د.فهيد البصيري / حديث الأيام / يا قليل الإيمان !

تصغير
تكبير
سبحان مغير الأحوال، وبين طرفة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، بالأمس أو بالضبط أول من أمس، كان هناك تجريم بل وتحريم لكل من تسول له نفسه التفكير في التفكير من الاقتراب من الدستور أو محاولة تعديله. واليوم اثبت الإنسان أنه نسناس فانقلب على نفسه «والحي يقلب» وها هو اليوم يقاتل من أجل تغيير الدستور، والتغيير أو التعديل أمر لا منجاة منه وإلا أصبحنا من الخالدين في التخلف، ولكن (يا خوفي) من أن يكون هذا التعديل لمزيد من التعقيدات وليس لمزيد من الحريات كما قال الدستور نفسه، وخوفي هذا ليس مبالغا فيه أو تهويلا، أو شقاوة كشقاوة بعض الطلبة النواب، فالعالم العربي اليوم عاد إلى رشده وتذكر خالقه بعد أن ذاق الأمرين على يد عدد من الطغاة، وهو يمر في مرحلة توبة وأتمنى أن تكون توبة نصوحة، وككل توبة بعد ضلالة فإنه لا بد من شيء من الزهد والتصوف، مع حماسة يكللها التطرف وعليها نكهة من خل التخلف، والنفس البشرية مفطورة على الدين، والدين هو الأخلاق، وأخشى ما أخشاه أن تستغل هذه الفطرة في سوق الناس إلى المجهول وهم زاهدون راضون بحكم الله وقدره، ومن هنا سأقص عليكم هذه القصة ففي قصص الأولين عبرة لمن يعتبر طبعا. ويحكى أن نصابا- وما أكثرهم هذه الأيام- دخل على احد سلاطين المسلمين، وأهداه نعلا رثا قديما لو شمه كلب على بعد 500 فرسخ للعن الساعة التي صار فيها كلبا، وقال هذا النصاب: يا مولاي إن هذا النعل هو نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى يوم الفتح! فهب السلطان من مكانه كالمجنون وراح يقبل النعل ويعضه، وكاد يغمى عليه من رائحة النعل، ولكنه تحامل على نفسه ومضى يرقص من شدة الفرح وأخيرا علق النعل على صدر مجلسه، وأقام الأفراح وساق الصدقات، وزاد في الزكاة حتى ظن الناس أنه ميت ومودع، ولما خرج النصاب من مجلسه، قال له مستشاروه ووزراؤه، إن هذا ليس سوى نصاب كبير، فأجابهم السلطان بكل وقار وثقة: أعلم ذلك وأعلم أن النعل ليس سوى نعل هذا النصاب، ولكنني أخشى أن يقول الناس انني قليل الإيمان!!

واليوم يتسابق النواب على تعديل المادة 79 بإضافة عبارة (على أن يتوافق كل قانون يقر مع الشريعة الإسلامية) والحقيقة أنه لو عرض هذا الموضوع على كافر أثيم لوافق على الفور، فالمسألة فيها شريعة ودين وقال الله وقال رسوله، وعدم الموافقة تعني قلة الإيمان والعياذ بالله، ولكن خلف هذه العبارة النورانية البسيطة (تسونامي) ومشاكل لها أول ولن نعيش لنرى لها آخر، فالشريعة ليست قانون جزاء أو قانونا من قوانين المرور والعبور، بل هي آراء واجتهادات ومذاهب وملل ونحل، ولها مداخل ومخارج لا حصر لها، وقد يتعارض قانون ما مع مفهوم الشيعة للشريعة ولكنه يتفق مع مفهوم السنة لها، وهكذا مع احترامي لبقية المذاهب الإسلامية التي لن يؤخذ رأيها، وتعال اجتهد لي واجتهد لك، وما أكثر الفتاوى وما تجره من (بلاوي)، وستصبح هذه العبارة مسمار جحا التي ستوقف عجلة الحياة في الكويت إلى أن تقوم الساعة، أو إلى أن يتفق، د. طارق سويدان مع د. عجيل النشمي، والسيد حسين القلاف مع مبارك البذالي، والسيد المهري مع الشيخ العريفي! وإلى أن يتفق كل هؤلاء وتلاميذهم على مفهوم واحد للشريعة، نكون وإياكم بعد عمر طويل في خبر كان ويا ليت الذي كان ما كان! ومصيبتنا أننا نبحث عن التعقيد ونحن نملك العقد الثمين، ونؤمن بالاختلاف ولكننا لا نعيش بلا خلاف، ونغني للحرية ولكن على مزامير الشيطان وطبول التطرف، ونحن لسنا بحاجة لجيوش من المفتين أو المفتونين في أنفسهم، فالمسألة محلولة منذ بعث الله نبيه فنحن كما قال رسول الله أعلم بأمور دنيانا، والأصل في الإسلام هو الإباحة. وإذا كنتم في ريب مما أقول - وأنا أعلم أنه كذلك-، فإن المسلمين اختلفوا قبل أن يدفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم، علما بأنهم الصحابة وليسوا كتلة الغالبية ! ومنذ ذلك اليوم لا تستطيع أن تجمع مسلما على مسلم إلا بالتقوى، فلا تحيلوا فطرة الناس إلى طفرة، وعقيدتهم إلى عُقدة، وتتخذوا من الإسلام سلَما، (فإنما أهلك الذين قبلكم غلوهم في الدين).

 

د. فهيد البصيري

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي