ليس دليلاً على ضعف المفتي أو قصوره العلمي
التراجع في الفتوى أو تغييرها ... بين المقبول والمرفوض

تركي عيسى المطيري


| إعداد عبدالله متولي |
تعتبر «الفتوى» من القضايا التي تحظى بقدر كبير من الجدل والزخم الاعلامي عند المسلمين وغيرهم خاصة في السنوات الأخيرة بعد الانتشار الكبير والمتزايد لوسائل الاعلام وكثرة عدد الذين يتصدون للافتاء وفي ظل تسارع الأحداث على الساحتين العربية والاسلامية، ما يستتبع بالضرورة ظهور الكثير من الفتاوى التي تثير حالة من الجدل الفقهي، وقد تشهد بعض هذه الفتاوى تراجع أصحابها عنها، وهناك من يرفض التراجع عن فتواه أو تغييرها خوفا من ان يتهم بالضعف أو القصور، وهذا الأمر تحديدا قد لفت اليه مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تركي عيسى المطيري مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، حيث أكد ان تغيير الفتوى من المفتي ليس دليلا على ضعفه أو قصوره العلمي، مشيرا ان هناك خمسة مبررات شرعية تجيز للمفتي الرجوع عن فتواه وهي تغير العرف واختلاف التصور والضرورة واختلاف قوة الدليل، كما ان هناك سببين آخرين لا مبرر له فيها ليرجع عن فتواه وهما الاكراه والمجون.
وقال المطيري في دراسة فقهية: ان الكمال لله وحده.. فمنذ بدء الخليقة لم يصل للكمال مخلوق، ولم يتسم به انسان، والمعصوم من عصمه الله، والناس تتفاوت مراتبهم قرباً من الكمال وبعداً، ولا شك ان العلماء الربانيين هم الأقرب بعد الانبياء لمراتب الكمال، ولكن لم يكن ذلك كافياً في عصمتهم، لاسيما فيما يعلّمون الناس من علوم شرعية، وما كان ذلك الا للقصور البشري الذي خلق الله الناس عليه، ولاختلاف طبائعهم ومستوى الادراك والفهم والاستنباط لديهم.
وبين الفينة والأخرى نسمع ان ثمة عالماً تراجع عن فتوى ظلَّ يفتي بها ردهة من الزمن، وآخر غير في مستوى تشدّده في مسألة كان يأخذ أقصى اليمين فيها، وثالثاً نجده شدّد في مسألة كان يفتي بها بالتيسير، فتختلف أقوال العامة في هذا العالم أو ذاك، فتجد من يتهمه، وتجد من يبرر له، ولو أردنا من خلال النظر والاستقراء ان نستنبط العلة التي تجعل بعض العلماء يغير فتواه سنجد في الغالب ان ذلك التراجع له مسوغ علمي، سواء كان بالتشديد أو التيسير أو التفصيل، هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية... فتابع معنا،،،
يرى مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف ان العالم الذي يُغيّر فتواه ليس ذلك بالضرورة دليلاً على ضعفه أو قصور علمه، لان الانسان لم يُخلق كاملاً، بل ان صفات النقص والكمال تتجاذبه، بل هي ظاهرة صحيّة، ومن الأدلة على ان هذا العالم يسير نحو الكمال وان لم يبلغه، ما روى البخاري في تاريخه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: (شهدت عمر بن الخطاب أشرك الاخوة من الأب والأم والاخوة من الأم، فقال له رجل: قضيت عام أول فلم تشرك! قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا)، ولكن ذلك مشروط بان يكون التغيّر تحت مظلة المبرر الشرعي المقبول.
وتابع قائلا: لقد حاولت حصر المبررات التي تدفع بالعالم لتغيير فتواه، فوجدتها تندرج تحت سبعة مبررات من حيث العموم منها المقبول ومنها غير المقبول، وهي كالآتي:
أولاً: تغير العرف: سواء أكان مرتبطاً بالمكان أم بالزمان.
فمثال تغير العرف بالمكان: كان نقول: ان أهل مصر تختلف عاداتهم وأعرافهم عن أهل العراق، ولعل أقرب ما يستشهد به ما حدث مع الامام الشافعي رحمه الله، فان أحد الأسباب التي غير بها اختياراته الفقهية: اختلاف العرف ما بين أهل مصر وأهل العراق، مما نتج عنه تحول كبير في مذهبه، فصار ينعت مذهبه في العراق بالقديم، ومذهبه في مصر بالجديد، وقد ذكر ذلك الامام البيهقي رحمه الله في كتاب مناقب الشافعي حيث قال: «ثم أعاد تصنيف هذه الكتب في الجديد غير كتب معدودة، منها: كتاب الصيام، وكتاب الصداق، وكتاب الحدود، وكتاب الرهن الصغير، وكتاب الاجارة، وكتاب الجنائز، فكان يأمر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد، ثم يأمر بتخريق ما تغير اجتهاده فيها، وربما يدعه اكتفاءً بما ذكر في موضع آخر».
ومن المؤكد ان العرف ليس السبب الوحيد الذي جعل الامام الشافعي يغير فتاواه، لكن هو من الأسباب الرئيسة في ذلك.
والقسم الثاني من تغير العرف هو: تغيره بتغير الزمان، فهناك عادات يرتضيها الناس بينهم من غير خلاف ومن غير مصادمة لنصوص شرعية أو قواعد فقهية فيقرها الفقيه للمصلحة العامة ومثال ذلك: «ما روي عن مالك: اذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول، ان القول قول الزوج، مع ان الأصل عدم القبض، قال القاضي اسماعيل: هذه كانت عادتهم بالمدينة ان الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل اختلاف العوائد». «الاحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص111، 112)».
ثانياً: تغير تصور المسألة في ذهن العالم:
والقاعدة تقول: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، ومثال ذلك: قد يفتي العالم بجواز تناول بعض العقاقير الطبية، لانه بالتجربة ثبت نفع هذه العقاقير، ولا يوجد مانع شرعي من ذلك، ثم يبدو للعالم أمرٌ يجعله يحرم تلك العقاقير، كان يتضح له ان لها أثاراً جانبية مضرة تغلب على منفعتها، أو ينمو الى علمه ان من مكوناتها ما هو محرم كالكحول أو مشتقات خنزير أو ميتة، ولم ترق حالة المريض الى الضرورة التي تدفع العالم الى القول بالجواز، فعند ذلك قد يغير العالم رأيه فيفتي بالتحريم بعدما كان يفتي بالحل.
ثالثاً: تغيّر قوة الدليل لدى العالم:
كأن كان يفتي بمسألة بالتحريم، ثم بدا له ضعف الدليل الذي كان يحرّم من أجله أو العكس، كما حدث مع الامام أحمد في فتواه في حكم صلاة التسابيح، فقد جاء في المغني ان علي بن سعيد الرازي قال: «سألت أحمد بن حنبل عن صلاة التسابيح؟ فقال: ما يصح فيها عندي شيء. فقلت: عبد الله بن عمرو؟ قال: كل يرويه عن عمرو بن مالك - يعني فيه مقال -. فقلت: قد رواه المستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء. قال: من حدثك؟ قلت: مسلم - يعني ابن ابراهيم - فقال: المستمر شيخ ثقة. وكانه أعجبه». قال ابن حجر العسقلاني في أماليه: «فكان أحمد لم يبلغه ذلك أولاً الا من حديث عمرو بن مالك - وهو النكرى -، فلما بلغته متابعة المستمر أعجبه، فظاهره انه رجع عن تضعيفه». اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/43).
ويندرج تحت هذا السبب أيضاً: تغير فتوى العالم في المسألة بسبب بطلان قياسه على مسألة أخرى، لانتفاء العلة المشتركة بينهما بعدما كان يظن تقاسمهما في العلة.
رابعاً: الضرورة أو الحاجة:
وهي أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل العالم يغير فتواه، فقد يجيز المفتي ما حُرّمَ لضرورة الحال، بل ان النص القرآني صريح بان الضرورة تبيح ما حرَّم، حيث يقول الله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم اليه وان كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم ان ربك هو أعلم بالمعتدين) (الانعام: 119).
لذلك يجب على الفقيه ان يستوعب المسألة التي تعتريها ضرورة أو حاجة استيعاباً جيداً، مع استحضار الأدلة الشرعية لها، وان تكون المقاصد الشرعية قائمة في ذهنه، والا يتعجل اطلاق الفتوى فيها لاستحضاره دليلاً ما ويحسب ان ذمته قد برئت، لان هناك بعض المسائل يكون فيها وصف زائد يغير في الحكم ولو تقاسمت بأغلب تفاصيلها مع حكم ما، ولتوضيح ذلك ان أضرب مثالاً - بما ذكره ابن الملقن في كتابه البدر المنير باسناد رجاله ثقات - عن جابر رضي الله عنه انه قال: ( خرجنا في سفر فأصاب رجلا معنا حجر فشجه في رأسه، فاحتلم فسأل أصحابه هل يجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وانت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا اذا لم يعلموا، فانما شفاء العي السؤال، انما يكفيه ان يتيمم أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر من أفتاه بالحكم العام للجنب، انما استنكر عدم سؤالهم عن الصفة الزائدة في المسألة، وهي الغسل مع الجراحة المؤثرة بغسلها على صحة المغتسل.
وهذا مما يؤكد وهو أكيد - ان الشريعة دقيقة في أحكامها مستوعبة لجميع الصور والحوادث ولو مع تغير الأحوال.
خامساً: تغير الفتوى سياسيةً.
فالعالم قد يفتي ببعض الفتاوى تشدداً أو تساهلاً ما لم يخرج عن الاطار الفقهي العام لأسباب تمس الأمن الاجتماعي أو السياسي أو الديني..... الخ، ويقدّرها العالم الثقة الرباني.
ومن أمثلة ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه اناة. فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم).
وكذلك من الأمثلة الحاضرة تلك الحادثة الشهيرة التي جرت مع ابن عباس رضي الله عنهما، فقد ذكر الامام القرطبي في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل الى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (ألمن قتل مؤمناَ متعمداً توبة؟ قال لا، الا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا ان لمن قتل توبة مقبولة، قال: اني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد ان يقتل مؤمناً. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك» وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح. اهـ.
ولا أريد التوسع في هذه النقطة لحساسيتها الشديدة، ولانه قد يساء استعمالها من قبل بعض طلبة العلم الذين لم يتمرسوا جيداً في فهم السياسة الفقهية.
وهذه الخمس المبررات من قسم المقبول بل هي مخارج للعلماء من الوقوع في الخطأ والرجوع الى الحق، ولكن هناك حالتان لابد من التطرق لهما كوننا نريد رصد أسباب رجوع المفتي عن فتواه، كما انه لا يفوتني ان انبه ان هاتين الحالتين غير مقبولتين شرعاً ولا يجوز التعبد بهما وهما:
سادساً: الاكراه: فقد يكره المفتي على التراجع عن فتوى معينة تحت أي سبب كان، كان يهدد في نفسه أو ماله أو ولده، ومثال ذلك ما حدث في زمن الامام أحمد رحمه الله (في فتنة خلق القرآن) حيث أفتى كثير من أهل العلم في زمنه بما يوافق قول المعتزلة، فقد جاء في احدى الروايات التاريخية - كما جاء في ميزان الاعتدال - عندما سئل أحد المفتين بخلق القرآن بخلاف ما كان يفتي به قال: (خفت القتل، ولو انى ضربت سوطاً لمت)، فمن هذه الرواية وغيرها يتبين انهم عُرِضوا على السيف اما ان تفتي بكذا أو تقتل، فاضطروا للافتاء والرجوع عن الفتوى السابقة، وهو كما قلنا سابقاً: رجوع لا يعتد به، ولا يجوز التعبد به، ولا ينبغي التثريب على العالم بذلك ان ثبت الاكراه.
سابعاً: مجون المفتي:
وأتوقف قليلاً قبل الكتابة في هذا السبب، لأبرر ذكره، حيث انه سبب غير ممتنع نسأل الله تعالى العافية والثبات على دينه، لان الانسان لا يأمن على نفسه الفتنة ما دام هو في هذه الدنيا، وان جرت العادة على ان كثيراً من العلماء قد حفظهم الله وأمنهم من الفتنة في الدين بما في قلوبهم من خشية الله، وبما رزقهم من العلم والورع، والله تعالى يقول: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون) (الأعراف: 99).
وقد يكون من المناسب ذكر قصة احتضار الامام أحمد رحمه الله تعالى التي ذكرها الامام ابن كثير في البداية والنهاية قال: «وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروى عن صالح أيضاً انه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر ان يقول: لا بعد، لا بعد. فقلت: يا أبت! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة؟ فقال: يا بني! ان ابليس واقف في زاوية البيت وهو عاض على اصبعه، وهو يقول: فُتّني يا أحمد؟ فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد» «البداية والنهاية (10/375)».
وقد ضرب الله تعالى مثلاً في كتابه للعالم الضال فقال سبحانه: (واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (الأعراف: 175)
فاذا ضَعُفَ جانب التقوى أخذ بالرخص من غير دليل، وأصدر الفتاوى لشهوة في نفسه، اما مجوناً أو لتحصيل منفعة دنيوية، نسأل الله العافية، وفي مثل هذا العالم قال العلماء: يُحجَرُ عليه، فالحَجْرُ لحفظ الأديان أولى من الحَجْرِ لحفظ الأموال - نسأل الله الثبات على دينه الى يوم لقياه.
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الامام الشوكاني رحمه الله في كتاب ارشاد الفحول قال: «دخل القاضي اسماعيل - يوماً- على المعتضد العباسي، فرفع اليه الخليفة كتاباً وطلب منه ان ينظر فيه، وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء، فقال له القاضي المذكور - بعد ان تأمله: «مصنف هذا زنديق»، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قال: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم الا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد باحراق ذلك الكتاب».
وفي الختام أرجو ان أكون بهذا البحث ساهمت ولو بنزرٍ يسير في توضيح هذه المسألة التي كثر حولها الحديث بين طلبة العلم خاصة وبين الناس عامة، وانصح الا يسارعوا بالنقد أو التجريح من غير بينة ولا علم، والا يجعلوا لعمل الشيطان مندوحة للتفريق بين العلماء وعامة المسلمين والله تعالى يقول: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ انَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ انَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلانْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا).
الفتوى والمفتي
الْفَتْوَى لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِفْتَاءِ، وَالْجَمْعُ: الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي، يُقَالُ: أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إِذَا أَجَبْتَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِلِ مِنَ الأَحْكَامِ، وَتَفَاتَوْا إِلَى فُلانٍ: تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي الْفُتْيَا، وَالتَّفَاتِي: التَّخَاصُمُ، وَيُقَالُ: أَفْتَيْتُ فُلانًا رُؤْيَا رَآهَا: إِذَا عَبَّرْتَهَا لَهُ (لسان العرب).
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا» يوسف 43. (
وَالاسْتِفْتَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْجَوَابِ عَنِ الأَمْرِ الْمُشْكِلِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) الكهف 22، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ سُؤَالٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ» الصافات 11، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيِ اسْأَلْهُمْ.تفسير القرطبي.
والمستفتي: اسم فاعل من الاستفتاء وهو لغة: طالب الفتوى.
وفي الاصطلاح هو: من طلب الحكم الشرعي من المجتهد، فيدخل فيه العامي والمتعلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد.
وَالْفَتْوَى فِي الاصْطِلاحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلٍ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ وَهَذَا يَشْمَلُ السُّؤَالَ فِي الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا. (شرح المنتهى)
وَالْمُفْتِي لُغَةً: اسْمُ فَاعِلِ أَفْتَى، فَمَنْ أَفْتَى مَرَّةً فَهُوَ مُفْتٍ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ،
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: هَذَا الاسْمُ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ وَالاسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الاسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ.(البحر المحيط)
حكم الفتوى
الأصل أن الفتوى فرض كفاية، إذ لا بد أن يوجد في المسلمين من يبين لهم أحكام دينهم فيما يعرض لهم، ولا يُحْسِنُ ذلك كل مكلف، فوجب أن يقوم به من يقدر عليه.
ولم تكن فرض عين لأنها تقتضي تحصيل العلوم الشرعية وليس كل الناس أهلا لها، فلو كلفها كل واحد لأدى ذلك إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة،والأدلة على ذلك كثيرة ومنها:
- قول اللَّـه تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) آل عمران 187)، وقول النبي ـ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (اخرجه الترمذي)
قال جلال الدين المحلي: ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما. (شرح المنهاج للمحلي)
ويجب أن يكون في البلاد مفتون ليعرفهم الناس، فيتوجهوا إليهم بسؤالهم يستفتيهم الناس، وقدر الشافعية أن يكون في كل مسافة قصر واحد. (شرح المنهاج)
متى تكون الفتوى
فرض عين؟
يتعين الجواب على المفتي بشروط:
الأول: ألا يوجد في الناحية غيره ممن يتمكن من الإجابة، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعين على الأول، بل له أن يحيل على الثاني (شرح المنتهى)
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّـه ـ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول (المجموع للنووي)
الثاني: أن يكون المسؤول عالما بالحكم؛ لأن اللَّـه تعالى حرم القول في دين اللَّـه بلا علم.
الثالث: ألا يوجد مانع يمنع المفتي منه، فإذا كان السؤال عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسائل، أو غير ذلك؛ فهذا مانع من وجوب الجواب عليه. (الموافقات)
منزلة الفتوى وخطرها
إن الفتوى من الأمور الجليلة الخطيرة، التي لها منزلة عظيمة في الدين، قال تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن...) [النساء: 127]. وقال تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة...) [النساء: 176]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى هذا الأمر في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، وكلفه ربه بذلك قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل:44]. والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان - نسأل الله العون والصفح عن الزلل - والمفتي موقع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر : «العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم». والمفتي إنما هو العالم بالمسألة التي يفتي فيها، تأسيسا لا تقليدا، مع ملكة في النظر، وقدرة على الترجيح والنظر المستقل في اجتهاد من سبقوه، لا مجرد نقل وحكاية الأقوال. فإن أقدم على الفتوى بمجرد الخرص وما يغلب على الظن فهو آثم، وعمله محرم، وقول على الله وعلى رسوله بغير علم، وهو يتحمل وزر من أفتاه. فعن مسلم بن يسار قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أُفتي بغير علم، كان إثمه على من أفتاه» رواه أبو داود. ولا يشفع له أن يكون أصاب الحق في فتوى بعينها، ذلك أن المفتي إنما يفتي بكلام الله تعالى، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالقياس عليهما، أو بالاستنباط منهما، وهذه لا يجوز فيها الخرص، وقد قال سبحانه : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فقسم الناس في هذا الباب إلى عالم وجاهل، ولم يجعل بينهما واسطة. فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع، والنظر الصحيح، فخطؤه مغفور له ـ إن شاء الله ـ لكن لا يتابع عليه، بل يجب تنبيهه، ويجب عليه الرجوع إلى الحق إذا تبين له. والفتوى قد تختلف من مفت إلى آخر، بحسب الحظ من العلم والبلوغ فيه، والسائل أو المستفتي عليه أن يسأل من يثق في علمه وورعه، وإن اختلف عليه جوابان فإنه ليس مخيرا بينهما، أيهما شاء يختار، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، من حيث علمُ المفتي وورعُه وتقواه، قال الشاطبي رحمه الله: «لا يتخيير، لأن في التخيير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار، ولأن مبنى الشريعة على قول واحد، وهو حكم الله في ذلك الأمر، وذلك قياساً على المفتي، فإنه لا يحل له أن يأخذ بأي رأيين مختلفين دون النظر في الترجيح إجماعاً، وذهب بعضهم إلى أن الترجيح يكون بالأشد احتياطاً» ولعل الصواب أن يكون مناط الترجيح تحقيق مقاصد الشرع، ومراعاة حال المكلفين.
وليعلم المستفتي أنه لا تخلصه فتوى المفتي عند الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها» رواه البخاري. فلا يظن المستفتي أن مجرد فتوى فقيه تبيح له ما سأل عنه، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لعلمه بجهل المفتي، أو بمحاباته له في فتواه، أو لأن المفتي معروف بالحيل والرخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها، فليتق الله السائل، وليعرف خلاص نفسه، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
تعتبر «الفتوى» من القضايا التي تحظى بقدر كبير من الجدل والزخم الاعلامي عند المسلمين وغيرهم خاصة في السنوات الأخيرة بعد الانتشار الكبير والمتزايد لوسائل الاعلام وكثرة عدد الذين يتصدون للافتاء وفي ظل تسارع الأحداث على الساحتين العربية والاسلامية، ما يستتبع بالضرورة ظهور الكثير من الفتاوى التي تثير حالة من الجدل الفقهي، وقد تشهد بعض هذه الفتاوى تراجع أصحابها عنها، وهناك من يرفض التراجع عن فتواه أو تغييرها خوفا من ان يتهم بالضعف أو القصور، وهذا الأمر تحديدا قد لفت اليه مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تركي عيسى المطيري مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، حيث أكد ان تغيير الفتوى من المفتي ليس دليلا على ضعفه أو قصوره العلمي، مشيرا ان هناك خمسة مبررات شرعية تجيز للمفتي الرجوع عن فتواه وهي تغير العرف واختلاف التصور والضرورة واختلاف قوة الدليل، كما ان هناك سببين آخرين لا مبرر له فيها ليرجع عن فتواه وهما الاكراه والمجون.
وقال المطيري في دراسة فقهية: ان الكمال لله وحده.. فمنذ بدء الخليقة لم يصل للكمال مخلوق، ولم يتسم به انسان، والمعصوم من عصمه الله، والناس تتفاوت مراتبهم قرباً من الكمال وبعداً، ولا شك ان العلماء الربانيين هم الأقرب بعد الانبياء لمراتب الكمال، ولكن لم يكن ذلك كافياً في عصمتهم، لاسيما فيما يعلّمون الناس من علوم شرعية، وما كان ذلك الا للقصور البشري الذي خلق الله الناس عليه، ولاختلاف طبائعهم ومستوى الادراك والفهم والاستنباط لديهم.
وبين الفينة والأخرى نسمع ان ثمة عالماً تراجع عن فتوى ظلَّ يفتي بها ردهة من الزمن، وآخر غير في مستوى تشدّده في مسألة كان يأخذ أقصى اليمين فيها، وثالثاً نجده شدّد في مسألة كان يفتي بها بالتيسير، فتختلف أقوال العامة في هذا العالم أو ذاك، فتجد من يتهمه، وتجد من يبرر له، ولو أردنا من خلال النظر والاستقراء ان نستنبط العلة التي تجعل بعض العلماء يغير فتواه سنجد في الغالب ان ذلك التراجع له مسوغ علمي، سواء كان بالتشديد أو التيسير أو التفصيل، هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية... فتابع معنا،،،
يرى مدير ادارة الافتاء بوزارة الأوقاف ان العالم الذي يُغيّر فتواه ليس ذلك بالضرورة دليلاً على ضعفه أو قصور علمه، لان الانسان لم يُخلق كاملاً، بل ان صفات النقص والكمال تتجاذبه، بل هي ظاهرة صحيّة، ومن الأدلة على ان هذا العالم يسير نحو الكمال وان لم يبلغه، ما روى البخاري في تاريخه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: (شهدت عمر بن الخطاب أشرك الاخوة من الأب والأم والاخوة من الأم، فقال له رجل: قضيت عام أول فلم تشرك! قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا)، ولكن ذلك مشروط بان يكون التغيّر تحت مظلة المبرر الشرعي المقبول.
وتابع قائلا: لقد حاولت حصر المبررات التي تدفع بالعالم لتغيير فتواه، فوجدتها تندرج تحت سبعة مبررات من حيث العموم منها المقبول ومنها غير المقبول، وهي كالآتي:
أولاً: تغير العرف: سواء أكان مرتبطاً بالمكان أم بالزمان.
فمثال تغير العرف بالمكان: كان نقول: ان أهل مصر تختلف عاداتهم وأعرافهم عن أهل العراق، ولعل أقرب ما يستشهد به ما حدث مع الامام الشافعي رحمه الله، فان أحد الأسباب التي غير بها اختياراته الفقهية: اختلاف العرف ما بين أهل مصر وأهل العراق، مما نتج عنه تحول كبير في مذهبه، فصار ينعت مذهبه في العراق بالقديم، ومذهبه في مصر بالجديد، وقد ذكر ذلك الامام البيهقي رحمه الله في كتاب مناقب الشافعي حيث قال: «ثم أعاد تصنيف هذه الكتب في الجديد غير كتب معدودة، منها: كتاب الصيام، وكتاب الصداق، وكتاب الحدود، وكتاب الرهن الصغير، وكتاب الاجارة، وكتاب الجنائز، فكان يأمر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد، ثم يأمر بتخريق ما تغير اجتهاده فيها، وربما يدعه اكتفاءً بما ذكر في موضع آخر».
ومن المؤكد ان العرف ليس السبب الوحيد الذي جعل الامام الشافعي يغير فتاواه، لكن هو من الأسباب الرئيسة في ذلك.
والقسم الثاني من تغير العرف هو: تغيره بتغير الزمان، فهناك عادات يرتضيها الناس بينهم من غير خلاف ومن غير مصادمة لنصوص شرعية أو قواعد فقهية فيقرها الفقيه للمصلحة العامة ومثال ذلك: «ما روي عن مالك: اذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول، ان القول قول الزوج، مع ان الأصل عدم القبض، قال القاضي اسماعيل: هذه كانت عادتهم بالمدينة ان الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل اختلاف العوائد». «الاحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص111، 112)».
ثانياً: تغير تصور المسألة في ذهن العالم:
والقاعدة تقول: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، ومثال ذلك: قد يفتي العالم بجواز تناول بعض العقاقير الطبية، لانه بالتجربة ثبت نفع هذه العقاقير، ولا يوجد مانع شرعي من ذلك، ثم يبدو للعالم أمرٌ يجعله يحرم تلك العقاقير، كان يتضح له ان لها أثاراً جانبية مضرة تغلب على منفعتها، أو ينمو الى علمه ان من مكوناتها ما هو محرم كالكحول أو مشتقات خنزير أو ميتة، ولم ترق حالة المريض الى الضرورة التي تدفع العالم الى القول بالجواز، فعند ذلك قد يغير العالم رأيه فيفتي بالتحريم بعدما كان يفتي بالحل.
ثالثاً: تغيّر قوة الدليل لدى العالم:
كأن كان يفتي بمسألة بالتحريم، ثم بدا له ضعف الدليل الذي كان يحرّم من أجله أو العكس، كما حدث مع الامام أحمد في فتواه في حكم صلاة التسابيح، فقد جاء في المغني ان علي بن سعيد الرازي قال: «سألت أحمد بن حنبل عن صلاة التسابيح؟ فقال: ما يصح فيها عندي شيء. فقلت: عبد الله بن عمرو؟ قال: كل يرويه عن عمرو بن مالك - يعني فيه مقال -. فقلت: قد رواه المستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء. قال: من حدثك؟ قلت: مسلم - يعني ابن ابراهيم - فقال: المستمر شيخ ثقة. وكانه أعجبه». قال ابن حجر العسقلاني في أماليه: «فكان أحمد لم يبلغه ذلك أولاً الا من حديث عمرو بن مالك - وهو النكرى -، فلما بلغته متابعة المستمر أعجبه، فظاهره انه رجع عن تضعيفه». اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/43).
ويندرج تحت هذا السبب أيضاً: تغير فتوى العالم في المسألة بسبب بطلان قياسه على مسألة أخرى، لانتفاء العلة المشتركة بينهما بعدما كان يظن تقاسمهما في العلة.
رابعاً: الضرورة أو الحاجة:
وهي أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل العالم يغير فتواه، فقد يجيز المفتي ما حُرّمَ لضرورة الحال، بل ان النص القرآني صريح بان الضرورة تبيح ما حرَّم، حيث يقول الله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم اليه وان كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم ان ربك هو أعلم بالمعتدين) (الانعام: 119).
لذلك يجب على الفقيه ان يستوعب المسألة التي تعتريها ضرورة أو حاجة استيعاباً جيداً، مع استحضار الأدلة الشرعية لها، وان تكون المقاصد الشرعية قائمة في ذهنه، والا يتعجل اطلاق الفتوى فيها لاستحضاره دليلاً ما ويحسب ان ذمته قد برئت، لان هناك بعض المسائل يكون فيها وصف زائد يغير في الحكم ولو تقاسمت بأغلب تفاصيلها مع حكم ما، ولتوضيح ذلك ان أضرب مثالاً - بما ذكره ابن الملقن في كتابه البدر المنير باسناد رجاله ثقات - عن جابر رضي الله عنه انه قال: ( خرجنا في سفر فأصاب رجلا معنا حجر فشجه في رأسه، فاحتلم فسأل أصحابه هل يجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وانت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا اذا لم يعلموا، فانما شفاء العي السؤال، انما يكفيه ان يتيمم أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر من أفتاه بالحكم العام للجنب، انما استنكر عدم سؤالهم عن الصفة الزائدة في المسألة، وهي الغسل مع الجراحة المؤثرة بغسلها على صحة المغتسل.
وهذا مما يؤكد وهو أكيد - ان الشريعة دقيقة في أحكامها مستوعبة لجميع الصور والحوادث ولو مع تغير الأحوال.
خامساً: تغير الفتوى سياسيةً.
فالعالم قد يفتي ببعض الفتاوى تشدداً أو تساهلاً ما لم يخرج عن الاطار الفقهي العام لأسباب تمس الأمن الاجتماعي أو السياسي أو الديني..... الخ، ويقدّرها العالم الثقة الرباني.
ومن أمثلة ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه اناة. فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم).
وكذلك من الأمثلة الحاضرة تلك الحادثة الشهيرة التي جرت مع ابن عباس رضي الله عنهما، فقد ذكر الامام القرطبي في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل الى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (ألمن قتل مؤمناَ متعمداً توبة؟ قال لا، الا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا ان لمن قتل توبة مقبولة، قال: اني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد ان يقتل مؤمناً. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك» وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح. اهـ.
ولا أريد التوسع في هذه النقطة لحساسيتها الشديدة، ولانه قد يساء استعمالها من قبل بعض طلبة العلم الذين لم يتمرسوا جيداً في فهم السياسة الفقهية.
وهذه الخمس المبررات من قسم المقبول بل هي مخارج للعلماء من الوقوع في الخطأ والرجوع الى الحق، ولكن هناك حالتان لابد من التطرق لهما كوننا نريد رصد أسباب رجوع المفتي عن فتواه، كما انه لا يفوتني ان انبه ان هاتين الحالتين غير مقبولتين شرعاً ولا يجوز التعبد بهما وهما:
سادساً: الاكراه: فقد يكره المفتي على التراجع عن فتوى معينة تحت أي سبب كان، كان يهدد في نفسه أو ماله أو ولده، ومثال ذلك ما حدث في زمن الامام أحمد رحمه الله (في فتنة خلق القرآن) حيث أفتى كثير من أهل العلم في زمنه بما يوافق قول المعتزلة، فقد جاء في احدى الروايات التاريخية - كما جاء في ميزان الاعتدال - عندما سئل أحد المفتين بخلق القرآن بخلاف ما كان يفتي به قال: (خفت القتل، ولو انى ضربت سوطاً لمت)، فمن هذه الرواية وغيرها يتبين انهم عُرِضوا على السيف اما ان تفتي بكذا أو تقتل، فاضطروا للافتاء والرجوع عن الفتوى السابقة، وهو كما قلنا سابقاً: رجوع لا يعتد به، ولا يجوز التعبد به، ولا ينبغي التثريب على العالم بذلك ان ثبت الاكراه.
سابعاً: مجون المفتي:
وأتوقف قليلاً قبل الكتابة في هذا السبب، لأبرر ذكره، حيث انه سبب غير ممتنع نسأل الله تعالى العافية والثبات على دينه، لان الانسان لا يأمن على نفسه الفتنة ما دام هو في هذه الدنيا، وان جرت العادة على ان كثيراً من العلماء قد حفظهم الله وأمنهم من الفتنة في الدين بما في قلوبهم من خشية الله، وبما رزقهم من العلم والورع، والله تعالى يقول: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون) (الأعراف: 99).
وقد يكون من المناسب ذكر قصة احتضار الامام أحمد رحمه الله تعالى التي ذكرها الامام ابن كثير في البداية والنهاية قال: «وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروى عن صالح أيضاً انه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر ان يقول: لا بعد، لا بعد. فقلت: يا أبت! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة؟ فقال: يا بني! ان ابليس واقف في زاوية البيت وهو عاض على اصبعه، وهو يقول: فُتّني يا أحمد؟ فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد» «البداية والنهاية (10/375)».
وقد ضرب الله تعالى مثلاً في كتابه للعالم الضال فقال سبحانه: (واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (الأعراف: 175)
فاذا ضَعُفَ جانب التقوى أخذ بالرخص من غير دليل، وأصدر الفتاوى لشهوة في نفسه، اما مجوناً أو لتحصيل منفعة دنيوية، نسأل الله العافية، وفي مثل هذا العالم قال العلماء: يُحجَرُ عليه، فالحَجْرُ لحفظ الأديان أولى من الحَجْرِ لحفظ الأموال - نسأل الله الثبات على دينه الى يوم لقياه.
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الامام الشوكاني رحمه الله في كتاب ارشاد الفحول قال: «دخل القاضي اسماعيل - يوماً- على المعتضد العباسي، فرفع اليه الخليفة كتاباً وطلب منه ان ينظر فيه، وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء، فقال له القاضي المذكور - بعد ان تأمله: «مصنف هذا زنديق»، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قال: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم الا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد باحراق ذلك الكتاب».
وفي الختام أرجو ان أكون بهذا البحث ساهمت ولو بنزرٍ يسير في توضيح هذه المسألة التي كثر حولها الحديث بين طلبة العلم خاصة وبين الناس عامة، وانصح الا يسارعوا بالنقد أو التجريح من غير بينة ولا علم، والا يجعلوا لعمل الشيطان مندوحة للتفريق بين العلماء وعامة المسلمين والله تعالى يقول: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ انَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ انَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلانْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا).
الفتوى والمفتي
الْفَتْوَى لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِفْتَاءِ، وَالْجَمْعُ: الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي، يُقَالُ: أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إِذَا أَجَبْتَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِلِ مِنَ الأَحْكَامِ، وَتَفَاتَوْا إِلَى فُلانٍ: تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي الْفُتْيَا، وَالتَّفَاتِي: التَّخَاصُمُ، وَيُقَالُ: أَفْتَيْتُ فُلانًا رُؤْيَا رَآهَا: إِذَا عَبَّرْتَهَا لَهُ (لسان العرب).
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا» يوسف 43. (
وَالاسْتِفْتَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْجَوَابِ عَنِ الأَمْرِ الْمُشْكِلِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) الكهف 22، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ سُؤَالٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ» الصافات 11، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيِ اسْأَلْهُمْ.تفسير القرطبي.
والمستفتي: اسم فاعل من الاستفتاء وهو لغة: طالب الفتوى.
وفي الاصطلاح هو: من طلب الحكم الشرعي من المجتهد، فيدخل فيه العامي والمتعلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد.
وَالْفَتْوَى فِي الاصْطِلاحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلٍ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ وَهَذَا يَشْمَلُ السُّؤَالَ فِي الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا. (شرح المنتهى)
وَالْمُفْتِي لُغَةً: اسْمُ فَاعِلِ أَفْتَى، فَمَنْ أَفْتَى مَرَّةً فَهُوَ مُفْتٍ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ،
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: هَذَا الاسْمُ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ وَالاسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الاسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ.(البحر المحيط)
حكم الفتوى
الأصل أن الفتوى فرض كفاية، إذ لا بد أن يوجد في المسلمين من يبين لهم أحكام دينهم فيما يعرض لهم، ولا يُحْسِنُ ذلك كل مكلف، فوجب أن يقوم به من يقدر عليه.
ولم تكن فرض عين لأنها تقتضي تحصيل العلوم الشرعية وليس كل الناس أهلا لها، فلو كلفها كل واحد لأدى ذلك إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة،والأدلة على ذلك كثيرة ومنها:
- قول اللَّـه تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) آل عمران 187)، وقول النبي ـ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (اخرجه الترمذي)
قال جلال الدين المحلي: ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما. (شرح المنهاج للمحلي)
ويجب أن يكون في البلاد مفتون ليعرفهم الناس، فيتوجهوا إليهم بسؤالهم يستفتيهم الناس، وقدر الشافعية أن يكون في كل مسافة قصر واحد. (شرح المنهاج)
متى تكون الفتوى
فرض عين؟
يتعين الجواب على المفتي بشروط:
الأول: ألا يوجد في الناحية غيره ممن يتمكن من الإجابة، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعين على الأول، بل له أن يحيل على الثاني (شرح المنتهى)
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّـه ـ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول (المجموع للنووي)
الثاني: أن يكون المسؤول عالما بالحكم؛ لأن اللَّـه تعالى حرم القول في دين اللَّـه بلا علم.
الثالث: ألا يوجد مانع يمنع المفتي منه، فإذا كان السؤال عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسائل، أو غير ذلك؛ فهذا مانع من وجوب الجواب عليه. (الموافقات)
منزلة الفتوى وخطرها
إن الفتوى من الأمور الجليلة الخطيرة، التي لها منزلة عظيمة في الدين، قال تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن...) [النساء: 127]. وقال تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة...) [النساء: 176]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى هذا الأمر في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، وكلفه ربه بذلك قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل:44]. والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان - نسأل الله العون والصفح عن الزلل - والمفتي موقع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر : «العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم». والمفتي إنما هو العالم بالمسألة التي يفتي فيها، تأسيسا لا تقليدا، مع ملكة في النظر، وقدرة على الترجيح والنظر المستقل في اجتهاد من سبقوه، لا مجرد نقل وحكاية الأقوال. فإن أقدم على الفتوى بمجرد الخرص وما يغلب على الظن فهو آثم، وعمله محرم، وقول على الله وعلى رسوله بغير علم، وهو يتحمل وزر من أفتاه. فعن مسلم بن يسار قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أُفتي بغير علم، كان إثمه على من أفتاه» رواه أبو داود. ولا يشفع له أن يكون أصاب الحق في فتوى بعينها، ذلك أن المفتي إنما يفتي بكلام الله تعالى، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالقياس عليهما، أو بالاستنباط منهما، وهذه لا يجوز فيها الخرص، وقد قال سبحانه : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فقسم الناس في هذا الباب إلى عالم وجاهل، ولم يجعل بينهما واسطة. فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع، والنظر الصحيح، فخطؤه مغفور له ـ إن شاء الله ـ لكن لا يتابع عليه، بل يجب تنبيهه، ويجب عليه الرجوع إلى الحق إذا تبين له. والفتوى قد تختلف من مفت إلى آخر، بحسب الحظ من العلم والبلوغ فيه، والسائل أو المستفتي عليه أن يسأل من يثق في علمه وورعه، وإن اختلف عليه جوابان فإنه ليس مخيرا بينهما، أيهما شاء يختار، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، من حيث علمُ المفتي وورعُه وتقواه، قال الشاطبي رحمه الله: «لا يتخيير، لأن في التخيير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار، ولأن مبنى الشريعة على قول واحد، وهو حكم الله في ذلك الأمر، وذلك قياساً على المفتي، فإنه لا يحل له أن يأخذ بأي رأيين مختلفين دون النظر في الترجيح إجماعاً، وذهب بعضهم إلى أن الترجيح يكون بالأشد احتياطاً» ولعل الصواب أن يكون مناط الترجيح تحقيق مقاصد الشرع، ومراعاة حال المكلفين.
وليعلم المستفتي أنه لا تخلصه فتوى المفتي عند الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها» رواه البخاري. فلا يظن المستفتي أن مجرد فتوى فقيه تبيح له ما سأل عنه، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لعلمه بجهل المفتي، أو بمحاباته له في فتواه، أو لأن المفتي معروف بالحيل والرخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها، فليتق الله السائل، وليعرف خلاص نفسه، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.