تحتفل الكويت هذا العام بمرور 50 عاما على صدور دستور 1962، وهو الذي رسم لها منهجها الديموقراطي بعد الاستقلال في تجربة فريدة في المنطقة، جعلت الحكم شراكة بين الحاكم والمحكوم من خلال الحياة البرلمانية في سبيل تعزيز صورة الوطن الجديدة، دولة المؤسسات والمجتمع المدني في ظل دستور واحد يجمع ولا يفرّق، يرعى الحريات والعدالة والمساواة، ولا يفعل ذلك إلا بالقانون. يقول الدكتور أحمد الخطيب في استعادة مرحلة وضع الدستور في كتابه الثاني (الكويت: من الدولة إلى الإمارة): «إن الدولة الحديثة تعني دولة القانون، أي قانون واحد يطبّق على جميع الناس، ويشكل الأساس لبناء وطن قوي يحبّه ويتمسك به جميع أبنائه لما يتيحه لهم من فرص متساوية».
ولكن كيف تتشكل هوية هذا القانون؟
يجيب الدكتور الخطيب «يحتاج الوطن أيضا إلى هوية يحملها أبناؤه ويفخرون بها، وكلما كانت هذه الهوية هوية للوطن كله، تخلّى المواطنون عن هوياتهم السابقة على قيام الدولة والوطن، والتي هي في بلادنا هويات قبلية ومناطقية ودينية طائفية، وهنا يكون على الدولة أن تسعى إلى تقوية الهوية الجامعة فلا تمزّق هويات ما قبل الوطن، هذا الوطن».
اليوم، وفي قراءة سريعة لمراحل التاريخ السياسي الحديث للكويت بعد الاستقلال، واقرار الدستور والدعوة لانتخابات برلمانية لتشكيل السلطة التشريعية، نجد أنها مرّت بعد تجارب مختلفة بحسب اقترابها من منظور الآباء المؤسسين لدولة الدستور والقانون، أو في تناقض كبير مع ما كان مأمولا ومتوقعا سابقا، بما نتج حاليا عن اعوجاج الخط التشريعي وابتعاده عن روح مواد الدستور، مما شكّل فجوة كبيرة بين الرؤية المفترضة والسياسة الواقعية!
لتعود الهويات السابقة أقوى مما كانت عليه سابقا، فتفرض أجندتها ومصالحها على حساب الهوية الجامعة... الوطن. لتنحـرف الممارسة الديموقراطية في أشكالها وصورها المختلفة في البلاد، وتطغى مظاهر الهويات السابقة فيها، لتصرّح دون إشهار رسمي «حزبنة» الوطـن وتقطيع أوصاله، ليعيش المواطن قلقا دائما إن لم يكن منتميا لهوية ما، تضمن له مصالحه وترعاه، ما دام فردا من أفرادها. وهو ما يجعل الكويت اليوم في منتصف طريق ما بين الديموقراطية المختطفة والأصولية المتسلقة!!
فاصلة أخيرة
بعد الخروج لساحة الإرادة تحت شعارات «إلا الدستور» و«محاربة الفساد»، والعودة للشعب لتشكيل برلمان جديد، وتسيّد غالبية جديدة على مجريات التشريع والمراقبة، لاحظنا مبكرا ملامحها وأهدافها الواضحة وإلى أين تسير في اقرار القوانين الأحادية، والابتزاز السياسي مع الحكومة الحالية، والدفع أكثر لتجفيف وارهاق الوطن ماليا لأسباب انتخابية. فليس من سبيل لوقف هذا التراجع الكبير في الممارسة الديموقراطية والتنموية إلا في الضغط الشعبي الحقيقي والواعي، وهو ما يمكن الاستناد عليه في الديوانيات الناشطة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا والصحافة المسؤولة ونهضة شاملة لمؤسسات المجتمع المدني واستعادة دورها المفقود، لتكون قوة رئيسية لصالح المجتمع الكويتي الذي يميل للوسطية. وهو ما يمكن الانطلاق منه فعلا لانتشال الوطن من مستنقع الهويات القاتلة واسترجاعه ثانية.
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
فهد توفيق الهندال
[email protected]