إصلاح القلوب والجوارح مشاهدة المنة / ومطالعة عيوب النفس

تصغير
تكبير
مقالات رمضانية رُقمت بقلم:

الدكتور/ وليد محمد عبدالله العلي



اذا أراد الله بعبده خيراً: فتح له من أبواب التَّوبة والنَّدم والانكسار والذُّلِّ والافتقار والاستعانة به وصدق اللَّجأ اليه ودوام التَّضرُّع والدُّعاء والتَّقرُّب اليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السَّيِّئة به رحمته، حتَّى يقول عدوُّ الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه.

قال الحسن البصريُّ رحمه الله تعالى: (انَّ المُؤمن ليُذنب الذَّنب: فلا يزال كئيباً حتَّى يدخل الجنَّة).

ومعنى قوله: انَّ الذَّنب لا يزال نصب عينيْه، مُشفقاً منه وجلاً باكياً نادماً، مُستحيِّاً من ربِّه تعالى، ناكس الرَّأس بين يديْه، مُنكسر القلب له، فيكون ذلك الذَّنب: أنفع له من طاعاتٍ كثيرةٍ بما ترتَّب عليه من هذه الأُمور، التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتَّى يكون ذلك الذَّنب: سبب دُخوله الجنَّة.

وهذا بخلاف من يفعل الحسنة، فلا يزال يمنُّ بها على ربِّه ويتكبَّر بها، ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيُورثه من العجب والكِبْر والفخر والاستطالة: ما يكون سبب هلاكه.

فاذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً: ابتلاه بأمرٍ يكسره به ويُذِلُّ به عُنقه ويُصغِّر به نفسه عنده، وان أراد به غير ذلك: خلاه وعُجْبه وكِبْره، وهذا هو الخُذلان المُوجب لهلاكه.

فانَّ العارفين كُلَّهم مُجمعون على أنَّ التَّوفيق: ألا يكلك الله تعالى الى نفسك، والخُذلان: أن يكلك الله تعالى الى نفسك، فمن أراد الله به خيراً: فتح له باب الذُّلِّ والانكسار ودوام اللَّجأ الى الله تعالى والافتقار اليه ورُؤية عُيوب نفسه وجهلها وعُدوانها، ومُشاهدة فضل ربِّه واحسانه ورحمته وجُوده وبِرِّه وغناه وحمده، فالعارف سائرٌ الى الله تعالى بين هذيْن الجناحيْن، لا يُمكنه أن يسير الا بهما، فمتى فاته واحدٌ منهما: فهو كالطَّيْر الذي فقد أحد جناحيْه.

فالعارف يسير الى الله بين مُشاهدة المنَّة، ومُطالعة عيب النَّفس والعمل، وهذا معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (سيِّد الاستغفار: أن تقول: اللَّهُمَّ أنت ربِّي لا اله الا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فانَّه لا يغفر الذُّنوب الا أنت) أخرجه البُخاريُّ عن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه.

فجمع في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي): مُشاهدة المنَّة، ومُطالعة عيب النَّفس والعمل.

فمُشاهدة المنَّة: تُوجب له المحبَّة والحمد والشُّكر لوليِّ النِّعم والاحسان، ومُطالعة عيب النَّفس والعمل: تُوجب له الذُّلَّ والانكسار والافتقار والتَّوبة في كُلِّ وقتٍ، وألا يرى نفسه الا مُفلساً.

وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى: هو الافلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلَّق به ولا وسيلة منه يمنُّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْف والافلاس المحض: دخول من كسر الفقرُ والمسكنةُ قلبَه، حتَّى وصلت تلك الكسرة الى سُويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كُلِّ جهاته، وشهد ضرورته الى ربِّه عزَّ وجلَّ وكمال فاقته وفقره اليه، وأنَّ في كُلِّ ذرَّةٍ من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة تامَّة وضرورة كاملة الى ربِّه تبارك وتعالى، وأنه ان تخلَّى عنه طرفة عيْنٍ: هلك وخسر خسارة لا تُجبر، الا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق الى الله أقرب من العُبوديَّة، ولا حجاب أغلظ من الدَّعوى.



أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت وإمام وخطيب المسجد الكبير بدولة الكويت



w-alali@hotmail.com



DrWaleed_ALAli@
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي