دول كثيرة تركز على وضع سياسات تعليمية واضحة المعالم ومبنية على دراسات واقعية للظروف البيئية ومتطلبات العصر، فهذه السياسات ضرورة للعملية التعليمية لأنها ترسم الطريق وتحدد معالم العمل في المنظومة التعليمية في أي مجتمع له ظروف ومطالب مختلفة. لذلك تختلف هذه السياسات من دولة لأخرى باختلاف مستهدفاتها التعليمية وكذلك آليات العمل بها. فلا يمكن القول ان هنالك سياسة تعليمية أفضل من غيرها ما دامت تلتزم بالمفهوم العام والإجراءات وتراعي معالم التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية على المستويين المحلي والخارجي.
والسياسة التعليمية لا تفهم على أنها سياسة أشخاص أو متنفذين في السلطة، وإنما تعني التفكير المنظم الموجه لتلبية مطالب الغالبية الشعبية التي تريد تعليماً متطوراً ومسايراً للاتجاهات والقيم والبرامج والأهداف والخطوات التنفيذية المدروسة. ولا يمكن الحكم على هذه السياسات التعليمية إلا بعد مرور سنوات من الانجاز الذي يعتمد على عنصر استمرارية النشاط بطريقة متطورة ومتوافقة مع الظروف السائدة في أي مجتمع. فكلما تغيرت هذه السياسات تأثرت المؤسسة التعليمية بمكونات وطبيعة التغيير الذي قد يكون تغييراً ايجابياً أو سلبياً. وهذا لا يعني عدم العمل بالسياسات، فمن دون هذه السياسات يصعب اتخاذ القرارات الصائبة، وتحديد الأدوار والمهام الذي على أساسها تتبلور أشكال الأداء والانجاز والتقويم الراصد لكل نشاط وفاعلية.
لذلك نجد أن السياسة التعليمية تأتي على رأس العمل الإداري والتعليمي وتشكل تحديات كبيرة أحياناً تسبب صداعاً لأنظمة التعليم بل أن دولا متقدمة لا تعفى من هذه التحديات رغم ما لديها من مقومات ميسرة للعملية التعليمية، ومتمكنة من تنفيذ سياساتها التعليمية بكل اقتدار.
نقول ذلك ونحن من الدول النامية التي تمتلك مقومات عالية تستطيع أن تجعل النظام التعليمي منافساً ونموذجاً للربط بين السياسة التعليمية والخطط التنموية، لكننا، مع الأسف، نعاني سياسات تعليمية مرتكبة وغير واضحة المعالم لدرجة أن الخطة التنموية للدولة لا تركز على خطة التنمية البشرية التي هي، كما يفترض أن تكون، من أهم ركائز الخطة التنموية العامة للدولة. هذا الإهمال والارتباك بلاشك يلاحظ في مخرجات التعليم المتواضعة رغم ارتفاع كلفة التعليم.
فمن مكونات السياسة التعليمية أن يكون الشباب قادراً على التكيف والتسلح بالمعرفة ومبدعاً وفاعلاً في تطوير البلاد، خصوصاً وأننا نعيش عالم المعلوماتية والتكنولوجيا والتسابق على الريادة أمام دول لا تملك مقومات التطوير لكنها تتصدر اليوم سلم التقدم العلمي والصناعي، والأمثلة على ذلك كثيرة ليس هنا المقام للدخول فيها ويكفينا التمعن بما حققته دول مثل هونغ هونغ وسنغافورة وتايوان وماليزيا وغيرها.
لا أحد أيضا يناقض الرأي القائل بتدني مستوى التعليم في البلاد، وتراجع مكانته وقيمته في سلم أولويات المجتمع. وهذه لها أسباب عديدة منها الإدارة والقيادة والمعلم والمناهج والأسرة وغيرها، لكن لو نظرنا في أحد هذه العناصر كالمنهج التعليمي، فإننا نجد أنها ضعيفة في اعداد الشباب لسوق العمل، فهي بحكم اعتمادها على التلقين والحفظ وعبور الامتحان من اجل الحصول على أي وظيفة ليست بالضرورة مناسبة للتخصص، فهي أيضاً تعاني ضعف مواكبة المستجدات المحلية والخارجية، وتدني الأداء العام.
البعض يرى أن المناهج أصبحت عبئا على النظام التعليمي مادام هذا النظام غير قادر على التكيف مع عالم متغير سريع في حركته واحتياجاته. وهنالك آخرون يرون أن المناهج ضحية التأثيرات السوسيوثقافية والسياسية والصراعات بين الأطياف، والخلافات على الأولويات. وهذه عادة تؤثر في المناهج سلباً لأن هنالك من لهم رؤى الاختزال والتصورات التقليدية والاستنساخية بحكم التأثر بالمرجعيات والخلافات الفكرية.
كل هذه وغيرها ساهمت في تخلف المناهج وأضعفت دورها في تحقيق سياسة تعليمية متزنة تساهم في عجلة التنمية المنشودة. لهذا لا نخفي الحقيقة في قولنا ان مناهجنا الحالية لا مفعول لها في إصلاحات التعليم وبناء الشباب على نحو مفيد. فلقد انتشر بين شبابنا روح السلبية والكراهية والطائفية، وأصبح سلبياً في تعامله مع قضايا بلده. وبرغم أن لذلك أسبابا كثيرة إلا أن العوامل الداخلة في النظام التعليمي لها دور كبير في هذه المشكلات. فلقد تغيرت المناهج مرات عديدة وبشكل مبتور وغير مدروس، وأهمل العديد من التوصيات والاقتراحات الصادرة من المؤتمرات التربوية الكثيرة مما أدى إلى تدخل كل جاهل ومتنفذ في المناهج تحت ذريعة ما يسمى الرغبة في التعديل أو التطوير. نتمنى على مجلس الوزراء أن يقر دستورا للتعليم يتضمن صون الأهداف والسياسات العامة للتعليم في البلاد، ويمنع التدخلات في شؤون التعليم عند أي تغيير يحدث للسلطتين التنفيذية والتشريعية. فأكثر المخاطر تلك التي تتعلق باتخاذ قرارات فردية تسعى لتغيير الأهداف العامة والسياسات المعتمدة للتعليم في البلاد.
د. يعقوب أحمد الشراح
[email protected]