مقال / «مستر» هيكل... سلاسة التبرير والاتهام!!

تصغير
تكبير
| بقلم محمد رشيد |

نشأت على قراءة ما يكتب الاستاذ محمد حسنين هيكل، ليس لما ينضح منه من عروبة، لان ليس لكردي مثلي ان ينزلق الى ذلك البعد القومي الواضح، بل لروح التحرر والاستقلال. تلك الروح التي تمتع بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تحرر من الاستعمار والقهر والاستغلال.

السيد هيكل، اعطي حق تملك ما لم يتح لغيره، تملك الوثائق التاريخية للزعيم جمال عبد الناصر، وما بعد ناصر، في بدايات عصر الرئيس أنور السادات، وحق التصرف بتلك الوثائق كما يشاء، وكما لم يتح لأي كاتب او صحافي مصري وغير مصري، خزائن معلومات وأرشيف مصر كانت مفتوحة امام رجل واحد وحيد، محمد حسنين هيكل.

قابلت السيد هيكل ثماني او سبع مرات، كان معظمها برفقة الزعيم الراحل ياسر عرفات، الا مرتين: الاولى في طائرة الخطوط الجوية البريطانية بين لندن و القاهرة، و الثانية في المنتجع الايطالي المميز «سردينيا». وفي كلا اللقاءين كانت العلاقة ودية للغاية، بحكم الاحترام الكبير الذي احمله لصاحب قلم هو افضل كاتب عربي بين قرنين، لكني لم اخف اختلافي معه يوما. ففي التاريخ هوامش وفواصل لا يلتفت اليها الناس عادة، لكنها تنخر في الرواية وتحطم مصداقيتها التاريخية لتسبب انهيار الرواية المتخيلة امام الوقائع والحقائق.

نعم، الزعيم جمال عبد الناصر كان نظيفا، طاهرا، حالما، صادقا ومحررا، لذلك احبه، لكن عبد الناصر لم يعرف طريق الديموقراطية يوما ولم يعترف بقيمة الرأي الاخر والتنوع السياسي وانتقال السلطة وربما كان ذاك العصر، الخمسينات والستينات كذلك، عصر الزعيم الفرد الملهم، لكن ذلك «الصح» لا يحول الخطأ الى «صح». فلا فرد ممكن ان ينوب عن القانون، ولا زعيم يمكن ان يمحو حقوق المجتمع، او اختلافات الرأي والرؤية.

نظرية الحاكم المعصوم، الملهم الجبار، البطل المنتصر، حتى حين يهزم، هزيمة الحاكم الفرد انتصار، ما دام النظام لم يسقط، تلك كانت هي النظرية المسيطرة على قلوب وعقول العرب والاستاذ هيكل، احد مؤسسي ومنظري تلك المدرسة في العالم العربي، فما كان يكتبه بالقلم لا يبعد كثيرا عن ما كان يقوله احمد سعيد بالصوت.

اليوم نسأل، بعد عقود، لماذا الزعيم جمال عبد الناصر و ليس هواري بومدين او حافظ الاسد او معمر القذافي؟ أو ليسوا جميعا يرفعون الشعارات نفسها، و يصرحون بنفس القيم الروحية والسياسية و الفكرية؟ او ليسوا جميعا بشّروا بروح الامة العربية وأهدافها الخالدة؟ نعم فعلوا.

لننتقل الى العصر الحالي، فالثورات العربية ضيّقت هوامش المناورة للسيد محمد حسنين هيكل. ففي حين ابتهج السيد هيكل بثورة تونس ورحّب بحرارة مبالغ بها بثورة ليبيا، وكتب باحتفال عن ثورة الشعب المصري، بل كتب «بشماتة» قصة «البقرة الضاحكة»، عن الرئيس السابق حسني مبارك، شعر بالغصة، وتعثر عند الثورة السورية في موقف مؤلم وفاضح، تعبيرا عن الأوهام الأسطورية، او تعبيرا عن مصالح مهددة بالخطر.

انفجرت قريحة الاستاذ هيكل عن تحذيرات متأخرة من عوارض ومخاطر الثورات العربية، وتلك حالة نفسية تقليدية للمثقف المتفلسف، الذي يحاول تطويع الواقع خدمة لأفكاره ومواقفه الشخصية، وذلك هو الأرشيف الشخصي للسيد هيكل على امتداد سنين عمره، اطال الله في عمره، فما يتعارض مع مفاهيمه ومصالحه «حرام» ويستحق العقاب السماوي، بل خيانة وطنية وقومية، ما لم تحصل على شهادة حسن سلوك من «الاستاذ»، القيم على العالم العربي، ووطنية الحكام و الافراد فيه!!.

معضلة السيد هيكل الحالية معلقة مباشرة بثورة الشعب السوري ضد طاغية دمشق بشار حافظ الاسد. فالسيد هيكل، لم يقبل ان الشعب السوري في ثورة حرية وكرامة منذ البداية، مارس إرهابا فكريا على الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، واوقعه في سلسلة من الأخطاء والكوارث، فعل ذلك بحكم القرابة، و قال السيد هيكل علنا «ما لم تصل الثورة الى دمشق وحلب، فهي ليست ثورة».

وبعد ان اجتاحت الثورة عاصمتي المال والحكم في سورية، بدأ السيد هيكل الحديث عن «مؤامرة دولية جديدة».

من غير إساءة الظن بالسيد هيكل، مع ان كل الأسباب الموضوعية لإساءة الظن متوافرة وقوية، فانه يعتقد، لسبب ما، بان ما لم يقبله هو شخصيا، يعد مؤامرة خارج النص والسياق، وان الثورة السورية تحقيق لـ «سايكس بيكو» جديد في العالم العربي. فهل تلك هي النرجسية الشخصية، ام محاولة قلب الواقع ليطابق القناعات الشخصية المشوهة؟ هل السيد هيكل يعتقد بالنبوءة، ام انه مثقف أضل الطريق، ام مثقف كرس قلمه للمصالح والأوهام؟

مسكين الشعب السوري، بقلب ابيض عروبي طيب، عرف منذ عقود السيد محمد حسنين هيكل واحبه كثيرا لقربه من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وثق بكل ما يكتب ويقول، لان اصدقاء ناصر الخلص لا يكذبون ولا يخادعون.

ها هو، السيد هيكل يقول، وبعد 20 الف شهيد واكثر من 200 الف مفقود وأسير، جريح او لاجئ، «انتم لستم ثوارا، وانتم في الطريق الخطأ تنفذون مؤامرة دولية كبرى، وما انتم الا ادوات لسايس بيكو جديد، وبشار الاسد بطل الصمود وسيد الممانعة، سيدكم، يتعرض لمؤامرة دولية واقليمية كبرى. انتم الشعب السوري وقودها، و ثورتكم مؤامرة دولية كبرى على مستقبل هذه الامة».

نظرية «الاستاذ» الاخيرة عن مؤامرة دولية مربعة الأضلاع، تشبه الى حد كبير اتجاهات الارض الاربعة.

فما لم يتآمر علينا الغرب، الشرق سيفعل حتما، وان نجونا من الشمال، فنحن عالقون في حبائل الجنوب، وكلهم: اميركا واوروبا وتركيا وايران واسرائيل، يحملون خرائط «سايكس بيكو» الجديدة، ومن ينتصر، ينفذ المؤامرة.

ما لا يعرفه «الاستاذ» هيكل، ان بيننا شعوبا قاتلت واستعادت كرامتها، والحكم السيئ لم يكن محصورا بنظام بن علي ومبارك و القذافي، بل يمتد بامتياز الى اليمن، وبخاصة الى أصدقائه في سورية، فان كان الرئيس مبارك حاكما غير عادل، فان بشار الاسد كان حاكما ظالما وقاتلاً حاكما فاسدا وطائفيا بامتياز، نظام لا تجوز فيه الرأفة ولا يستحق العطف والشفقة، نظام يجب محاكمته على كبرى مجازر العصر الحديث.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي