أماكن / صمت الأحد (1)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

أحد... التاسعة والنصف صباحا... المحطة شبه خالية من بدفورد إلى تايمز سكوير، أعرف الآن الخطوط وكيفية التغيير من رصيف إلى آخر، أسرع وسيلة للانتقال طوال السنوات الماضية أتحاشاه، أفضل الحافلات أو عربات الأجرة بالرغم من زحام المرور وكثافته على مدار اليوم، مرة واحدة كانت كافية لتكيفي مع الأنفاق وغلق الأبواب ومعرفة المحطات وناصية في الخط رقم 6 والذي يقطع مانهاتن بالطول.

أخرج ما بين الشارع السادس والسبعين والسابع والسبعين، المحطة نفسها التي اعتدت النزول فيها والركوب منها عند إقامة ابنتي فيها بعد مجيء الحفيد الأول، غير أنني لن أتجه غربا، بل شرقا ولم أعرف متحف ويستني من قبل، إنها المرة الأولى التي أقصده فيها والوحيد المخصص للفنون ولم أزره حتى الآن، حفظت المعروضات الثابتة للموما، وجوجنهاميم ومتروبوليتان.

عند المدخل التقيت أحمد مرسي... وصلت في اللحظة التي يبرز فيها بطاقته الصحافية الدولية والتي أحمل مثلها ورويت له بحثي عن الموقع، لفت نظري كثافة حضور رجال الشرطة المدججين بالأسلحة النارية والعصي الكهربائية وأنابيب الغاز والقيود الحديد.

تبدو الشوارع الممتدة، الأنيقة كأنها ثكنة عسكرية، سألت أحد الضباط، اعتذر قائلا إنه ليس من المنطقة، قال أحمد إنه الاحتفال السنوي للبورتريكو والمفروض أنها مناسبة مبهجة يشرب فيها القوم ويأكلون وتعزف الموسيقى والأغاني الخاصة، غير أن الشرطة تتأهب لهذا اليوم كأنه غزو، حدث منذ عامين انطلاقهم إلى شوارع المدينة، نهبت متاجر، وضرب مارة وجرت مضايقات وصلت إلى حد الاغتصاب وفوضى عدد كبير منهم يرفضون الانضمام إلى الولايات المتحدة، بورتريكو جزيرة كبيرة في الكاريبي لها، قومية خاصة، يتكلم أهلها الاسبانية، أدركت الآن سبب اطلاع ضباط الشرطة على بطاقات الهوية عند مداخل ومخارج محطة المترو، لم يوقفني أحد، ليس بسبب اختلاف الجنس وملامح البورتريكو تتشابه مع القسمات العربية، ربما لأنني متقدم في العمر وتبدو حالة الطوارئ في أقصاها، أستعيد ملامح الضابط الذي بدا حائرا عندما سألته عن موقع المتحف، واضح أنه مستدع من مكان بعد.

من دلني شاب مصري يقف على عربة تبيع السجق والساندوتشات السريعة، معظم العاملين على هذه العربات مصريون، وربما من جهة واحدة، بلدة بعينها، تحدث إلى بعضهم، كأنهم لم يخرجوا بعد من القرى أو المدن الصغيرة التي جاؤوا منها، معظمهم يصر على دعوتي ويرفض تماما تقاضي مقابل. قرب متحف المتروبول تقدم مني شاب من المنيا، يعرفني من خلال التلفزيون وقدم لي زجاجة ماء مثلجة وقال إنني سوف أحتاجها، اليوم رطوبة وحار. لاتزال ملامحه ماثلة، تعاودني.

نتجه إلى المصعد، يبدو أن أحمد مرسي هادئ، مستغرق، لكم هو إنسان طيب وفنان مبدع، آثرت أن أبقي هدفي من الزيارة، كنت أعرف بوجود تلك اللوحة من الكتب ومواقع الإنترنت، والفيلم الذي اقتنيته بعد اكتشافي لإدوارد هوبر خلال تجوالي وتعرفي المنبثق مني للتعرف على الفن التشكيلي، بدأ ذلك منذ زمن بعيد، ربما منذ التحاقي بمدرسة العباسية الثانوية الصناعية التي درست بها فن السجاد بأنواعه وطرائق عمله، الغريب أنني أستعيد ما ألممت به أثناء الدراسة، كأنني اكتشفت ذلك الفن من جديد، أردت دائما، لو عاد الزمن لاخترت الدرب عينه، نفس الطريق نفسه.

***

في الطابق الأول حيث اللوحات التي تكون في المعرض الدائم ومقتنيات المتحف، توقفت أمام لوحة لجورجينا أو كييفا، اكتشفتها منذ سنوات، لاحظت الرؤية الصوفية الدفينة في ذلك التشابه الحميم بين الزهرة وتلافيف أوراقها وبين خبيئة الأنوثة، كلاهما واحد، وحدة الوجود والجوهر.

اللوحة هنا قطعة عظم يميل لونها إلى البني، وأثرية من خلال العظام نرى لونا أزرق شديد الصفاء يوحي بالسماء اللانهائية، الأزرق الفاتح في الفن المصري القديم يعني الأبدية، العظام تدل على الفناء، جلست قليلا على المقعد المواجه أحاول الاستيعاد، استعدت أعمالا أخرى للفنانة، في حقيبة العودة كتاب يضم رسائلها، كنت أعلم أن موضع اللوحة التي جئت من أجلها في الصالة المجاورة، اتجهت إليها متمهلا، لمحت جزءا منها، توقفت قبل الخطوة التالية التي تتيح لي رؤية اللوحة كاملة عبر مسافة هي طول الصالة، حوالي سبعة أمتار.

الاقتراب من أثر فني لامس الروح، رؤيته عبر المستنسخات في الكتب، شيء ورؤية العمل نفسه والأصل شيء آخر، ليس مثل الأصل شيء، ثمة شعور يماثل الاقتراب من المقدس، أخيرا لوحة صباح الأحد من دون وسيط، أقترب على مهل إلى الوجهة نفسها يتجه بصر الفنان أحمد مرسي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي