شدني المقال الرائع الذي كتبه الزميل د. حامد الحمود في جريدة القبس يوم 19/ 4/ 2012 رداً على الادعاء بأن اللغة العربية تحتضر، أو أنها مجرد وسيلة اتصال في مفهوم طرف يظن من وجهة نظره أن اللغة العربية تحتضر فعلاً. لقد قدم د. الحمود الحجج وفند عدم صدق الادعاء بذلك. ولا أريد تكرار ما كتبه أو التعليق على ما قدمه، فأنا متفق معه في كل ما قاله عن اللغة العربية، وأريد أن أزيد في هذا المقال بالحديث في العوامل التي تجعل البعض من العرب ينحى بفكره واتجاهاته المنحى الذي سلكه من كان يرد عليه د.الحمود.
إشكالية اللغة العربية تقع على أهل هذه اللغة وليس على اللغة ذاتها، فكما يقول الشاعر حافظ إبراهيم:
أرى لرجالِ الغَربّ عِزاً ومَنعَةّ - وكم عز أقوامٍ بِعزِّ لغاتِ
أَيَهجُرني قَومي - عَفا الله عنهم - إلى لُغَةِ لم تتصل برواةِ
فالعربية تعاني من الغربة والتهميش بين أبنائها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفكرية. فلقد تراجع استخدام العربية في هذا العصر بسبب الابتهار بالثقافات الأجنبية لصالح اللغات الأجنبية سواء في التخاطب والمحادثة، أو في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. ومع أن العربية تنص عليها دساتير غالبية الدول العربية لكن التعليم يدرس باللغات الأجنبية في معظم الجامعات ومؤسسات التعليم العالي العربية، كما أن الرسائل والإعلانات التجارية تكتب باللغات الأجنبية وبموافقة رسمية من الحكومات العربية.
واقع كهذا، جعل العالم العربي وبالذات الدول الخليجية تفتخر بمخرجات التعليم الأجنبي، وبالذات الشباب المتخرجون في كليات الهندسة والتكنولوجيا والطب والإدارة والعلوم والذين لا يجيدون التحدث بالعربية. فكيف يكون مستقبل اللغة عند أجيال تعلمت منذ صغرها في مدارس الرياض حتى التخرج في الجامعة بلغة أجنبية رغم توصيات القمم العربية بالتمسك بالهوية وباللغة العربية؟ لهذا لا غرابة أن يحرض أعداء اللغة العربية على أن العربية تحتضر بتقدم الزمن وتندثر أسوة باللغات الأخرى التي ماتت عبر تقادم الأجيال والحضارات.
وعندما يقول البعض منا، مع الأسف، إن العربية تحتضر، فإن هذا البعض يجهل أن هذه اللغة مرت في مراحل تاريخية، وتخطت تجارب قاسية في مختلف السياقات والتطورات العلمية، ومن أبرز هذه السياقات التاريخية أربع ركائز مختلفة هي الأساس في حديثنا عن اللغة: أولاً، لابد من التأكيد على أن نزول القرآن الكريم حفظ هذه اللغة، لذلك تظل العربية اختيارا إلهيا. وثانياً، مرونة العربية وانتشارها في العصر الإسلامي ووصولها إلى مختلف بقاع الأرض كانت بسبب انفتاحها على الحضارات الأخرى والتفاعل معها فظهرت المساهمات العلمية والثقافية الكبيرة. وثالثاً، يشكل العصر العباسي بعداً تاريخياً مهماً لدور اللغة العربية في الابتكار والاختراع في مجالات العلوم والطب والهندسة والرياضيات والفلك، خصوصاً وأن الكثير من المصطلحات العربية تمت ترجمتها إلى اليونانية وعلوم فارس والهند، وأخيراً ما زالت اللغة العربية صامدة أمام الصراع على حلبة اللغات العالمية المنافسة والتي يتفاعل أهل هذه اللغات مع كل جديد باستخدام مختلف أدوات تطوير لغاتهم بينما نحن كعرب، وكعادة الكثيرين منا، لا نفعل شيئاً للغتنا سوى الانبهار والإعجاب باللغات الأخرى. حالة كهذه مع الأسف أدت إلى تخلي البعض عن هويته وعدم ممانعته بالتجرد من كل ما لديه من إرث وتاريخ وحضارة.
لا أنسى في احد لقاءات وزراء الصحة العرب حيث كان الحديث عن استخدام اللغة العربية في مؤتمرات الصحة العالمية، عندما خرج من بين جموع الحاضرين من العرب والأجانب صوت وزير عربي تحدث عن أفضلية استخدام اللغات الأجنبية في المحافل الدولية فتصدى له خبير أجنبي من منظمة الصحة العالمية سائلاً الوزير لماذا تتجاهل لغتك؟ ولماذا تريد إحلالها بلغات أخرى؟ عندها ساد الصمت، ولم يتمكن الوزير من الرد. هذا نموذج يعكس اللامبالاة وغياب الاهتمام باللغة العربية، ويجسد مخالفة الحكومات لدساتيرها التي تنص بأن العربية لغة الأمة. لذلك لا نستغرب حجم العبث باللغة من حيث التشويه والمحاربة عبر الأجهزة الإعلامية والتعليمية والثقافية.
اللغة في نهاية المطاف يا جماعة ليست وسيلة للتعبير فقط، وإنما تمثل هوية الأمة، وثقافتها ووجودها، وهي بحاجة إلى تنمية وعناية دائمة من أجل إزالة العقبات ومواجهة التحديات. فكما قال (هنري بر) في تصديره كتاب اللغة لفندريس ان «اليد واللغة فيهما تنحصر البشرية»، أي أن نهاية التاريخ الحيواني وبداية التاريخ البشري يمثلان اختراع اليد واختراع اللغة. اللغة العربية لن تحتضر أبداً لأنها آية من آيات الله الكبرى في هذا الكون. فلقد ميزها الخالق عن سائر لغات البشر فقال جل وعلا «وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين». صدق الله العظيم.
د.يعقوب احمد الشراح
[email protected]