قصة قصيرة / المجد للثلاجة

من أعمال الفنان أمين الباشا


| محمد سامي البوهي |
الجو بارد... بارد جداً...
بحثت عن نظارتي اليوم صباحا فاخبرتني ابنتي انها في الثلاجة... أسرعت الخطى إلى الثلاجة فلم أجدها في مكانها المعتاد على يمين طاولة المطبخ... نسيت أمر النظارة وأخذت أبحث عن الثلاجة فأخبرتني زوجتي أن الجيران استعاروها بالامس لأنهم فقراء ولا توجد لديهم ثلاجة يضعون فيها كيلو اللحم الذي اشتروه بعد عناء... انهيت ارتداء ملابسي ونزلت أبحث عن السيارة..أين صففتها بالأمس..أين؟- يوووه - لقد سئمت ذاكرتي المكانية اللعينة... أخبرني جاري الفقير الذي استعار الثلاجة أنه رأى سيارتي في غرفة البواب يستعملها كسرير لأولاده الخمسة بعد أن أنجبت له زوجته توأما ليلة أمس... نسيت أمر السيارة وسألته عن الثلاجة فاحمر وجهه و لم يكترث لسؤالي ومضى يردد بغضب «حرام عليكوا... ده كيلو لحمة... لحمة يا ناااس»، شعرت بحرج شديد وغمرني العرق... غمرني جدا... جدا... جدا... الطقس بارد... بارد جدا... جدا... جدا- أتحدث إلى نفسي كما العادة، كثيرا ما اتحدث إلى نفسي فهي الوحيدة التي يمكن ان تسمعني دون مشادات ومشاجرات ووجهات نظر وجدال ووجع قلب... إذا سألوح لتاكسي وبعد عناء يتوقف السائق وبقرف يسألني عن وجهتي، وتبدأ المناهدة للاتفاق على الأجرة وهو يذل أنفاسي بالمشوار الطويل الذي ستقطعه سيارته المصون مرورا بالمطبات والبالوعات والاشارات والمطالع والمنازل والملفات والكباري والزحام والاعتصامات والمظاهرات، التي ستجبره على تغيير مساره ليدخل من بين الحواري والأزقة والشوارع الضيقة ثم يقطع كلامه ليخشن صوته: «ما تخلصنا يا أستاذ... عايزين نشوف أكل عيشنا»، وفي النهاية أجلس إلى جواره فيتحف رأسي طوال الطريق عن زوجته التي حرقت دمه «ع الصبح»، حتى أنه غادر بيته تاركا خلفه طبق الفول المعتبر، بعد ردحهاالمعتاد عن ايراد التاكسي الاسود الذي لم يعد يكفي لشراء كيس جوافة، واقتراحها الجهنمي بتغييره إلى تاكسي أبيض ثم ينعطف بي يمينا على الدوري العام والحكم الحمار، الذي احتسب ركلة جزاء غير صحيحة واللاعب، الذي أضاع هدفا محققا والمدرب الغبي الذي ابدل اللاعب الفلاني باللاعب العلاني، وفي النهاية يسب هذا وذاك ثم يعزم علي بسيجارة وينعطف بي يسارا ويسألني عن رأيي في الثورة و«العيال بتوع التحرير»، ولا ينتظر فيصعد بي على عجلة الانتاج والبورصة وحال البلد الضائع وسقوط الدولة والعسكر والشرطة والاخوان والسلفيين والاقباط والاحزاب والفلول والانتخابات والبلطجية والعصابات والمحاكمات... ثورة؟... محاكمات؟... بلطجية؟... عصابات؟! أسائل نفسي مذهولا من وقع الكلمات. السائق أنفه كبير... كبيرجدا... الجو بارد... بارد جدا.
إذا فلن أذهب إلى العمل اليوم وسأصعد إلى شقتي في الدور السادس أو الرابع أو الحادي عشر على ما أذكر... سأرتدي البيجامة والبورنس والطرطور وأصنع لنفسي فنجانا من الشاي، وأجلس أمام التلفاز أتفرج على الناس من بعيد... بعيد جدا... قاطعني البواب الذي استعار السيارة بأن المالك نقل السلم والمصعد إلى عمارته الجديدة، لأن سكانها يدفعون أكثر وترك لنا حبلا نتسلقه في الصعود والنزول... لم أهتم بما قاله وسألته عن السيارة فاحمر وجهه وانتفخت عيناه ومضى يردد بغضب: «دول سبع عيال وأمهم... سبع عيال وأمهم يا عااالم»، وقفت أمام الحبل ووضعت يدي على كرشي المتهدل ونظرت لأفخاذي الملتصقة وتحسست أردافي المنبعجة وتراجعت إلى الخلف قليلا لإحداث قفزة توافقية، استعيد بها لياقتي المحطمة منذ سنوات طوال... لكني توقفت عندما تفاجأت بزوجتي تتدلى من الحبل وتضع قدمها الأخيرة على الارض لانهاء الهبوط... كانت ترتدي بيجامتي الحرير وبورنسي النبيتي وطرطوري الأخضر وتحمل في يدها حقيبة سفر... زوجتي نحيفة... نحيفة جداً... لا أكاد أراها تحت الأغطية الشتوية الثقيلة، لم تعبأ بوجودي وبخطوات سريعة غادرت العمارة وهي تبرطم بكلمات لم أفهمها... دائما ما تبرطم بكلمات لا أفهما.
تراجعت للخلف مرة أخرى وملأت رئتي بالهواء وكتمت أنفاسي وابتلعت كرشي وقررت القفز، قفزت بالفعل... يحملني الهواء الآن... يدي تمتد... ينتصب جسدي... ترتعش أًصابعي... أين الحبل؟ الحبل؟ إنه مرسوم هناك على الحائط، قبضت على الهواء... شيء ما يرتطم بالأرض، الدماء تسيل من رأسي، رأسي كبيرة... كبيرة جدا... لفظت أنفاسي الأخيرة... لم أعبأ بالأمر كثيراً.
أخبرني مالك العمارة انني لايمكن ان افارق الحياة قبل أن اسدد الايجار، وادفع رسوم صيانة المصعد واجرة الزبال واكرامية البواب وفواتير الكهرباء والماء والنظافة والغاز والضريبة العقارية، فقاطعته وبلهجة باردة نطقت: «ثورة... ثورة..ثو... صو... صو!»، فهاج وماج و ضرب رأسه في الجدار مرتين أو خمس مرات لا اذكر- واخذ يقفز كأنثى الشمبانزي ثم شرع سبابته في وجهي: «الثورة دي هناك في التحرير مش هنا في عمارتي... فاهم؟»، أنزل سبابته وتقدم نحوي بغيظ، جاذبا الحبل المرسوم على الحائط و لفه حول عنقي وتركني اتدلى... اتدلى جدا... ثم رحل تاركا خلفه قهقهات لزجة... ورائحة غريبة.
في جنازتي العسكرية أسير خلف نعشي... خلف نعشي تماما لم أكن ضابطا في الجيش يوما ما ولا حتى أديت الخدمة العسكرية ربما أنا بطل الآن يعرفه الجميع وتتناقل صوره نشرات الأخبار وتعقد حوله الموائد في برامج «التوك شو» وتلصق صوره على الجدران وعربات الكشري والبطاطا والمدمس والذرة، وربما تجدها مع الباعة الجائلين في ميدان التحرير والمقاهي والاشارات واتوبيسات النقل العام، وربما يتبرع أحدهم ليرفعها على أعمدة الكهرباء في الشوارع والحواري والطرق والكباري والميادين... أبكاني المشهد جدا... الكل يضحك... الكل يسخر من نعش لفوه في ورق السوليفان ووضعوا فوقه شريطا أحمر ثم ألقوا به على عربة مدفع.
في جنازتي...
أرى زوجتي ترتدي بيجامتي الحرير وبورنسي النبيتي وطرطوري الاخضر... وأرى جاري الذي استعار الثلاجة من أجل كيلو اللحم الذي اشتراه بعد عناء يحمل ثلاجتي فوق رأسه... وأرى بواب العمارة الذي استعارالسيارة من أجل أن يستخدمها لأولاده الخمسة بعد أن انجبت له زوجته توأما ليلة أمس يجرسيارتي خلفه، المجد للثلاجة... المجد للسيارة... المجد للطرطور- هكذا كانوا يهتفون- عاش مجنوناً ومات بطلاً- هكذا كانوا يهمسون- الجو بارد... بارد جداً... وضعت ابنتي النظارة فوق نعشي وقبلتني على رأسي وغابت بينهم.
[email protected]
الجو بارد... بارد جداً...
بحثت عن نظارتي اليوم صباحا فاخبرتني ابنتي انها في الثلاجة... أسرعت الخطى إلى الثلاجة فلم أجدها في مكانها المعتاد على يمين طاولة المطبخ... نسيت أمر النظارة وأخذت أبحث عن الثلاجة فأخبرتني زوجتي أن الجيران استعاروها بالامس لأنهم فقراء ولا توجد لديهم ثلاجة يضعون فيها كيلو اللحم الذي اشتروه بعد عناء... انهيت ارتداء ملابسي ونزلت أبحث عن السيارة..أين صففتها بالأمس..أين؟- يوووه - لقد سئمت ذاكرتي المكانية اللعينة... أخبرني جاري الفقير الذي استعار الثلاجة أنه رأى سيارتي في غرفة البواب يستعملها كسرير لأولاده الخمسة بعد أن أنجبت له زوجته توأما ليلة أمس... نسيت أمر السيارة وسألته عن الثلاجة فاحمر وجهه و لم يكترث لسؤالي ومضى يردد بغضب «حرام عليكوا... ده كيلو لحمة... لحمة يا ناااس»، شعرت بحرج شديد وغمرني العرق... غمرني جدا... جدا... جدا... الطقس بارد... بارد جدا... جدا... جدا- أتحدث إلى نفسي كما العادة، كثيرا ما اتحدث إلى نفسي فهي الوحيدة التي يمكن ان تسمعني دون مشادات ومشاجرات ووجهات نظر وجدال ووجع قلب... إذا سألوح لتاكسي وبعد عناء يتوقف السائق وبقرف يسألني عن وجهتي، وتبدأ المناهدة للاتفاق على الأجرة وهو يذل أنفاسي بالمشوار الطويل الذي ستقطعه سيارته المصون مرورا بالمطبات والبالوعات والاشارات والمطالع والمنازل والملفات والكباري والزحام والاعتصامات والمظاهرات، التي ستجبره على تغيير مساره ليدخل من بين الحواري والأزقة والشوارع الضيقة ثم يقطع كلامه ليخشن صوته: «ما تخلصنا يا أستاذ... عايزين نشوف أكل عيشنا»، وفي النهاية أجلس إلى جواره فيتحف رأسي طوال الطريق عن زوجته التي حرقت دمه «ع الصبح»، حتى أنه غادر بيته تاركا خلفه طبق الفول المعتبر، بعد ردحهاالمعتاد عن ايراد التاكسي الاسود الذي لم يعد يكفي لشراء كيس جوافة، واقتراحها الجهنمي بتغييره إلى تاكسي أبيض ثم ينعطف بي يمينا على الدوري العام والحكم الحمار، الذي احتسب ركلة جزاء غير صحيحة واللاعب، الذي أضاع هدفا محققا والمدرب الغبي الذي ابدل اللاعب الفلاني باللاعب العلاني، وفي النهاية يسب هذا وذاك ثم يعزم علي بسيجارة وينعطف بي يسارا ويسألني عن رأيي في الثورة و«العيال بتوع التحرير»، ولا ينتظر فيصعد بي على عجلة الانتاج والبورصة وحال البلد الضائع وسقوط الدولة والعسكر والشرطة والاخوان والسلفيين والاقباط والاحزاب والفلول والانتخابات والبلطجية والعصابات والمحاكمات... ثورة؟... محاكمات؟... بلطجية؟... عصابات؟! أسائل نفسي مذهولا من وقع الكلمات. السائق أنفه كبير... كبيرجدا... الجو بارد... بارد جدا.
إذا فلن أذهب إلى العمل اليوم وسأصعد إلى شقتي في الدور السادس أو الرابع أو الحادي عشر على ما أذكر... سأرتدي البيجامة والبورنس والطرطور وأصنع لنفسي فنجانا من الشاي، وأجلس أمام التلفاز أتفرج على الناس من بعيد... بعيد جدا... قاطعني البواب الذي استعار السيارة بأن المالك نقل السلم والمصعد إلى عمارته الجديدة، لأن سكانها يدفعون أكثر وترك لنا حبلا نتسلقه في الصعود والنزول... لم أهتم بما قاله وسألته عن السيارة فاحمر وجهه وانتفخت عيناه ومضى يردد بغضب: «دول سبع عيال وأمهم... سبع عيال وأمهم يا عااالم»، وقفت أمام الحبل ووضعت يدي على كرشي المتهدل ونظرت لأفخاذي الملتصقة وتحسست أردافي المنبعجة وتراجعت إلى الخلف قليلا لإحداث قفزة توافقية، استعيد بها لياقتي المحطمة منذ سنوات طوال... لكني توقفت عندما تفاجأت بزوجتي تتدلى من الحبل وتضع قدمها الأخيرة على الارض لانهاء الهبوط... كانت ترتدي بيجامتي الحرير وبورنسي النبيتي وطرطوري الأخضر وتحمل في يدها حقيبة سفر... زوجتي نحيفة... نحيفة جداً... لا أكاد أراها تحت الأغطية الشتوية الثقيلة، لم تعبأ بوجودي وبخطوات سريعة غادرت العمارة وهي تبرطم بكلمات لم أفهمها... دائما ما تبرطم بكلمات لا أفهما.
تراجعت للخلف مرة أخرى وملأت رئتي بالهواء وكتمت أنفاسي وابتلعت كرشي وقررت القفز، قفزت بالفعل... يحملني الهواء الآن... يدي تمتد... ينتصب جسدي... ترتعش أًصابعي... أين الحبل؟ الحبل؟ إنه مرسوم هناك على الحائط، قبضت على الهواء... شيء ما يرتطم بالأرض، الدماء تسيل من رأسي، رأسي كبيرة... كبيرة جدا... لفظت أنفاسي الأخيرة... لم أعبأ بالأمر كثيراً.
أخبرني مالك العمارة انني لايمكن ان افارق الحياة قبل أن اسدد الايجار، وادفع رسوم صيانة المصعد واجرة الزبال واكرامية البواب وفواتير الكهرباء والماء والنظافة والغاز والضريبة العقارية، فقاطعته وبلهجة باردة نطقت: «ثورة... ثورة..ثو... صو... صو!»، فهاج وماج و ضرب رأسه في الجدار مرتين أو خمس مرات لا اذكر- واخذ يقفز كأنثى الشمبانزي ثم شرع سبابته في وجهي: «الثورة دي هناك في التحرير مش هنا في عمارتي... فاهم؟»، أنزل سبابته وتقدم نحوي بغيظ، جاذبا الحبل المرسوم على الحائط و لفه حول عنقي وتركني اتدلى... اتدلى جدا... ثم رحل تاركا خلفه قهقهات لزجة... ورائحة غريبة.
في جنازتي العسكرية أسير خلف نعشي... خلف نعشي تماما لم أكن ضابطا في الجيش يوما ما ولا حتى أديت الخدمة العسكرية ربما أنا بطل الآن يعرفه الجميع وتتناقل صوره نشرات الأخبار وتعقد حوله الموائد في برامج «التوك شو» وتلصق صوره على الجدران وعربات الكشري والبطاطا والمدمس والذرة، وربما تجدها مع الباعة الجائلين في ميدان التحرير والمقاهي والاشارات واتوبيسات النقل العام، وربما يتبرع أحدهم ليرفعها على أعمدة الكهرباء في الشوارع والحواري والطرق والكباري والميادين... أبكاني المشهد جدا... الكل يضحك... الكل يسخر من نعش لفوه في ورق السوليفان ووضعوا فوقه شريطا أحمر ثم ألقوا به على عربة مدفع.
في جنازتي...
أرى زوجتي ترتدي بيجامتي الحرير وبورنسي النبيتي وطرطوري الاخضر... وأرى جاري الذي استعار الثلاجة من أجل كيلو اللحم الذي اشتراه بعد عناء يحمل ثلاجتي فوق رأسه... وأرى بواب العمارة الذي استعارالسيارة من أجل أن يستخدمها لأولاده الخمسة بعد أن انجبت له زوجته توأما ليلة أمس يجرسيارتي خلفه، المجد للثلاجة... المجد للسيارة... المجد للطرطور- هكذا كانوا يهتفون- عاش مجنوناً ومات بطلاً- هكذا كانوا يهمسون- الجو بارد... بارد جداً... وضعت ابنتي النظارة فوق نعشي وقبلتني على رأسي وغابت بينهم.
[email protected]