صبحي غندور / ثنائية القضايا: أحاديّة التفكير... وازدواجية المعايير!
19 أغسطس 2012
12:00 ص
1165


| صبحي غندور |
بعض الأوطان العربية يعاني الآن من تحدّيات تجمع بين خطر التدخّل الخارجي وخطر الصراعات الداخلية، بل ربّما مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل.
أوطانٌ عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معاً. فلا الناس راضية عن الحاكم ولا هي مقتنعة أيضاً بالمعارضة البديلة. فهذه أوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معاً.
حتّى في البلاد التي لا تعاني من ثنائية تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد الاختلال في ثنائية ميزاني العدل السياسي والعدل الاجتماعي.
أيضاً، نلمس الآن ثنائية أزمة الهويتين الدينية والثقافية في المجتمعات العربية، حيث أصبحت الهوية الوطنية (وأحياناً الهوية الاثنية) وكأنّها نقيض للهوية القومية العربية وفي مواجهتها. كذلك أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء الى الدين الواحد والقيَم الدينية المشتركة.
هذه الثنائيات في الواقع العربي الراهن يُلازمها مرض عربي مزدوج يقوم على أحادية التفكير وازدواجية المعايير، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هو محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد قرونٍ زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج اذ تظهر عندها بصورةٍ جليّةٍ أكثر مساوئ وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
انّ واقع الحال العربي الآن لا يحمل رؤية عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة في معظم الأحيان والحالات، لكن المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع هو توفّر الفكر السليم الذي يقود ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن الى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معاً، وفي وقتٍ واحد، الايمان الديني الرافض للتعصّب والفتنة، والولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، كما هي الحاجة أيضاً لتأكيد الهُويّة العربية في مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات.
فالحديث هو دائماً عن «أمَّة عربية» بينما هي أوطان وحكومات متعدّدة، وأحياناً متصارعة، وبينما المتعاملون مع هذه الأمّة العربية من قوًى اقليمية ودولية هم أمم موحّدة بكل معاني التوحّد أو التكامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى كان شبيهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشكّل تحدّياً أو خطراً على غيرها. فالعرب أمّةٌ منقسمة تتعامل مع أممٍ متّحدة!!
لكن في اطار التساؤل عن كيفيّة الخروج من هذه المحنة التي تعيشها الآن الأمة العربية، هل دور الفكر هو هامشيٌّ في العلاج المطلوب للمرض العربي المزدوج؟ لو كان الأمر كذلك، كيف نُفسِّر تحوّل مسارات أمم بفعل أفكار سبقت نهوض تلك الأمم؟!
حدث ذلك مع العرب أولاً حينما ظهرت الدعوة الاسلامية، ولاحقاً عندما استوعبت الخبرة العربية والاسلامية أفكار حضاراتٍ أخرى. كما حدث ذلك أيضاً مع الأوروبيين في القرون الوسطى من خلال تأثّرهم آنذاك بأفكار الفيلسوف ابن رشد، فكانت «المدرسة الرشدية» هي وراء الدعوة لاستخدام العقل بعد عصور الظلام الأوروبي وتحريك سياقات الاصلاح والتنوير. كذلك كانت لأفكار الثورة الفرنسية تأثيرات كبيرة على شعوب عديدة في العالم، وهكذا كان الأمر مع الأفكار والنظريات التي غيّرت في القرن الماضي مجرى تاريخ روسيا والصين وبلدان أخرى.
لكن هذه الحقيقة البَدَهيّة لا تأخذ الآن موقعها الصحيح في سياق التفاعلات التي تشهدها حالياً عموم البلاد العربية. فالنقطة المركزية الآن، التي يتمحور حولها الاهتمام السياسي والاعلامي العربي، هي مسألة الديمقراطية كعملية اجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه الى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً، وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفيّة المشاركة الشعبية في الحياة العامّة.
والحديث عن الفكر لا يعني فقط النخب المثقفة في المجتمع، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.
كذلك، فانّ الفكر السائد الآن في المنطقة العربية تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، بحيث يعود البعض في تحليله لغياب الديمقراطية في الأمَّة الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي وما رافقها من انقلابات عسكرية، وكأنّ تاريخ هذه الأمَّة قبل ذلك كان واحةً للديمقراطية السليمة وللعدل الاجتماعي والنزاهة في الحكم!
الحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمَّة العربية الآن من ظواهر انقسامية مرَضيّة بأسماء طائفية أو مذهبية أو عرقية، حيث ينظر البعض اليها من أطر جغرافية ضيّقة وبمعزل عن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهويّة القومية اللذين يقوم كلاهما على التعدّدية ورفض التعصّب أو الانغلاق الفئوي.
أيضاً، تظهر المشكلة الفكرية بشكل حادٍّ في كيفيّة قبول بعض العرب والمسلمين عموماً لمبدأ استخدام العنف الدموي المسلّح ضدَّ مدنيين أبرياء، أينما حصل ذلك، من حكومات أو من معارضات، دون وجود ضوابط فكرية حازمة في التعامل مع هذا الأمر.
***
في مطلع القرن الماضي، ومنذ خضوع المنطقة للاحتلال أو الهيمنة الغربية، مروراً بمرحلة الثورات والانقلابات العسكرية، خضع الفكر العربي لثنائية قطبية جعلته في معظم الأحيان بحال «الفكر الأحادي» الذي يقوم على آحادية فكرية تُناقض أيّ فكرٍ آخر..
فالفكر الليبرالي العربي المتأثّر بالغرب كان في بدايات القرن العشرين يطرح نفسه نقيضاً للدين وللهويّة القومية، في مقابل تيّارات دينية أو قومية آحادية التفكير أيضاً.
والفكر القومي العربي طرح نفسه دون تلازم أو ترابط مع البعد الديني الحضاري الهام في الحياة العربية، ولا مع الممارسة الديموقراطية كأساس للتجربة الداخلية السياسية والعلاقات القومية على الساحة العربية.
ثمّ جاءت طروحات «الفكر الاسلامي» التي تصادمت في معظمها مع الهويّة القومية ومع المسألة الديموقراطية، كما استباح بعض الحركات الاسلامية استخدام العنف المسلّح ضدّ أبناء الوطن الواحد.
أمّا الآن، فالمنطقة العربية تشهد ظاهرة «الفكر الديموقراطي» بمعزل عن أيّة قضية أخرى، حتى بمعزل عن حرّية الأوطان ووحدة المجتمعات والكيانات الوطنية.
وهكذا تنتقل الأمَّة من فكرٍ آحادي الى آخر آحادي أيضاً، لكن في الواقع يقوم الآن على «ثنائية أزمات الداخل والخارج معاً»، وتحكمه ازدواجية المعايير في التعامل مع هذه الأزمات.
وينطبق الآن على حال الأوطان العربية، والعالم الاسلامي عموماً، وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
انّ المسلمين عموماً، والعرب منهم خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الدينية، مدعوون الى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم، والى التساؤل عن مخاطر ازدواجية المعايير لديهم، وعن مدى تطبيق الغايات النبيلة في ما هو منصوصٌ عليه من قيم وواجبات دينية.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم) بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الانسان في كثير من المجتمعات العربية والاسلامية؟ وأين الوحدة في هذه المجتمعات، وأينَها بين بعضها البعض؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء في مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجدّدة؟ أين رفض التعصّب والتمييز العرقي والاثني والطائفي؟ أين المسلمون من جوهر اسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس»، بعدما حملت رسالةً تدعو الى الايمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الانسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!
انّ الشعوب هي مجموعة أفراد، والوطن هو مجموعة مواطنين، لذلك فانّ المستقبل العربي يتوقّف الآن على ممارسات كلّ فرد فيه، ويتحمّل كلّ مفكر عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح الخلل في «الفكر الآحادي» ووقف الازدواجية في المعايير..
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
[email protected]
بعض الأوطان العربية يعاني الآن من تحدّيات تجمع بين خطر التدخّل الخارجي وخطر الصراعات الداخلية، بل ربّما مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل.
أوطانٌ عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معاً. فلا الناس راضية عن الحاكم ولا هي مقتنعة أيضاً بالمعارضة البديلة. فهذه أوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معاً.
منذ 15 ساعة
منذ 15 ساعة
حتّى في البلاد التي لا تعاني من ثنائية تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد الاختلال في ثنائية ميزاني العدل السياسي والعدل الاجتماعي.
أيضاً، نلمس الآن ثنائية أزمة الهويتين الدينية والثقافية في المجتمعات العربية، حيث أصبحت الهوية الوطنية (وأحياناً الهوية الاثنية) وكأنّها نقيض للهوية القومية العربية وفي مواجهتها. كذلك أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء الى الدين الواحد والقيَم الدينية المشتركة.
هذه الثنائيات في الواقع العربي الراهن يُلازمها مرض عربي مزدوج يقوم على أحادية التفكير وازدواجية المعايير، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هو محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد قرونٍ زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج اذ تظهر عندها بصورةٍ جليّةٍ أكثر مساوئ وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
انّ واقع الحال العربي الآن لا يحمل رؤية عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة في معظم الأحيان والحالات، لكن المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع هو توفّر الفكر السليم الذي يقود ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن الى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معاً، وفي وقتٍ واحد، الايمان الديني الرافض للتعصّب والفتنة، والولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، كما هي الحاجة أيضاً لتأكيد الهُويّة العربية في مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات.
فالحديث هو دائماً عن «أمَّة عربية» بينما هي أوطان وحكومات متعدّدة، وأحياناً متصارعة، وبينما المتعاملون مع هذه الأمّة العربية من قوًى اقليمية ودولية هم أمم موحّدة بكل معاني التوحّد أو التكامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى كان شبيهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشكّل تحدّياً أو خطراً على غيرها. فالعرب أمّةٌ منقسمة تتعامل مع أممٍ متّحدة!!
لكن في اطار التساؤل عن كيفيّة الخروج من هذه المحنة التي تعيشها الآن الأمة العربية، هل دور الفكر هو هامشيٌّ في العلاج المطلوب للمرض العربي المزدوج؟ لو كان الأمر كذلك، كيف نُفسِّر تحوّل مسارات أمم بفعل أفكار سبقت نهوض تلك الأمم؟!
حدث ذلك مع العرب أولاً حينما ظهرت الدعوة الاسلامية، ولاحقاً عندما استوعبت الخبرة العربية والاسلامية أفكار حضاراتٍ أخرى. كما حدث ذلك أيضاً مع الأوروبيين في القرون الوسطى من خلال تأثّرهم آنذاك بأفكار الفيلسوف ابن رشد، فكانت «المدرسة الرشدية» هي وراء الدعوة لاستخدام العقل بعد عصور الظلام الأوروبي وتحريك سياقات الاصلاح والتنوير. كذلك كانت لأفكار الثورة الفرنسية تأثيرات كبيرة على شعوب عديدة في العالم، وهكذا كان الأمر مع الأفكار والنظريات التي غيّرت في القرن الماضي مجرى تاريخ روسيا والصين وبلدان أخرى.
لكن هذه الحقيقة البَدَهيّة لا تأخذ الآن موقعها الصحيح في سياق التفاعلات التي تشهدها حالياً عموم البلاد العربية. فالنقطة المركزية الآن، التي يتمحور حولها الاهتمام السياسي والاعلامي العربي، هي مسألة الديمقراطية كعملية اجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه الى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً، وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفيّة المشاركة الشعبية في الحياة العامّة.
والحديث عن الفكر لا يعني فقط النخب المثقفة في المجتمع، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.
كذلك، فانّ الفكر السائد الآن في المنطقة العربية تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، بحيث يعود البعض في تحليله لغياب الديمقراطية في الأمَّة الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي وما رافقها من انقلابات عسكرية، وكأنّ تاريخ هذه الأمَّة قبل ذلك كان واحةً للديمقراطية السليمة وللعدل الاجتماعي والنزاهة في الحكم!
الحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمَّة العربية الآن من ظواهر انقسامية مرَضيّة بأسماء طائفية أو مذهبية أو عرقية، حيث ينظر البعض اليها من أطر جغرافية ضيّقة وبمعزل عن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهويّة القومية اللذين يقوم كلاهما على التعدّدية ورفض التعصّب أو الانغلاق الفئوي.
أيضاً، تظهر المشكلة الفكرية بشكل حادٍّ في كيفيّة قبول بعض العرب والمسلمين عموماً لمبدأ استخدام العنف الدموي المسلّح ضدَّ مدنيين أبرياء، أينما حصل ذلك، من حكومات أو من معارضات، دون وجود ضوابط فكرية حازمة في التعامل مع هذا الأمر.
***
في مطلع القرن الماضي، ومنذ خضوع المنطقة للاحتلال أو الهيمنة الغربية، مروراً بمرحلة الثورات والانقلابات العسكرية، خضع الفكر العربي لثنائية قطبية جعلته في معظم الأحيان بحال «الفكر الأحادي» الذي يقوم على آحادية فكرية تُناقض أيّ فكرٍ آخر..
فالفكر الليبرالي العربي المتأثّر بالغرب كان في بدايات القرن العشرين يطرح نفسه نقيضاً للدين وللهويّة القومية، في مقابل تيّارات دينية أو قومية آحادية التفكير أيضاً.
والفكر القومي العربي طرح نفسه دون تلازم أو ترابط مع البعد الديني الحضاري الهام في الحياة العربية، ولا مع الممارسة الديموقراطية كأساس للتجربة الداخلية السياسية والعلاقات القومية على الساحة العربية.
ثمّ جاءت طروحات «الفكر الاسلامي» التي تصادمت في معظمها مع الهويّة القومية ومع المسألة الديموقراطية، كما استباح بعض الحركات الاسلامية استخدام العنف المسلّح ضدّ أبناء الوطن الواحد.
أمّا الآن، فالمنطقة العربية تشهد ظاهرة «الفكر الديموقراطي» بمعزل عن أيّة قضية أخرى، حتى بمعزل عن حرّية الأوطان ووحدة المجتمعات والكيانات الوطنية.
وهكذا تنتقل الأمَّة من فكرٍ آحادي الى آخر آحادي أيضاً، لكن في الواقع يقوم الآن على «ثنائية أزمات الداخل والخارج معاً»، وتحكمه ازدواجية المعايير في التعامل مع هذه الأزمات.
وينطبق الآن على حال الأوطان العربية، والعالم الاسلامي عموماً، وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
انّ المسلمين عموماً، والعرب منهم خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الدينية، مدعوون الى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم، والى التساؤل عن مخاطر ازدواجية المعايير لديهم، وعن مدى تطبيق الغايات النبيلة في ما هو منصوصٌ عليه من قيم وواجبات دينية.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم) بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الانسان في كثير من المجتمعات العربية والاسلامية؟ وأين الوحدة في هذه المجتمعات، وأينَها بين بعضها البعض؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء في مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجدّدة؟ أين رفض التعصّب والتمييز العرقي والاثني والطائفي؟ أين المسلمون من جوهر اسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس»، بعدما حملت رسالةً تدعو الى الايمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الانسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!
انّ الشعوب هي مجموعة أفراد، والوطن هو مجموعة مواطنين، لذلك فانّ المستقبل العربي يتوقّف الآن على ممارسات كلّ فرد فيه، ويتحمّل كلّ مفكر عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح الخلل في «الفكر الآحادي» ووقف الازدواجية في المعايير..
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي