوهاج مدينة أخميم حيث تقوم مجموعة من الآثار المصرية القديمة، أجملها على الإطلاق تمثال الملكة ميرت آمون، ابنة رمسيس الثاني، ويعد هذا التمثال أضخم تمثال لأنثى وصلنا من العصور القديمة، ارتفاعه يتجاوز السبعة عشر مترا، ويعد من أجمل الإبداعات الإنسانية في النحت، ولا أزور الصعيد إلا وأسعى إليه لأزوره، في أخميم أيضا بقايا معبد ضخم عندما زاره ابن بطوطة كان في حالة جيدة، ولكن لا يوجد منه الآن إلا بقايا، وتحت مقابر المسلمين يرقد متمددا تمثال هائل الحجم من الجرانيت الأحمر لرمسيس الثاني، يقدر وزنه بألف طن.