«الراي» زارت مخيم تخوم صيدا حيث الاعتصام الذي يقطع طريق الجنوب اللبناني... فمن يأسر مَن في اعتصام الأسير؟

أحمد الأسير ... الشيخ الصيداوي يلعب وحيداً ويلاعب الكبار

تصغير
تكبير
| بيروت - من وسام ابو حرفوش |

فجأة خرج لاعب جديد على الشاشة، وفجأة بدا انه يخرج على «اللعبة»، حاولت ان «تلعب» به الشاشة وكاد ان يتسبب بحرق الشاشة و... اصابع اللاعبين.

بعدما فهم اللعبة قرر ان يلعب وحيداً، وعلى مرمى حجر من الملعب البلدي على المدخل الشمالي لمدينة صيدا رسم حدود ملعبه في وسط الطريق... ها هو يلعب مع الكبار.

إنه الشيخ (الذي لا يشبه سواه) احمد الأسير، فـ «البروباغندا» الاعلامية سارعت الى جعله «نجماً» لغاية في نفس من يحلو لهم الترويج لـ«التشدد السني» وتخويف المسيحيين بـ«اللحى الطويلة» والايحاء بأفول سعد الحريري ورصيده الشعبي بعد «المالي».

ربما أدرك الشيخ «المغمور» وباكراً اللعبة، وبـ«سطر واحد» أفسد على شاشات فتحت له الهواء على مصرعيه، استخدامه «فزاعةً» يوم اول اطلالة له في اعتصام في وسط بيروت، حين خاطب «إخوتنا المسيحيين... وجودكم حماية لنا».

وربما استهوته اللعبة لاحقاً وكذلك الاضواء والشاشات المفتوحة الشهية. وسريعاً انتقل الشيخ الصيداوي من ظاهرة صوتية إلى قنبلة صوتية، وها هو الآن صار لاعباً ولو في «العراء السياسي».

يوم اطل من اعتصام رمزي في ساحة الشهداء وسط العاصمة بيروت تنديداً بالنظام السوري، وكان الى جانبه الفنان الرومنسي الشهير فضل شاكر، سارعت اصوات قريبة من «حزب الله» بينها النائب السابق ناصر قنديل، ومن على شاشة «المنار» الى... تلقفه.

كان لسان حال قنديل البارع في «علم الكلام» ان الأسير «قيادة شابة تتلمس طريقها وهو ظاهرة شعبية تملك جاذبية، ولا يجرؤ على ما يقوله من يعمل عند مرتزقة». ودعاه في «خطاب مديح» الى تعبئة الفراغ الذي نجم عن غياب الرئيس رفيق الحريري.

هذا «التجرؤ» على قول ما لا يقوله الآخرون بلغ بالأسير، الذي أدهش قنديل، حد مخاطبة رئيس البرلمان نبيه بري (رئيس حركة «امل») والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بطريقة غير مألوفة وفيها قدر كبير من التحدي.

لم يمنع هذا الجنوح في خطابٍ وصف بأنه ينضح بـ «تطاول» على زعيمي الثنائية الشيعية من فتح تلفزيون «الجديد» الهواء للشيخ الاسير، ولم يمنع اضطرار المحطة الى إصدار بيان اعتذار عن استضافته من محاولة «حرقها» من أنصار هذه «الثنائية» وبالصوت والصورة.

هذا الصعود «الصاروخي» لنجم الاسير اغوى الشيخ ابن الـ 44 عاماً وأغراه، فإختار ضرب الحديد وهو حامٍ عبر «فتح النار» على سلاح «حزب الله»، ونصب لهذه الغاية خيماً اعتراضية في اعتصام مفتوح وسط الطريق على احد المداخل الشمالية لصيدا عاصمة جنوب لبنان والممر الإجباري إليه.

فمنذ 27 يونيو الماضي يقطع الاسير وأنصاره بوابة من اثنتين للعبور من بيروت الى الجنوب وبالعكس على التخوم الشمالية لصيدا، ملوحاً بمد إعتصامه على البول?ار الشرقي للمدينة الى كورنيشها الغربي على النحو الذي من شأنه عزل منطقة الجنوب ذات الغالبية الشيعية.

تحول مكان الاعتصام الى ما يشبه «استوديو» تلفزيوني في الهواء الطلق وبـ «مكبرات الصوت» أعلن الاسير شرطه الوحيد لفتح الطريق والمتمثل بالحصول على ضمانات فعلية لبدء مناقشة سبل التخلص من سلاح «حزب المقاومة»، كما يحلو له تسمية «حزب الله»، ولأسباب استفاض في شرحها عبر إطلالاته اليومية.

بدا الأسير وكأنه «أسير» اعتصامه بعدما رفع الجميع، لا سيما في صيدا «الغطاء السياسي» عن تحركه، فأضحى في ما يشبه «العراء»، خصوصاً عندما تصدر رئيس كتلة «المستقبل» رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، الاكثر عناداً في مناهضته لـ«حزب الله»، طاولة صيداوية جمعت الأضداد للإعلان عن تبرؤ الجميع من تحرك الأسير.

الدولة ممثلة بـ «وزيرها الأمني»، وزير الداخلية مروان شربل حاولت «مفاوضة» الشيخ لإقناعه بالحاجة الى فك اعتصامه ما دام شرطه معالجة سلاح «حزب الله» يناقش على طاولة الحوار، التي يصفها الأسير بـ «طاولة غوار»، نسبة الى «غوار الطوشه» الشخصية الهزلية للممثل السوري دريد لحام.

اما «حزب الله» فالتزم الصمت وكأنه «يعض على الجرح» لـ «حراجة» موقفه، فحزب «الترسانة» الضخمة يعجز عن «مقاومة» الأسير تجنباً لفتنة سنية ـ شيعية، ولا يرغب في «الاعتراف به» او محاورته، وقد اختار، بحسب قريبين منه، تمرير موقف للحريري مؤداه «سوليدير مقابل طريق الجنوب».

ربما يراهن «حزب الله» على «انتفاضة صيداوية» لإنهاء اعتصام الأسير بعدما ارتفعت اصوات المتضررين، من اصحاب المحال التجارية والهيئات الاقتصادية، تطالب الشيخ بفتح الطريق بعدما ادى قفلها لإرهاق اقتصاديات المدينة المرهقة اصلاً كسواها من مدن الجمهورية المتعبة.

واحتار المراقبون في بيروت في مقاربة هذه الشخصية، التي اقل ما يقال عنها انها «ملتبسة» الى حد اعتقاد المرتابين منها، تارة انها ظاهرة «مخابراتية»، وتارة اخرى انها مدفوعة من جهات اقليمية ومدفوع لها بدليل ان الاعتصام المفتوح يحتاج الى تمويل مفتوح.

واللافت ان الارتياب من الأسير شكل مفارقة جمعت الاضداد في بعض «الشارعين» السني والشيعي من مغبة تحوله «فتيلاً» يوقظ الفتنة غير النائمة اساساً وسط «هشيم» الواقع اللبناني المترنح على حافة الهاوية السورية.

من هو هذا الشيخ الذي صار الاعلام أسير أخباره اليومية؟ لماذا اختار التصويب بـ«المباشر» على «حزب الله»؟ من اين اتى وكيف يؤتي بـ «قوته» وكأنه يواجه الجميع؟ على ماذا يتكئ؟ ما سر جرأته وتجرؤه؟ ماذا عن خطواته اللاحقة؟ ومتى يفك أسر عاصمة الجنوب؟

على متن هذه الاسئلة انتقلنا الى صيدا،... الى الاعتصام الذي شغل البلاد وعبادها منذ اسابيع. وهناك التقينا إمام مسجد بلال بن رباح الشيخ احمد الأسير، فحاولنا فك بعض «ألغاز» هذه الشخصية «المستجدة» على المسرح السياسي.





شباب الـ «توكي ووكي» الاشداء الذين تحولت سمرتهم داكنة تحت الشمس، يستقبلون زوار الاعتصام داخل جغرافيا مزنرة بأشرطة ملونة والمسقوفة على عجل و«المسكونة» بكراسٍي كثيرة وبأعداد قليلة من الرجال والنساء والأطفال، يزدادون بعد انتهاء دوام العمل وفي كل يوم جمعة.

اصطحبنا احد هؤلاء الشبان الى الشيخ الأسير الذي همّ بالانتهاء من تناول الفطور مع حلقة من المعتصمين، ثم انتقلنا الى خيمته «المبردة»، وسط يافطات تحمل شعارات سياسية غالباً ما يرددها الشيخ عبر وسائل الإعلام وفي خطب يوم كل جمعة يختار له عنوانا على غرار ما يجري في ميادين الثورات العربية.

رجل نحيل، ممشوق في جلباب، ولحية طولها عشرون عاماً، في عينيه سر تحجبه نظرات مكتومة من خلف النظارات، كلامه على طريقة «السهل الممتنع»، وأكثر المفارقات التي يجسدها في «الشكل والمضمون» انه رجل دين من خارج الصورة النمطية لـ «الإسلاميين».

هو في بطاقة الهوية احمد الأسير الحسيني، «في العام 2005 رفعت دعوى تصحيح نسب، فعائلتنا في الاساس الحسيني، نسبة الى علي بن الحسين رضي الله عنه، ولكن اخطاء ارتكبها المختارون ادت الى تجهيل النسب. والدي من آل الأسير اما اخوته فمن الاسير الحسيني وكذلك جدي. استمرت الامور كذلك حتى العام 2005 حين رفعت دعوى فتم تصحيح الامر».

نصف الأسير، السني المتهم بإثارة الغرائز المذهبية، شيعي: «والدتي شيعية من آل حاجو من منطقة صور في جنوب لبنان، لكن خصمنا السياسي يستعمل كل الاساليب لحرق صورتنا محاولاً دائماً التركيز على شكلي للايحاء بانني مذهبي، رغم ان الشعارات المرفوعة في الاعتصام تقول: ألف تحية من صيدا لكل شيعي ومسيحي ودرزي حر».

ويحرص الأسير دائماً على الخروج باستنتاجات تخدم «قضيته المركزية»، اي التصويب على سلاح «حزب الله»، فهو يرى ان اتهامه بـ «المذهبية» سببه «هيمنة حزب الله على غالبية الطائفة الشيعية الكريمة، والهيمنة بسلاحه على كل اللبنانيين. هنا المشكلة وليست بين السنّة والشيعة».

... تربيتَ في كنف عائلة مختلطة، والد سنّي ووالدة شيعية، فماذا عنى لك ذلك؟ كيف انعكس الامر عليك؟ سألنا الاسير الذي قال: «اكثر من ذلك، الأجمل في طفولتي انني ترعرعت في حارة صيدا (ذات غالبية شيعية)، فأصدقائي جميعهم من «الحارة»، ولم نكن نعرف ماذا يعني سنّي وماذا يعني شيعي، ولكن عندما ظهر ما يسمى بالمقاومة بدأت تتغذى الحال المذهبية، وخصوصاً بعد اغتيال رفيق الحريري وتخوين رموز السنة ومحاولة نشر المذهب الشيعي على طريقة ولاية الفقيه في مناطقنا، وهي الامور التي استفزت الساحة».

وكيف هي علاقة «المتهم» بالتجرؤ على الزعامة السياسية الشيعية بأقربائه من الشيعة (اخواله وخالاته)؟ يجيب: «علاقتي بهم جيدة جداً، خالاتي عددهن كبير ونشأتُ في بيوتهن وأولادهن اصدقائي، لكن كما هو معروف صار اخيراً من يحب (السيد) حسن نصرالله ملزماً تعطيل عقله، فإذا انتقدته اصبحتَ عدواً لمن يحبه، لذا بعض اقاربي يكرهونني، اما بالأعم الاغلب فخالاتي على محبة كبيرة لي».

لم ينشأ الشيخ في بيت متدين «والدي كان مطرباً (بلال الأسير)، وعرفت الدين بجهد شخصي حين بحثت عنه وكان عمري 16 سنة». لكن ما سر هذه «النقلة» من ضفة الى ضفة في حياة الفتى؟ يجيب «ربما الاحداث القاسية التي مررنا بها كالاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 والحرب في شرق صيدا، فالبلاء الذي يصيب الانسان يعيده الى ربه».

تحت وطأة هذا «البلاء» بدأ الفتى الصيداوي، ابن المدينة المحافظة يسأل «لماذا انا موجود؟ من خلقني؟ لماذا انا مسلم؟ وفي النتيجة اكرمنا الله بالهداية». وقادته هذه الاسئلة تالياً الى كلية الشريعة التابعة لدار الفتوى في العام 1995، «ولم اكمل الماجستير بسبب انشغالاتي».

كان الاسير في طباعه الشخصية اسماً على مسمى «في صغري كنت خجولاً جداً وانطوائياً لا احب الجماعة والناس، غير انني التحقت في صفوف الجماعة الاسلامية (جماعة شبيهة بالاخوان المسلمين) وكنت في عمر الـ 16 سنة، ولم اجد ما ابحث عنه، وتعرفت لاحقاً الى الدعوة والتبليغ العالمي وكنت في حينه في الـ 19 واطلعت على مفاهيم معينة، لكن اكتشفت ان من يديرون هذا العمل لم يفهموا ما فهمته، فحصل التباين وانتقلت الى الاهتمام في الشأن العام، وهو الامر الذي يعاكس شخصيتي لاضطراري لزيارة الناس في البيوت والمقاهي، وفي الخمارات والنوادي وعلى شاطئ البحر. فالدعوة والتبليغ لا يقتصران على الدروس في المسجد بل تملي على المرء زيارة الناس حيث هم».

عندما خرج الاسير من «أسره» كشخصية انطوائية انطلق في حركته الدعوية في اتجاه المناطق اللبنانية الاخرى ومن ثم طار في رحلات خارجية الى اليمن، واوكرانيا وباكستان والهند، وصار له جمهور لكن حركته كانت بعيدة عن العدسات، الا انه «عندما اصبحت لدينا مقاربات سياسية نتيجة الاوضاع الخطرة التي مررنا بها كاغتيال الحريري وما تلاه خرجنا عبر الاعلام خصوصاً بعد احداث 7 مايو 2008 (العملية العسكرية لحزب الله في بيروت وبعض مناطق الجبل) واندلاع الثورة السورية».

وتجري الآن محاولات لإقناع الاسير بتشكيل حزب يجمع جمهوره لكنه لا يرى جدوى من ذلك «العمل الحزبي لا يفيد عملي الدعوي، ورغم انني افكر ملياً بالموضوع (تشكيل حزب) فأزداد اقتناعاً برغبتي في ألا اكون محصوراً بعمل حزبي».

رغم مظهره الذي يوحي بالتشدد، فإن تصرفات الاسير لا تعكس الصورة النمطية لـ«التطرف». يركب دراجة هوائية، يهدي احدى الاعلاميات زجاجة عطر ويخاطب المسيحيين بانفتاح لافت. وهو يقول حول ذلك «اشد ما اعانيه في ممارسة الدعوة، الفهم المغلوط لطبيعة الدعوة الاسلامية نتيجة اداء بعض رجال الدين وبعض الحركات الاسلامية. وسلوكي ناجم عن فهمي لهذه الدعوة، وليس تأثراً بالبيئة التي اعيش فيها فقط. سيدنا محمد (صلعم) كان يقطع خطبة الجمعة وينزل لمداعبة الحسن والحسين، وكان يركض مع السيدة عائشة ويمازحها. هذا هو ديننا، لكن الصورة النمطية المغلوطة جعلت الدين مرادفاً للتحجر ورفض الآخر والاستعمال الدائم لمرادفات كالخلافة الاسلامية وحدّ الشريعة. انا لم افهم الاسلام على هذا النحو فهمته على انه دعوة سموحة مبنية على اللين والحكمة».

ولعل ما ميّز هذا الشيخ عن سواه هو تعمده استخدام خطاب غير مألوف بدا من خلاله ينزع وعن سابق تصور وتصميم الصفات الرسمية او الدينية عن الرمزين الشيعيين الابرز في الحياة السياسية اللبنانية، فيخاطب «دولة الرئيس» نبيه بري بـ «نبيه بري» وسماحة السيد حسن نصرالله بـ «حسن نصرالله»، لماذا؟... يرد شارحاً: «بصراحة منذ اعوام ونحن نقول لبري دولة الرئيس ولنصرالله سماحة الشيخ، ودعونا نعيش معاً و... و... اما هما فيبادلوننا الامر بالإهانات والاعتداءات ووصلنا الى مكان دوست كرامتنا وبدا انهما مصممان على إهانتنا، لذا لم نعد نحترمهما».

الاسير المتزوج من سيدتين وله ثلاثة اولاد يحرص على نزع صفة «السلفية» عنه: «لم يعد هناك فكر سلفي، ربما كان ذلك قبل مئة عام يوم ابتعدت الامة فجاء المفكر محمد بن عبد الوهاب الذي دعا للعودة الى النمط الديني ايام الصحابة. والسلفية صارت سلفيات واخذت طابع الاحزاب والفئات وتم استغلالها كثيراً من اعداء الإسلام عبر تحويلها «فزاعة» بسبب اخطاء بعض السلفيين».

ورغم تشابهه مع السلفيين عبر المظهر كاللحية الطويلة يؤكد «انا فعلاً لست سلفياً، لكن الذين يحاولون حرق صورتنا يستخدمون كل ما من شأنه إفزاع الناس، ومنها مسألة السلفية، غير انني لا اعتبر السلفية تهمة اذا كانت استناداً الى المبدأ الاساسي القديم، اما ما يمارَس اليوم فشيء آخر. هناك مدارس متناقضة، لذا فإنني نصحت دعاة الفكر السلفي بالخروج من هذا المصطلح».

وثمة إنطباع بأن الاسير قدم من خلال اعتصامه «خدمة جليلة» لـ «حزب الله». ففي اللحظة التي كانت الاضواء مصلتة على محاولة حرق تلفزيون «الجديد» وحال التململ في «الشارع الشيعي» عبر قطع الطرق ومظاهر الفلتان، انتقلت الاضواء الى مكان آخر، الى الاعتصام الذي استفز الجمهور الشيعي وجعله اكثر عصبوية في وقوفه خلف «حزب الله» وحركة «امل»، اضافة الى اظهار قدر كبير من «التفسخ» في الشارع السني... هذا التشخيص لا يقنع الاسير الذي يرافع عن تحركه «نزلنا الى الشارع بعدما استنفذنا كل الوسائل التي يمكن ان تضع حداً لهيمنة سلاح حزب المقاومة علينا. ناشدنا، تحدثنا مع المسؤولين، حاورنا النواب والأمنيين لكن من دون جدوى. الاعتداءات استمرت علينا وجرى إذلال شبابنا وتعاظمت الاستهانة بنا ووصل الامر الى الاعراض».

ويحرص هذا الشيخ الذي بدا وكأنه هبط بـ «الباراشوت» على الحياة السياسية وعلى مدخل صيدا، وعلى الطريق الفاصلة بين بيروت ـ العاصمة والجنوب ـ الشيعي، على القول ان الممارسات التي يعانونها جعلته «بوعزيزي... من هم في الاعتصام هنا، لو كان جائزاً الانتحار لانتحروا بسبب ما نتعرض له من إهانات في ديننا وأعراضنا ووجودنا وأمننا، وهو ما يفوق التصور».

ويروي الاسير، الذي غالباً ما يلوّح بـ «الوجع الكبير»، في اشارة الى تصعيده المتدحرج، واحدة من الحكايا التي يعتبرها نماذج لما يجري: «إمام المسجد عندنا كبّلوه ورموه في الريو (شاحنة للجيش اللبناني) مع زوجته ورضيعهما لنحو خمس ساعات وتحت الشمس، فقط لأن لحيته طويلة وزوجته منقبة. جرى ذلك بايعاز من عنصر من حزب المقاومة («حزب الله») لجندي من الجيش اللبناني على الحاجز في مشغرة (البقاع). الضابط المسؤول قال لإمام المسجد انه ينفذ اوامر رغم ان الامام يحمل بطاقة شيخ وأوراقا ثبوتية سليمة. ولم يتم إطلاقهم الا بعدما اجريتُ اتصالات مع المسؤولين هنا (في صيدا)... هذا نموذج بسيط، فالأمر لم يعد يطاق».

اما في شأن انتقال «العدسة» من مكان الى آخر، فيقول: «اعتصامنا حضاري، سلمي. يقولون اننا نقطع الطريق... اهم طريق اقتصادية وحيوية في مصر كانت ميدان التحرير، وجرى قطعها لإسقاط الظلم. وقطعنا للطريق بداية انتفاضة لا عودة عنها الا عندما يتم البحث الجدي في الاستراتيجية الدفاعية (مصير سلاح «حزب الله»). نحن جهزنا اكفاننا ووصايانا لما يمكن ان يستجد. الاجهزة الامنية لا نواجهها الا بصدور عارية. اذا جاء الشبيحة الينا فليس لدينا سلاح ولن نعود الى بيوتنا الا بعد وقف هيمنة السلاح».

ما هي «معايير» الاسير للاستراتيجية الدفاعية التي تناقش على طاولة الحوار والمقرر انعقاد جولتها الثانية في 25 الشهر الجاري؟... الشيخ الدعوي يتحول «منظّراً سياسياً» في مقاربته لهذا الملف: «عندما تحدث معي رئيس الجمهورية (ميشال سليمان) ورئيس الحكومة (نجيب ميقاتي) في هذا الشأن عبر وزير الداخلية (مروان شربل) وقالوا نحن نضمن لك جدية البحث هذه المرة في 25 الشهر الجاري، كان جوابي لفخامة الرئيس ان المشكلة ليست عندك، نحن نعرف انك جدي، لكن الطرف الآخر صاحب السلاح غير جدي ويضحك علينا منذ سبعة اعوام. فإذا كنتَ يا فخامة الرئيس على اقتناع بجديتهم (حزب الله) نذهب الى بعض الامور التفصيلية، لكنهم اذا لم يكونوا جديين فسنعاود النزول الى الشارع».

ولسان حال الاسير ان مجرد البحث في الاستراتيجية الدفاعية «يعني ذلك ان السلاح يجب ان يكون في امرة الدولة، غير ان فخامة الرئيس وجميع القوى السياسية يقولون ان الجماعة ليسوا جديين، يكذبون علينا في طاولة الحوار ويفرغونها من مضمونها، ولذا قلت ان طاولة الحوار هي طاولة غوار (...) فخامة الرئيس لم يقبل باستدعائهم ليقول لهم ان الموضوع كبر وصار التحرك في الشارع فدعونا نتحدث في شكل جدي، وهو الامر عينه الذي لم يفعله رئيس الحكومة».

ربما لأن الاعتصام في شكله الحالي تحول تحركاً موضعياً وغير موجع على حدّ ما لوحتَ به؟... نقول للاسير الذي يسارع الى الرد «لا... انه موجع لهم وأكثر مما تتصورون لكنهم يمارسون سياسة العض على الانامل في محاولتهم تجاهلنا ووضعنا في مواجهة الصيداويين او الاقتصاديين. هم مصابون بوجع حقيقي نتيجة الموقع الاستراتيجي لاعتصامنا، فهو المنفذ الوحيد للجنوب ونقطة الفصل بين الرأس، اي الضاحية الجنوبية لبيروت والجسد، اي الجنوب. وهم لم يتوقعوا بعدما اهملوا صيدا طويلاً واستضعفوها وهيمنوا عليها، ان يأتي شخص لا حزب له ليحدد لهم من اين يعبرون الى الجنوب وكيف. وانا قلت انها الخطوة الاولى وهناك خطوات اخرى موجعة لن افصح عنها».

انت متهم بالقيام بـ «مغامرة» غير محسوبة ستجعلك اسير اعتصامك ما دام ملف سلاح «حزب الله» قضية اقليمية اكبر من لبنان، وقد لا ينعدم الحزب وسائل لإجهاض تحركك، وخصوصاً انه اشيع اخيراً عن انه ابلغ من يعنيهم الامر ان «سوليدير» ستكون مقابل طريق الجنوب... لا ينعدم الاسير وسيلة ايضاً للرد على هذا المنطق: «هذا دليل ان الاعتصام موجع لهم... عندما اقول انني في حال البوعزيزي يعني ان لا خيار آخر بالنسبة اليّ. اذا كان السلاح موضوعاً اقليمياً، وعلى الأغلب هو كذلك، فهذا يعني انه شبيه بأنظمة المنطقة. فحسني مبارك وزين العابدين بن علي لم يكونا مجرد مشاريع خاصة بل كانا جزءاً من مشاريع اكبر اميركية وغيرها، لكن الناس عندما بلغت حد عدم التحمل نزلت بصدور عارية وغيّرت، ونحن ان شاء الله ننزل بصدور عارية ونغيّر، اذا وفقنا، الحمدلله اذا لم نوفق كذلك الحمدلله».

ولفت الى ان «الخيار البديل بصراحة هو ان نتسلح ولدينا قدرة على ان نتسلح وان نتحرك على مستوى المحبين في كل لبنان تحت اسم مقاومة او غير ذلك، وكلما اعتدى علينا احد نرد الصاع صاعين ما دامت الدولة غير قادرة على حمايتنا، لكن هذا الخيار لا يؤدي الا الى حرب اهلية. وانا من الذين نشأوا خلال الحرب الاهلية وأدرك كم هي هذه الحروب وسخة وظالمة. لذلك نحن ضد التسلح وانتفاضتنا هي ضد السلاح والتسلح، ولن نقبل ان يأخذنا احد الى التسلح ومهما حصل».

وفي حال وضع التهديد بمعادلة سوليدير مقابل طريق الجنوب كيف ستتم مواجهة الموقف؟... كل واحد يتحمل مسؤوليته، قال الاسير، مضيفاً: «نحن في دولة وعليها تحمل مسؤوليتها. اذا كان في امكان سعد الحريري التدخل للضغط عليهم فليتدخل، نحن لن نعود عن اعتصامنا حتى البحث الجدي في موضوع السلاح لأنه اصل المشكلات».

تتحدث عن إمكانات متاحة للتسلح، فمن اين؟ يجيب البوعزيزي الصيداوي: «عندما خرج لبنان من الحرب الأهلية لم يسحب كل السلاح من جميع المناطق. فمن يريد التسلح في إمكانه ذلك. انا لا اتلقى اي دعم من اي جهة داخلية او خارجية، ولن اقبل بأي دعم يعرض عليّ».

وفي سياق الكلام عن «الدعم» سألنا الاسير عما يشاع عن تلقيه دعماً من دولة قطر، فقال: «كل فترة تنطلق اشاعة جديدة، تارة يقولون اننا نتلقى دعماً من السعودية، وتارة اخرى من قطر، احياناً يقال ان الاتراك يدعموننا وأحياناً بن لادن. اما انا فأقول لهم دائماً ان وسائل الاعلام اللبنانية تتميز بقدرتها على كشف بعض الامور، وكذلك الاجهزة الامنية عندنا شاطرة. نحن نتحرك منذ العام 1998 ولم يستطع احد الاثبات اننا نتلقى دولاراً واحداً من اي جهة. واذا سلمنا جدلاً انني مدعوم من قطر فسواي قال شكراً قطر ولم يكن امراً معيباً».

ما دمت تحدثت عن بن لادن فكيف تنظر الى عمليات «القاعدة»؟ هل تعتبرها ارهابية؟ سألنا الاسير الذي رد قائلاً: «من ناحية مبدأ القاعدة الذي انطلق من العمل لرفع الظلم عن المسلمين، انا اوافق بن لادن لأننا نعاني الظلم في فلسطين، فأميركا وعبر الفيتو ذبحت اطفالنا. لكن في آلية رفع الظلم كالعمليات وضرب البرجين فلا اوافق وهي خطأ ديني، فالإسلام لا يدعو الى ذلك... ولا تزر وازرة وزر اخرى. فلماذا يراد لي قتل من كانوا في الطائرات، هذا اذا افترضنا صحة ضرب البرجين ومن فيهما، لذا فإنني اعتبر الامر خطأ».

ورداً على الذين يقولون انه ربما من الافضل انتظار سقوط النظام في سورية لطرح مسألة سلاح «حزب الله»، وتجنب استفزازه الآن للحؤول دون إمساكه بالوضع اللبناني، يقول الاسير: «الحزب ممسك الآن بالوضع اللبناني ولا يحتاج لأي حدث لإمساكه بالوضع. عندما تصبح السكين على رقبتنا لم يعد من مجال للحسابات، كسقوط النظام السوري او سوى ذلك (...) اضافة الى انه لو افترضنا ان النظام السوري سقط بعد شهر، لكي تقوم دولة يحتاج الامر لسنوات طويلة، فهل علينا ان ننتظر؟ ومن قال ان النظام الموعود لن يبرم اتفاقاً مع الحزب؟ فالحزب شاطر في مثل هذه الامور».

واللافت في سياق حركة الاسير حال التوتر بينه وبين «تيار المستقبل». نسأله عن السبب فيجيب: «كنت حريصاً ان تكون علاقتي مع الجميع، خصوصاً القوى الصيداوية جيدة جداً، لكن منذ ان اقمت اعتصاماً رمزياً في وسط بيروت شنّ تيار المستقبل حرباً عليّ وما زال، وهو الامر الذي دفعني الى الاستغراب. بعض المحللين يقولون انه ربما خائفين منك انتخابياً، علماً انهم يعرفون بأنني لن اشكل حزباً ولا اطمح لأي منصب سياسي او ديني. هجومهم عليّ ربما لأنني اظهرت فشلهم في ملفات معينة رغم تمتعهم بقدرات هائلة».

ويبدي الاسير حيرة في تفسير ما اسماه عداء «تيار المستقبل» له، نقول ربما لأنه يخشى من مظاهر «التطرف» وما تثيره من ريبة لدى حلفائه المسيحيين، فيجيب: «فليقرأوا ما يقوله حلفاؤهم المسيحيون. (النائب) سامي الجميل قال (عني) اذا حلق لحيته وارتدى ربطة عنق يصبح واحداً منا... فبماذا احرج تيار المستقبل؟ خطابي شبيه بخطابه، الألم الذي اعانيه يعانيه، اعرض حياتي للخطر لأن الآخرين عملوا على تخوين سعد الحريري وفؤاد السنيورة، وبسبب احداث 7 مايو وسواها...».

ثمة من يهمس بأن هذا الشيخ «التصعيدي» يطمح الى طرح نفسه محاوراً لـ «حزب الله»، لكنه يرد «حتى الان لم اطرح نفسي محاوراً، ولا يشرفني الجلوس معهم لأنهم قتلة. قتلوا الناس في 7 مايو و9 مايو في العام 2008، وإعلامهم يقتل اكثر من سلاحهم. وسبق ان سئلت فقلت انه في المبدأ لا مانع لأنني لا اكرههم بل اكره تصرفاتهم، لكن بشرط تحقيق بعض مطالبي كالاعتذار من اهل بيروت ودفع الديات انسجاماً مع الناحية الشرعية وان يكونوا جديين في محاورتي. ولن اقبل ان اجلس الا مع الصف الاول، لأنه في حال الاتفاق على شيء ما لا بد من قرار بتنفيذه».

ما الذي يمنع الاجهزة الامنية من انهاء هذا الاعتصام بالقوة؟ السؤال الى الاسير والجواب له «لأنهم يعرفون احمد الاسير ومواقفه، وإذا قرر شيئاً ما لا يكون الامر من باب العناد بل لأنه مؤمن به، فهل يستطيعون تحمل حصول مجزرة بحق نسائنا وأطفالنا؟ اضافة الى اسباب اخرى تتعلق بالوضع العام في البلاد من عكار الى طريق المطار... الى... الى. اعتقد انهم لا يستطيعون الدخول في مواجهة تبعاً للخلل الحاصل في غير مكان من الاراضي اللبنانية».

عندما يقال ان اسرائيل تهدد من جنوب الجنوب وانت تحاصر الجنوب من الشمال، كيف ترد؟... يجيب: «ما اطلبه هو تأكيد المؤكد، اي البحث الجدي في الاستراتيجية الدفاعية. يعني ان الحزب (حزب الله) لديه مئة ألف مقاتل، فمع الاستراتيجية الدفاعية يصبح العدد مليونا ومئة ألف مقاتل. طلبي تقوية المقاومة وليس إضعافها عبر إتاحة المجال امام غالبية اللبنانيين للمشاركة بالمقاومة تحت إمرة الدولة. لماذا يراد ان يكون (السيد) حسن نصرالله الوكيل الحصري للدفاع عن اللبنانيين؟ نحن قاتلنا في صيدا قبل ان يكون هناك (السيد) حسن نصرالله (...)».

هذا الشيخ صاحب المظهر الذي يوحي بالتشدد يعتبر «التركيبة اللبنانية بتنوعها الطائفي جميلة، لكننا نعاني ازمة اخلاق وصدق. اذا عولجت تكون التركيبة اللبنانية مميزة وتعطي صورة جميلة للبنان على مستوى العالم، وهي الصورة التي تجعل لبنان رسالة.

في السابق عشنا اياما جميلة، ما زال حتى الآن في صيدا القديمة باب المسجد ملاصقا لباب الكنيسة ولباب الحسينية. لنعش معاً من دون تكاذب ولنراع خصوصيات بعضنا. لبنان بلد جميل جداً وأهله اجمل لكن علينا معالجة المشكلات لا وضعها على الرف».

والاسير مع «المناصفة الاسلامية والمسيحية، فاتفاق الطائف اخرجنا من أتون حرب استمرت اعواماً طويلة، والبديل عن اتفاق الطائف هو الحرب الاهلية. هذا الاتفاق غير منزل ويمكن تعديله في مكان ما، لكن اجمل ما في اتفاق الطائف هو انه اخرجنا من الحرب الاهلية واي شيء يمكن بحثه الا العودة الى الحرب الاهلية».

وفي مقاربته لدعوة السيد نصرالله الى مؤتمر تأسيسي، يقول: «عليه تسليم سلاحه للدولة ثم نجلس على الطاولة، لا يمكنه ان يفاوض وهو يضع مسدسه في رأس الآخرين، بالتأكيد عندئذ سيأخذ حصة الاسد». ويعطي الشيخ الصيداوي مثلاً على هذه الحال: «بعد 12 ساعة من اعتصامنا وجدنا الرئيس السنيورة يدير مجموعة هائلة من الاتصالات حتى مع خصومه في صيدا، فكنا امام مشهد جديد جمع كل الاضداد، فقط من اجل طمأنة حزب المقاومة والقول له نحن معك. هذا إن دل على شيء فيدل كم ان هيمنة السلاح مؤثرة حتى على الخصوم السياسيين كالرئيس السنيورة المعروف بمواقفه وبما تعرض له من تخوين واستباحة دمه، فكيف سيكون الحال اذا جلسوا على الطاولة للتفاهم على اتفاق جديد في لبنان؟!».

ويأخذ الاسير على الرئيس السنيورة انه «كشف ظهري من دون ان يرسل احد للحديث معي عن سبل معالجة الامر. رعى اجتماعاً «أممياً» لا سابق له في صيدا وكشف ظهري، لو جاء لمحاورتي ثم تصرف لكان الامر مفهوماً»







     

 
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي