مقال

لو كان محمود حيّاً

تصغير
تكبير
| ابراهيم صموئيل |

يتساءل العديد هذه الأيام: ما الذي كان يمكن أن يكتبه محمود درويش لو أنه حيّ يشهد بقامته الشعرية الكبيرة حلول فصل الربيع العربي؟ وهو تساؤل مشروع لأسباب كثيرة في مقدمتها أن درويش ربيع شعري وارف، والحدث ربيع سياسي اجتماعي وارف الدلالات أيضاً.

كنّا سنكون ازاء ربيعين بلا شك: ربيع يزهر النشدان الى الحرية والكرامة، وربيع يبرع في التعبير عن ذلك الاخضرار الذي يغسل رماد البؤس عن قلوبنا، وسواد الظلم الذي أناخ على حيواتنا.

كنا سنكون أمام تجربة شعرية ليس أبرز ما فيها مفرادتها الأدبية، وانما أصالتها وصميميتها وصدقها الانساني. وهذا ليس من باب التنبؤ، بل من مجموع ما تركه لنا محمود درويش في منجزه الشعري وكتاباته المختلفة.

تستحضر الذاكرة محمود درويش الآن في الذكرى الرابعة على غيابه، وتستحضره ازاء حاضر يتبدّل ويتغيّر على نحو غير مسبوق، ولا عهد لشعوبنا العربية به. تستحضره الذاكرة لأن القامات الابداعية الكبيرة تشمخ وتسمو وتعطي بالتحولات الكبرى، وهذي تتفتّح على دلالاتها، وتتكشّف عن لبّها وجوهرها جراء رؤيتها من أصحاب القامات الابداعية، ورؤية مستقبلها كاليمامات الزرقاء.

لو كان محمود حيّاً الآن لكنّا ارتوينا من فيض شعره، من رذاذ اشاراته ومجازاته واستعاراته وصوره، ولكان تعطشنا ارتوى لا من الفن وتجلياته فحسب، وانما أيضاً من اتجاه بوصلة روحه ووجدانه واحساسه الدفين. فالشعراء الشوامخ يرون ما قد لا نراه، ويطلّون على مشاهد وخفايا يمكن أن تكون غائبة عن أبصارنا وبصائرنا، ويحدسون بما قد لا يراودنا ولا يخطر لنا ولا يقلقل استرخاء اطمئناننا.

الآن، في غيابه، نشعر بالحاجة اليه رغم أننا لم نغفل عن منجزه الشعري منذ ديوانه الأول «آخر الليل نهار». نشعر بالحاجة الى روحه التي تتلمّس الضوء في أشدّ لحظات الظلمة. ونشعر بالحاجة الى روحه التي تتلمّس الظلمة في أوضح الصباحات المخادعة. درويش الذي سما بالفن الشعري، وبالرؤية أيضاً، فبتنا اذ يُمتع سحر الكلمات ذائقتنا، يوسّع عمق الرؤيا بصيرتنا ويفسح في المدى أمامها.

هذه هي المأثرة الكبرى لمحمود درويش التي عايشنا مضمونها ومراحلها ومكوّناتها وتجدّدها على مدار عقود كانت مزدحمة بالأحداث الكبيرة، ومكتنزة بفنون القول وأجناس الابداع وصروح الثقافة. لسنا أيتاماً بعد رحيله، فالشعوب لا تتيتّم طالما هي حيّة، وشعلة الابداع لا ترفعها يدٌّ واحدة. ثمة أيادٍ من جيل درويش مثّلت منارات، وثمة أيادٍ من أجيال تالية تبشّر بأن تكون.

لكنّ الأحداث والتحولات، وخصوصاً حين تكون كبرى ومصيرية وشاملة على نحو ما جاء بها الربيع العربي، تحفز الذاكرة وتحثّها على استعادة كبار المبدعين الذين عانوا، على الأخص، من الحيف والظلم والقهر والتشرد والقمع والاذلال، وحلموا، جراء ذلك، بالحرية والكرامة والبلاد المعافاة من مختلف صنوف المغتصبين والقامعين، وعبّروا بمنجزهم الأدبي عن أرفع وأعمق وأنبل ما في تجارب الناس الذين اكتووا وحلموا وحققوا في الآن نفسه. ألهذا اعتملت الرغبة داخل قلوب الكثيرين - وأنا منهم - لمناسبة حلول الذكرى الرابعة لرحيل محمود درويش في (8-8-2008) بأن يكون حيّاً بيننا، يشهد على ما يتهاوى ويسقط، وعلى ما ينبثق ويولد، وعلى ما يُنتظر ويُؤمل، ليضيف الى جديد الحياة جديداً تعبيرياً شعرياً نبتهج به ونغتبط، كما ابتهجنا بجديد الربيع واغتبطنا بدلالاته؟!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي