أماكن / القوى المحركة (1)

جمال الغيطاني





| جمال الغيطاني |
في ذلك الصباح الحار، كنت أقف عند حافة الضفة الغربية للنهر عند الأقصر، أرقب صعود قرص الشمس الجلي، الواضح والصريح في ضوئه وفي سطوعه... رحلة الشمس من الشرق الى الغرب، ورحلة النهر من الجنوب الى الشمال.
كنت أقف في نقطة لاتزال الى البكارة أقرب، لم ترتفع مباني الخرسانة بكثافة بعد والحقول ممتدة والنخيل مائل، كنت أرقب شروق الشمس وأحاول أن أتمثل تصور الانسان الذي عاش هنا منذ آلاف السنين غير مزود بمعارف العلوم الحديثة التي نعرفها الآن، والذي اعتمد على أسلوب المراقبة والتتبع، وايجاد التفاسير التي يستند بعضها الى الملاحظة، والى الخيال الانساني الذي يستمد عناصره من الواقع.
الشمس تظهر من الأفق الشرقي في لحظة معينة جالبة معها الدفء، مبددة لقوى الظلام المثيرة للخوف ورمز القوى المجهولة المدمرة للحياة، الشمس تغيب في الغرب، بعد اختفائها يحل الظلام وتتوافد النجوم من السماء، هذه الحقائق الكونية التي تبدو بديهية الآن كانت مصدرا للتأمل القديم على ضفتي النيل وبالتالي ايجاد التفاسير والقصص المفسرة.
الشمس تعبر من الشرق الى الغرب، انها تبحر في الفراغ الأزرق، تماما كما يجر الانسان من ضفة النهر الى الضفة الأخرى، لذلك تخيل الانسان قاربا يعبر بالشمس الى الأفق، وقاربا آخر يخوض بها بحر الظلمات.
رحلة النهار تتكون من اثنتي عشرة ساعة، ورحلة الليل تتكون من اثنتي عشرة أخرى، وهذا ما يتضمنه كتاب «الخروج الى النهار» المعروف خطأ بكتاب الموتى، والذي يتضمن العقبات التي يواجهها الميت لكي يصل الى المحكمة الالهية التي يرأسها أوزير سيد عالم الغرب، عالم الموت والأبدية، أمام تلك المحكمة يتم وزن لب الانسان في كفة وفي الكفة الأخرى ريشة الحقيقة، ولو ثقلت الموازين بذنوب يلقى بالقلب الى المخلوقات المرعبة المتأهبة.
وهكذا يفنى المذنب في اللا وجود، أما اذا حسنت أعماله فانه يمضي الى جنات خضراء، كان المصريون يسمونها حقول يارو، انها حقول خصبة لا تعرف الأخطار أبدا، انها أرض ليس فيها أعداء.
ميلاد الشمس تجدد للحياة، ومغيبها رمزت للموت للفناء، لذلك كانت القبور التي يطلقون عليها «منازل الحق» تقام في الغرب، أما مداخل المعابد فتواجه الشرق حيث مصدر الشمس، واذا شيدت في الشرق تصبح محاذية للنيل، لا تتعامد عليه.
كذلك شوارع المدن، تبدأ من الجنوب وتنتهي الى الشمال، الوضع نفسه في البيوت، تواجه الشمال الى حيث يمضي النيل، والشمال يطلقون عليه في مصر «بحري» وعند البناء يكون أفضل الأوضاع مما يواجه بحري، أي مصدر الريح الطيبة، اللينة التي تلطف الجو، وهبوبها في الصعيد مثير للراحة، ما يخيف هنا الرياح الآتية من الشرق، من الصحراء، والتي تعقبها أمطار تؤدي الى حدوث سيول.
الشمس لا تظهر دفعة واحدة، انما تتدرج في الظهور، كذلك في الغياب، يسبقها الشفق ويعقبها الغسق، وعند بزوغ القرص المستدير تطل على مهل، تصعد بطيئة، حتى كأنها لن تتحرك، غير أنها تواصل الدورة الأبدية، التدرج عنصر مهم في فهم العمارة المصرية، ليس ما شيد منها في العصور الفرعونية، بل القبطية والاسلامية، لا يتم الدخول الى المعبد المصري مباشرة، انما لابد من تدرج، صعود بطيء ومتمهل، يحاكي صعود الشمس عند الأفق.
هكذا تبدو المعابد التي وصلت الينا في حالة جيدة، في أبيدوس، وفي الأقصر، وفي ادفو، ودندرة، لابد من قطع مسافة حتى الوصول الى مدخل الدير البحري، أو دندرة.
وعندما نجتاز العتبة الفاصلة، نلاحظ التدرج في القاعات، من الأكثر اتساعا الى الأقل حتى ينتهي البناء في قدس الأقداس الذي لا يسمح الا للملك وكبير الكهنة بدخوله، نلاحظ الصلة بين العمارة والكون.
المدخل يواجه الشرق، أو نجم الشعرى اليمانية أي الشمال، وهذا النجم يعني ظهوره بدء الفيضان في الصيف. الأعمدة في القاعة الرئيسة التي لاتزال سليمة في معبد أبيدوس عددها أربعة وعشرون، أي ما يوازي عدد ساعات النهار والليل، الأسقف مزيفة بالنجوم، ورمز السماء الالهة نوت التي تولد الشمس منها والنجوم، وفي الداخل قمة فتحات تحقق الاضاءة الطبيعية، وتصل أعماق البناء بالكون الفسيح.
في ذلك الصباح الحار، كنت أقف عند حافة الضفة الغربية للنهر عند الأقصر، أرقب صعود قرص الشمس الجلي، الواضح والصريح في ضوئه وفي سطوعه... رحلة الشمس من الشرق الى الغرب، ورحلة النهر من الجنوب الى الشمال.
كنت أقف في نقطة لاتزال الى البكارة أقرب، لم ترتفع مباني الخرسانة بكثافة بعد والحقول ممتدة والنخيل مائل، كنت أرقب شروق الشمس وأحاول أن أتمثل تصور الانسان الذي عاش هنا منذ آلاف السنين غير مزود بمعارف العلوم الحديثة التي نعرفها الآن، والذي اعتمد على أسلوب المراقبة والتتبع، وايجاد التفاسير التي يستند بعضها الى الملاحظة، والى الخيال الانساني الذي يستمد عناصره من الواقع.
الشمس تظهر من الأفق الشرقي في لحظة معينة جالبة معها الدفء، مبددة لقوى الظلام المثيرة للخوف ورمز القوى المجهولة المدمرة للحياة، الشمس تغيب في الغرب، بعد اختفائها يحل الظلام وتتوافد النجوم من السماء، هذه الحقائق الكونية التي تبدو بديهية الآن كانت مصدرا للتأمل القديم على ضفتي النيل وبالتالي ايجاد التفاسير والقصص المفسرة.
الشمس تعبر من الشرق الى الغرب، انها تبحر في الفراغ الأزرق، تماما كما يجر الانسان من ضفة النهر الى الضفة الأخرى، لذلك تخيل الانسان قاربا يعبر بالشمس الى الأفق، وقاربا آخر يخوض بها بحر الظلمات.
رحلة النهار تتكون من اثنتي عشرة ساعة، ورحلة الليل تتكون من اثنتي عشرة أخرى، وهذا ما يتضمنه كتاب «الخروج الى النهار» المعروف خطأ بكتاب الموتى، والذي يتضمن العقبات التي يواجهها الميت لكي يصل الى المحكمة الالهية التي يرأسها أوزير سيد عالم الغرب، عالم الموت والأبدية، أمام تلك المحكمة يتم وزن لب الانسان في كفة وفي الكفة الأخرى ريشة الحقيقة، ولو ثقلت الموازين بذنوب يلقى بالقلب الى المخلوقات المرعبة المتأهبة.
وهكذا يفنى المذنب في اللا وجود، أما اذا حسنت أعماله فانه يمضي الى جنات خضراء، كان المصريون يسمونها حقول يارو، انها حقول خصبة لا تعرف الأخطار أبدا، انها أرض ليس فيها أعداء.
ميلاد الشمس تجدد للحياة، ومغيبها رمزت للموت للفناء، لذلك كانت القبور التي يطلقون عليها «منازل الحق» تقام في الغرب، أما مداخل المعابد فتواجه الشرق حيث مصدر الشمس، واذا شيدت في الشرق تصبح محاذية للنيل، لا تتعامد عليه.
كذلك شوارع المدن، تبدأ من الجنوب وتنتهي الى الشمال، الوضع نفسه في البيوت، تواجه الشمال الى حيث يمضي النيل، والشمال يطلقون عليه في مصر «بحري» وعند البناء يكون أفضل الأوضاع مما يواجه بحري، أي مصدر الريح الطيبة، اللينة التي تلطف الجو، وهبوبها في الصعيد مثير للراحة، ما يخيف هنا الرياح الآتية من الشرق، من الصحراء، والتي تعقبها أمطار تؤدي الى حدوث سيول.
الشمس لا تظهر دفعة واحدة، انما تتدرج في الظهور، كذلك في الغياب، يسبقها الشفق ويعقبها الغسق، وعند بزوغ القرص المستدير تطل على مهل، تصعد بطيئة، حتى كأنها لن تتحرك، غير أنها تواصل الدورة الأبدية، التدرج عنصر مهم في فهم العمارة المصرية، ليس ما شيد منها في العصور الفرعونية، بل القبطية والاسلامية، لا يتم الدخول الى المعبد المصري مباشرة، انما لابد من تدرج، صعود بطيء ومتمهل، يحاكي صعود الشمس عند الأفق.
هكذا تبدو المعابد التي وصلت الينا في حالة جيدة، في أبيدوس، وفي الأقصر، وفي ادفو، ودندرة، لابد من قطع مسافة حتى الوصول الى مدخل الدير البحري، أو دندرة.
وعندما نجتاز العتبة الفاصلة، نلاحظ التدرج في القاعات، من الأكثر اتساعا الى الأقل حتى ينتهي البناء في قدس الأقداس الذي لا يسمح الا للملك وكبير الكهنة بدخوله، نلاحظ الصلة بين العمارة والكون.
المدخل يواجه الشرق، أو نجم الشعرى اليمانية أي الشمال، وهذا النجم يعني ظهوره بدء الفيضان في الصيف. الأعمدة في القاعة الرئيسة التي لاتزال سليمة في معبد أبيدوس عددها أربعة وعشرون، أي ما يوازي عدد ساعات النهار والليل، الأسقف مزيفة بالنجوم، ورمز السماء الالهة نوت التي تولد الشمس منها والنجوم، وفي الداخل قمة فتحات تحقق الاضاءة الطبيعية، وتصل أعماق البناء بالكون الفسيح.