أماكن / توهم الصلات (3)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

... خططت المدينة بدقة، من فوق الهرم يمكن رؤيتها، ملامحها قسماتها الرئيسة التي لاتزال أعمال الكشف جارية فيها، شارعان أساسيان هما محورها، يتقاطعان بزاوية قائمة، تنتشر عدة هياكل، ومعابد، كانت المدينة مقدسة، تضج** بالحيوية، أكثر تقدما من أي مدينة أوروبية في زمنها، الشارعان الرئيسان يستمران إلى الجهات الأربع.

الشارع الرئيس الذي يصل الهرمين كان يسمى شارع الموتى، على جانبيه اصطفت الهياكل والمعابد، أهمها هرم الشمس ذاته، يتقاطع شارع الموتى في وسطه بزاوية قائمة مع شارع عريض بلا اسم منقسم إلى قطاعين، الغربي والشرقي، ويصل طوله إلى نحو ثلاثة كيلو مترات. ومن هذين تتفرع شوارع أخرى متعامدة، بحيث تشكل شبكة متتالية منتظمة من المربعات.

يقول الباحث السوفياتي فاليري غولاييف، إن المدينة كانت حسنة التنظيم وأن شوارعها كانت مرصوفة بمحلول جيري صلب كالحجر وتحتها مجاري ومواسير حجرية تنقل ماء المطر إلى أحواض خاصة.

وهناك الآن تصور كامل لما كانت تحويه المدينة، بيوت سكانها، وأسواقها، وحي الأجانب الذي اكتشف أخيرا، وكان النشاط الرئيس في المنطقة هو الزراعة، وقد تعرضت مدينة «تيوتيهوا كان» إلى دمار شامل بين أعوام 450 ميلادية ـ 650 ميلادية،ويبدو أنه جرى على أيدي بعض القبائل الرحل التي لم تكن تعرف الاستقرار، والتي اجتاحت هذا المركز الديني والثقافي العام.

عندما كانت ساعة انصرافي، فارقت المكان متراجعا بظهري محاولا استيعاب الهرمين هرم الشمس، وهرم القمر، ويقيني الداخلي أقوى بوجود صلات ما بين مصر القديمة، وهذه البقاع، لكن الأهرامات ليست عنصر التشابه الوحيد.

***

بعد انتهاء المؤتمر دعانا مدير المعهد الثقافي لمدينة موريليا إلى منطقة جبلية قريبة، رائعة الجمال، والده هندي الأصل، يتزعم حركة لإحياء لغة قبليته السائدة في المنطقة، لغة «البورابتشا».

في افتتاح المؤتمر ألقى كلمة بها، ثم حرص على أن ينبهني إلى بعض صفحات الجريدة المحلية، تكتب بالبورابتشا في حروف لايتينة، ثم زارني خصيصا ليقدم إليّ عدة كتيبات تحوي أغنياته البورابتشا، بنوتتها الموسيقية، وقاموسا صغيرا للغة وما يوازي الكلمات بالإسبانية، وشريطا مسجلا عليه موسيقى وأغانٍ وقصائد البورابتشا، وهناك حركات قوية لإحياء أكثر من ستة وعشرين لغة هندية قديمة في محاولة لتحقيق الاتصال بالجذور، والخصوصية في محاولة أيضا لوقف الغزو الثقافي الآتي من الجارة الشمالية الأقوى، الولايات المتحدة، ولكن تأثيرها لا تلمحه إلا في المدن الكبرى، فالأساس الثقافي في المكسيك عميق وغني وقوي أيضا، من هنا كان الترحيب العميق ببحثي الذي ألقيته حول العناصر الروائية في التراث العربي وتحقيق الخصوصية هدفهم الرئيس وأحد همومهم الأساسية أيضا، لكلٍّ تراثه ووجهته لكن الهدف واحد.

دعانا الدير إلى المنطقة الجبلية المرتفعة، طبيعة خاصة، ثرية ترتد بالإنسان إلى بدايات الخليقة، فوق هذا الارتفاع بحيرة باسكويرا، بعد إبحار نصف ساعة بالقارب ذي المحرك تلوح جزيرة خانتسيو، البيوت فوق بعضها، الشوارع تصعد على جدران المرتفع الصخري وتنتهي بمقبرة الجزيرة، فوجئت في المقبرة ببقايا طعام، خبز، وفاكهة وخضراوات، وقيل لنا إنه في كل سنة تخصص المكسيك يوما للاحتفال بذكرى الموتى في شهر نوفمبر.

وفي هذا اليوم يتجه السكان لزيارة أقاربهم الراحلين، حاملين معهم إطارات خشبية علقوا بها كل ما كان يحبه الراحل أو يشتهيه، يضعونه فوق المقبرة، وعندما رجعت إلى مصادر العقائد الهندية القديمة، وجدت أنهم كانوا يضعون مع الميت في قبره طعاما وشرابا، وما كان يحتاج إليه من حاجات.

تماما كالمصريين القدماء، وهذه عناصر التشابه القديمة، وأعود لأشطح بخيالي من جديد، من يدري، ربما هاجرت موجات من المصريين القدماء حاملين معهم عقائدهم إلى هذه الفيافي النائية مع انهيار الحضارة المصرية القديمة وأفولها، وعاشوا في هذه القارة النائية التي اكتشفتها أوروبا في القرن السادس عشر، فدمر الغزاة ثقافات عريقة بلا رحمة، هل يفسر شطحي هذا تشابه الملامح، والطقوس، وعناصر الثقافة الشعبية؟ من يدري؟
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي