مقال / بين السطح والقاع

تصغير
تكبير
| إبراهيم صموئيل |
أسوأ ما في حوارٍ يجري بين معارضٍ لنظام سياسي استبدادي وبين مبخرٍّ له هو أن يتمحور حول تفصيلات صغيرة غير قابلة للحسم من المستمعين والمشاهدين، كأنْ ينقضي نصف الوقت المخصص لحوار على شاشة التلفاز عمّا إذا كانت المحطة الفضائية كذا أو الوسيلة الإعلانية المعينة، العربية أو الأجنبية، كاذبة، مفبركة للأحداث، ومضخمة لها... أم هي صادقة، مهنية، وتنقل الأحداث بأمانة؟ أو يدور الحوار حول تفصيل من نوع: هل بادرت قوات النظام إلى إطلاق النار على المتظاهرين، أو أحرقت منزلاً، أو نهبت منشأة... أم أن مسلحين معارضين هم الذي بادروا إلى إطلاق النار، وأن المتظاهرين هم من أقدموا على حرق المنزل أو نهبوا المنشأة؟ وهل ثمة أجندات خارجية أم لا؟
سيدور الحوار ويلف في حلقة مفرغة يتصل أولها بآخرها، كما لو كان يدور حول أسبقية الوجود في الحياة: للبيضة أم للدجاجة؟! ومع الدوران ستتناثر النعوت والاتهامات الشخصية المتبادلة، وسيستميت كل طرفٍ في تأكيد صحة معلومته وصدقية بياناته بالتفصيلة التي يتطاير ريش الجدل، بل المشاجرة، حولها!!
لا أريد الاستعانة بمقولة فيما إذا كان الشيطان يكمن في التفاصيل أم لا. فالتفاصيل، في كل ثورة، هائلة لا حدود لها من جهة ومن جهة أخرى هي لدى هذا ما لدى الآخر من تفاصيل معاكسة، ما يودي بجوهر الموضوع ويحرف الحوار عن مسار غايته، ويُدخل الجميع في متاهة لا مخارج لها!
من النادر أن يتوقف معارض بأناة، وعمق، مع الجوهر واللب والأساس الذي أدى إلى قيام الثورات مثل التساؤل عن الحكمة والمبرر خلف استئثار شخص واحد أوحد بحكم البلاد لعشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة ليس في القرون الوسطى وإنما في القرن الحادي والعشرين؟ في ظل أي اعتبار أو شريعة سماوية أو تشريع أرضي وُهبت إدارة بلادٍ تضم الملايين من مختلف العقول والمشارب والمستويات إلى واحدٍ أوحد؟ من النادر أن يتم التوقف بأناة وعمق مع الحاجات الضرورية لتطوير البلاد إلى تولي أبناء الحاكم، وإخوته، وأبناء عمومته، وأبناء أخواله، ودائرة أقربائه المناصب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية دون الملايين من العقول والطاقات الموجودة في البلاد؟ ما مقدار دخل الثروات الوطنية (كالنفط الليبي مثلاً) وما مدى قدرتها على النهوض بالبلاد والتقدم بها؟ ثم، في بلاد غنية كهذه ما متوسط دخل الفرد فيها بالقياس إلى دول متطورة ومتشابهة في الثروات؟ كم مساحة الأراضي الصالحة والمستثمرة في الآن نفسه؟ ما عدد المهاجرين، وما أعداد الأيدي العاملة خارج البلاد؟ ما نسبة المستورد إلى الصادر؟ ومن حقل آخر كم من السنوات مضت على إعلان حالة الطوارئ والعمل بها وكم من سجناء رأي وكم مضى من سنوات على اعتقالهم؟ ناهيك عن عدد المنتديات والمراكز الثقافية غير الحكومية الموجودة في البلاد، وعن الإنتاج السينمائي والعروض المسرحية... وعن عشرات الأسس والمكونات والبُنى التي تتشكّل بها ومنها الدول المتقدمة في العالم؟
نادراً ما يتم التوقف مع مسائل كبرى كهذه، مؤسَّسة، وموثّقة بالأرقام والمعطيات على الأرض، والتي تشكّل أحوالها وحقائقها الدوافع الكبرى للاحتجاجات والانتفاضات الشعبية والثورات في دول الربيع العربي. نادراً ما يتم التساؤل: ما المنتظر في ما يُفترض أنها دول في القرن الحادي والعشرين هذا واقعها وهذه أحوالها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والثقافية... الخ ما المنتظر حدوثه سوى أن يأتي يوم تتزلزل فيه الأرض، وتنشق عن المكبوت من الظلم والقهر والإفقار والاستبداد، ليخرج المسحوقون من كل فجٍّ ووادٍ، ومن كل الألوان والدوافع والاتجاهات والأغراض والمعتقدات، المرتبط منهم بالخارج وغير المرتبط، الهادف إلى الحرية أو الهادف إلى الكسب أو الهادف إلى مئات التفاصيل... علَّ حجر الصوان الضخم الرازح فوق رؤوسهم ينقلب ويتكسّر كي تدخل البلاد في احتمالات، أياً كانت، بدلاً من أن تبقى رازحة تحت ثابت أبدي ساكن كالقدر؟!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي