أماكن / في تلك المراقد الأبدية (2 من 2)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |
... في مرقد «منا» الصغير الحجم، توجد حياة كاملة، صور العمل في الحقل، واللهو، توقفت طويلا أمام رسم جداري، غاية في البساطة، غاية في العمق، فتاتان من العاملات في الحقول، خطوط رسمهما تذكرني بالفن الحديث وجرأته.
تذكرت ما قاله بيكاسو عن بداية الأصول لحركة الفن الحديث من مصر القديمة، الفتاة الأولى تتراجع قليلا الى الوراء مرتكزة الى الأرض، تمد ساقها اليسرى وتستقر قدمها فوق ركبتي صديقتها التي يبدو عليها الاهتمام بينما تنهمك في استخراج شوكة من قدمها، منظر تلقائي، بارع، يفيض بالحيوية والصدق، وتبدو مشاعر متباينة فوق وجهي الصديقتين.
فالأولى التي تعاني مع دخول الشوكة يبدو عليها الألم، والثانية يبدو عليها التركيز والاهتمام، منظر حقيقي لابد أنه علق بذاكرة الفنان وأبدع أثناء عمله في تزيين المرقد الأبدي لأحد كبار موظفي الدولة الوسطى، كان ممكنا لهاتين الفتاتين أن تختفيا تماما، أن تندثرا من ذاكرة البشرية، تماما كما أندثر غيرهما، لكن هذا الفنان المجهول أمسك بهذه اللحظة ودونها وحفظها من الاندثار.. وهذا جوهر الفن.
التوقف عند كل مقبرة، والوصف الدقيق لها، يحتاج الى كتب مطولة، وجميع ما قرأته حتى الآن لا يشير الى حقيقة تلك المراقد، لا شيء يعادل رؤيتها، ولذلك فانني أتحدث عن الجوهر، عن المضمون الفني الرائع لهذه المراقد التي تخص الوزراء، وكبار القادة والموظفين العاملين في خدمة الفرعون.
ان ذاكرتي عامرة بالأيدي، تفيض الجدران بحركة الأيدي، وقد نجح الفنان المصري القديم في التعبير عن المشاعر الانسانية الدقيقة من خلال حركة الأيدي، وأول ما لفت نظري الى الأيدي في المتحف المصري بالقاهرة، ذلك الوضع العائلي، حيث تلمس الزوجة كتف زوجها بحنان بالغ، بينما تبدو يد الزوج من الناحية المقابلة.
ثم لفت نظري الأيدي المبتهلة، المرفوعة للدعاء، اما في مواجهة آلهة متخيلة أو غائبة، غير أن أكثف حركة للأيدي لاحظتها وشدتني طويلا، أيدي النسوة النائحات في مرقد راموزا، وزير اخناتون يتقدمن المشهد الجنائزي لصاحب المقبرة، ويرفعن رؤوسهن وأيديهن.
لم أعرف في الفن الانساني تعبيرا عن الحزن واليأس والتضرع مثل هذه التعابير المتداخلة الماثلة في تلك الأيدي، الحديث عن الأيدي يحتاج الى وقفة أطول، ويبدو أن علماء المصريات أدركوا أهمية وضع الأيدي، خصصوا صوانا كاملا في قسم المصريات بمتحف اللوفر لمجموعة من الأيدي، ليست رسومات، لكنها منحوتة من الخشب وسن الفيل والخزف، أيدٍ ضارعة، أخرى مبتهلة، متوسلة، أيدٍ مترفعة.
في مقبرة راموزا توقفت أمام رسم يمثل آتون، أي قرص الشمس الذي دعا اخناتون الى اعتباره رمزا للخالق بدلا من الرموز المتعددة للديانة المصرية، التي كانت ترمز للالة الواحد برموز مختلفة، لكنها في جوهرها تعبير عن اله واحد، واضح أن راموزا كان من رجال اخناتون وكبار دعاته.
يذكر عالم للمصريات اسمه هكذا «رع موسى»، فهل ثمة علاقة بين هذا الوزير والنبي موسى؟ بالنسبة لي أشك، لكن علمت من الأهالي في الأقصر أن هذه المقبرة يأتي اليها كثيرون من الأجانب، خصوصا من الولايات المتحدة، وأنهم يقيمون صلوات خاصة في المقبرة، وهناك دعوة لها اتباع كثيرون في الولايات المتحدة لعبادة اخناتون!
المقبرة التي ستظل مسيطرة عليّ لفترة، تلك التي بناها الوزير «رخ مي رع» وزير الفاتح العظيم تحتمس الثالث، هندسة بناء المرقد تستدعي الى ذاكرتي على الفور البهو الأعظم بالهرم الأكبر، يرتفع سقف الصالة الداخلية من مدخله الى أعلى، فكأنه أشعة الشمس الصاعدة عند الشروق، وينتهي السقف بكرة كان يوجد فيها تمثالان لصاحب المرقد وزوجته، لم أر جدرانا شديدة الثراء بالمشاهد المستمدة من الحياة اليومية كجدران هذا المرقد، ويقدر العلامة سليم حسن مسطح جدرانها بمئة وأربعين مترا، معظمها مغطى بتصاوير تصور الحياة اليومية، خصوصا المهن المختلفة، مثل النجارة والصباغة، وصناعة الزجاج.
كما نرى على الجدران حيوانات لم تعرفها مصر من قبل الا بعد توسعات الفاتح العظيم تحتمس الثالث، الذي وصل بالجيش المصري الى الضفة الأخرى من نهر الفرات، وأقام نصبا حجريا يحمل اسمه هناك، هذه القوة الحربية الهائلة، ظهرت بعد تحرير مصر من الغزاة الهكسوس.
وهنا نلاحظ الصعود والهبوط في التاريخ المصري القديم، الى الدرجة التي تجعلني أقول ان أهرام الجيزة ليست معمارا فقط، ولكنها تلخيص لمضمون التاريخ المصري، من صعود قوي يليه هبوط، ثم انسحاق، ثم صعود آخر.
على جدران المرقد رأيت هذه الحيوانات الغريبة عن مصر، ومنها الفيلة والزراف، لقد وسع الفاتح العظيم الحدود، وأصبحت مصر امبراطورية مترامية الأطراف، وتدفقت على البلاد ثروات طائلة لكن هذه الغنائم جاءت ولم تكن بمعزل عن أفكار الجهات التي أنتجت فيها أو جلبت منها، هذه الأفكار سوف تنمو في مصر، وتؤدي الى مسارات مغايرة تماما لروح الحضارة المصرية ونظرتها الروحية والأخلاقية، وسوف تعمل عملها، وسينتج عنها نهاية هذه الحضارة التي كانت مصانة، سليمة، طوال بقائها في بيئتها داخل وادي النيل.
وهذا موضوع يطول الحديث فيه، أفكر فيه طويلا عند انتهاء زياراتي الى مراقد النبلاء وعودتي الى البيت الذي أقيم فيه مشيا رغم الحر حتى أستوعب وأتذوق وأستنتج، فالجدران لا تقدم لنا تصاوير فنية أبدعها أولئك الذين لا نعرف أسماء معظمهم قبل أربعة آلاف عام من زماننا، لكنها تقدم أيضا المضمون الروحي لهم، ولأفكارهم، ولا أبالغ اذا قلت انني في عمق تلك المراقد تحت الأرض، كنت لا أرى فقط، ولكنني أسمع وأفهم أيضا.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي