مشاهد / المنسي قنديل

يوسف القعيد





| يوسف القعيد |
عندما جلست لقراءة رواية محمد المنسي قنديل الأخيرة - كتابة ونشرا فقط -: «أنا عشقت»، حاولت أن اتذكر أول مرة رأيته فيها وأول مرة قرأت له، وتاهت المشاهدة الشخصية من الذاكرة، لكني أتذكر أن المرة الأولى التي قرأت اسمه مطبوعا كانت على قصة قصيرة منشورة في مجلة ثقافية. ربما كانت مجلة «الثقافة الجديدة» التي كانت تصدر إما عن الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة أو دار الثقافة الجديدة لصاحبها ومؤسسها محمد الجندي.
هذا عن القراءة، أما المعرفة فالمنسي قنديل وهو من القلائل الذين حسدناهم على جمال أسمائهم ربما لأنه كان في قريتي بقال ظريف الكلام حلو الحضور كان اسمه المنسي وكان يستخدم اسمه في إرهابنا أننا لو نسيناه سننسى كل الأشياء الجميلة في الدنيا. جاء المنسي قنديل من المحلة الكبري، مثلما جئت أنا من البحيرة. والمحلة الكبرى أمدت مصر بعدد كبير من رموز ثقافاتها في النصف الثاني من القرن العشرين. جاء منها جابر عصفور وسعيد الكفراوي ومحمد فريد أبوسعد ومحمد المخزنجي ثم عرفناها أكثر أيام محنة نصر حامد أبوزيد.
رأيته في مكتب رجاء النقاش، عندما كان يتولى إصدار مجلة «طبيبك الخاص» في زمن أمينة السعيد، وكان رجاء النقاش ممنوعا من أن يتولى رئاسة تحرير مجلة الهلال، حيث ملعبه الأثير وميدانه المحبب... وكان رجاء النقاش يرى في المنسي أنه من كتيبة الأطباء الأدباء الذين يمكن أن يلعبوا دورا مهمًّا في الكتابة الأدبية وأنه يكمل سلسلة الأطباء الأدباء: إبراهيم ناجي ويوسف إدريس ومصطفي محمود.
قرأت له «بيع نفس بشرية». و«حديث الوداعة والرعب». وهي الرواية القصيرة التي تم تحويلها لفيلم سينمائي كان عنوانه الأول: «ظل الشهيد» ثم أصبح «فتاة من إسرائيل». وقرأت له مجموعة قصص عنوانها «عشاء برفقة عائشة». وهذه القراءات المبكرة أكدت لي أنني أمام كاتب لديه مشروع وعنده ما يمكن أن يقوله وأيضا لديه اهتمام بأشكال أخرى تتجاوز الكتابة الأدبية، مثل كتابة الفيلم السنيمائي.. أقصد كتابة السيناريو والحوار، وأيضا القدرة على كتابة المسلسل التليفزيوني.
ثم تغرب في الكويت، حيث عمله في مجلة «العربي» الكويتية، ومنها انطلق إلى سفريات كثيرة في العالم كله، وفي مجلة «العربي» كتب رحلاته الصحافية إلى أماكن ربما لم نسمع عنها من قبل.
كان يكتب سرديات وحكايات... أكثر من كونه يبدو ملتزما بشكل الكتابة الصحافية، بل ربما في بعض الأحيان كان يقدم بورتريه للمكان الذي يزوره، حيث يربط حاضر المكان بتاريخه القديم والقريب. ثم يقيم صلة بين المكان ومن يعيشون في هذا المكان من البشر. ومثلما كان يعتمد على شعرية الكتابة الروائية والكتابة القصصية، فقد كان أيضا يحاول أن يستخرج من الواقع الذي يكتب عنه شعرية من نوع خاص.. كان يبدأ من تفاصيل الواقع اليومية ويرتفع إلى آفاق الشعر.
خلال تغربيته الكويتية وفي سنة 2003 أي منذ 9 سنوات مضت. ذهبت للحج ومعي زوجتي «المرحومة بهية محمد عبده سالم»، وابنتي «رباب»، وهناك قابلت المنسي وكانت معه زوجته «أماني درويش» وأصغر أبنائه «إيهاب»، وكانت معه أسرته. وكانت معي أسرتي.
وخلال الأيام التي استغرقتها مراسم الحج، تحدثنا طويلا عن مصر واحتلال أميركا للعراق والوطن العربي والقرن الجديد والألفية الجديدة... وقبل كل هذا وبعده عن الروايات، حيث يجمع بيننا حب الرواية والقصة القصيرة ليس حب كتابتها كما يتوهم البعض، ولكن حب قراءتها، فلا أزال أعتبر أن العثور على نص روائي جيد أهم من القدرة على كتابة رواية مقبولة.
اكتشفت أن المنسي قارئ شبه متخصص للروايات الجميلة، وكنت أتصور أن هذا امتياز يخصني وحدي باعتباري بقيت في مصر ولم أغادرها أبدا. أما الذين غادروا البلاد مرغمين أو مكرهين أو راغبين فربما حرموا من هذه النعمة النادرة لسبب بسيط عدم وجود الأعمال الأدبية بكثرة وكثافه وسرعه في بلاد المهجر. اكتشفت صعوبة اعتبار الكويت مهجرا فربما وصلتها الكتب أسرع من القاهرة.. والأهم من كل هذا أنني اكتشفت في المنسي متابعة دؤوبة وغير عادية للجديد في الرواية المصرية والعربية والعالمية.
هذه بيانات كتبها الناشر وهي دار الشروق- على غلاف روايته الخلفي، وأنا لست بحاجة إليها. ولكن ربما كان القارئ في أمس الحاجة لقراءتها:
محمد المنسي قنديل، روائي مصري، ولد في المحلة الكبرى العام 1949. تخرج في كلية طب المنصورة العام 1975، ولكنه انشغل بإعادة كتابة التراث... فاعتزل الطب وتفرغ للكتابة. صدر له عن دار الشروق رواية «قمر على سمر قند»، التي فازت بجائزة «ساويرس» للآداب وترجمت إلى الإنكليزية، «ويوم غائم في البر الغربي» التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر للرواية العربية 2010.
كانت آخر رواية قرأتها لمنسي قنديل السابقة على هذه الرواية: «يوم غائم في البر الغربي»، وعندما زرت صديقنا وخالنا عبدالرحمن الأبنودي في بيته الجميل على شاطئ قناة السويس بالإسماعيلية وجدت على مكتبه نسخة من رواية المنسي وبجوارها أوراق تبدو جزءا من مشروع كتابة سيناريو عن الرواية كان قد بدأ في كتابته. وقد شجعناه- جمال الغيطاني وكاتب هذه السطور- على المضي قدما في كتابة الحوار لهذا النص الجميل الذي تجرى أحداثه في صعيد مصر... وذكرناه - الخال عبدالرحمن- بدوره الخطير والمهم في كتابة سيناريو وحوار وأغاني فيلم: «شيء من الخوف»، وقلنا له إنه لولا ما قام به ما وصل الفيلم إلى المستوى الجيد الذي شاهدناه عليه.
لكن للأسف الشديد لم ينجح المسلسل جماهيريا.
ولكن تلك قصة أخرى.
عندما جلست لقراءة رواية محمد المنسي قنديل الأخيرة - كتابة ونشرا فقط -: «أنا عشقت»، حاولت أن اتذكر أول مرة رأيته فيها وأول مرة قرأت له، وتاهت المشاهدة الشخصية من الذاكرة، لكني أتذكر أن المرة الأولى التي قرأت اسمه مطبوعا كانت على قصة قصيرة منشورة في مجلة ثقافية. ربما كانت مجلة «الثقافة الجديدة» التي كانت تصدر إما عن الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة أو دار الثقافة الجديدة لصاحبها ومؤسسها محمد الجندي.
هذا عن القراءة، أما المعرفة فالمنسي قنديل وهو من القلائل الذين حسدناهم على جمال أسمائهم ربما لأنه كان في قريتي بقال ظريف الكلام حلو الحضور كان اسمه المنسي وكان يستخدم اسمه في إرهابنا أننا لو نسيناه سننسى كل الأشياء الجميلة في الدنيا. جاء المنسي قنديل من المحلة الكبري، مثلما جئت أنا من البحيرة. والمحلة الكبرى أمدت مصر بعدد كبير من رموز ثقافاتها في النصف الثاني من القرن العشرين. جاء منها جابر عصفور وسعيد الكفراوي ومحمد فريد أبوسعد ومحمد المخزنجي ثم عرفناها أكثر أيام محنة نصر حامد أبوزيد.
رأيته في مكتب رجاء النقاش، عندما كان يتولى إصدار مجلة «طبيبك الخاص» في زمن أمينة السعيد، وكان رجاء النقاش ممنوعا من أن يتولى رئاسة تحرير مجلة الهلال، حيث ملعبه الأثير وميدانه المحبب... وكان رجاء النقاش يرى في المنسي أنه من كتيبة الأطباء الأدباء الذين يمكن أن يلعبوا دورا مهمًّا في الكتابة الأدبية وأنه يكمل سلسلة الأطباء الأدباء: إبراهيم ناجي ويوسف إدريس ومصطفي محمود.
قرأت له «بيع نفس بشرية». و«حديث الوداعة والرعب». وهي الرواية القصيرة التي تم تحويلها لفيلم سينمائي كان عنوانه الأول: «ظل الشهيد» ثم أصبح «فتاة من إسرائيل». وقرأت له مجموعة قصص عنوانها «عشاء برفقة عائشة». وهذه القراءات المبكرة أكدت لي أنني أمام كاتب لديه مشروع وعنده ما يمكن أن يقوله وأيضا لديه اهتمام بأشكال أخرى تتجاوز الكتابة الأدبية، مثل كتابة الفيلم السنيمائي.. أقصد كتابة السيناريو والحوار، وأيضا القدرة على كتابة المسلسل التليفزيوني.
ثم تغرب في الكويت، حيث عمله في مجلة «العربي» الكويتية، ومنها انطلق إلى سفريات كثيرة في العالم كله، وفي مجلة «العربي» كتب رحلاته الصحافية إلى أماكن ربما لم نسمع عنها من قبل.
كان يكتب سرديات وحكايات... أكثر من كونه يبدو ملتزما بشكل الكتابة الصحافية، بل ربما في بعض الأحيان كان يقدم بورتريه للمكان الذي يزوره، حيث يربط حاضر المكان بتاريخه القديم والقريب. ثم يقيم صلة بين المكان ومن يعيشون في هذا المكان من البشر. ومثلما كان يعتمد على شعرية الكتابة الروائية والكتابة القصصية، فقد كان أيضا يحاول أن يستخرج من الواقع الذي يكتب عنه شعرية من نوع خاص.. كان يبدأ من تفاصيل الواقع اليومية ويرتفع إلى آفاق الشعر.
خلال تغربيته الكويتية وفي سنة 2003 أي منذ 9 سنوات مضت. ذهبت للحج ومعي زوجتي «المرحومة بهية محمد عبده سالم»، وابنتي «رباب»، وهناك قابلت المنسي وكانت معه زوجته «أماني درويش» وأصغر أبنائه «إيهاب»، وكانت معه أسرته. وكانت معي أسرتي.
وخلال الأيام التي استغرقتها مراسم الحج، تحدثنا طويلا عن مصر واحتلال أميركا للعراق والوطن العربي والقرن الجديد والألفية الجديدة... وقبل كل هذا وبعده عن الروايات، حيث يجمع بيننا حب الرواية والقصة القصيرة ليس حب كتابتها كما يتوهم البعض، ولكن حب قراءتها، فلا أزال أعتبر أن العثور على نص روائي جيد أهم من القدرة على كتابة رواية مقبولة.
اكتشفت أن المنسي قارئ شبه متخصص للروايات الجميلة، وكنت أتصور أن هذا امتياز يخصني وحدي باعتباري بقيت في مصر ولم أغادرها أبدا. أما الذين غادروا البلاد مرغمين أو مكرهين أو راغبين فربما حرموا من هذه النعمة النادرة لسبب بسيط عدم وجود الأعمال الأدبية بكثرة وكثافه وسرعه في بلاد المهجر. اكتشفت صعوبة اعتبار الكويت مهجرا فربما وصلتها الكتب أسرع من القاهرة.. والأهم من كل هذا أنني اكتشفت في المنسي متابعة دؤوبة وغير عادية للجديد في الرواية المصرية والعربية والعالمية.
هذه بيانات كتبها الناشر وهي دار الشروق- على غلاف روايته الخلفي، وأنا لست بحاجة إليها. ولكن ربما كان القارئ في أمس الحاجة لقراءتها:
محمد المنسي قنديل، روائي مصري، ولد في المحلة الكبرى العام 1949. تخرج في كلية طب المنصورة العام 1975، ولكنه انشغل بإعادة كتابة التراث... فاعتزل الطب وتفرغ للكتابة. صدر له عن دار الشروق رواية «قمر على سمر قند»، التي فازت بجائزة «ساويرس» للآداب وترجمت إلى الإنكليزية، «ويوم غائم في البر الغربي» التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر للرواية العربية 2010.
كانت آخر رواية قرأتها لمنسي قنديل السابقة على هذه الرواية: «يوم غائم في البر الغربي»، وعندما زرت صديقنا وخالنا عبدالرحمن الأبنودي في بيته الجميل على شاطئ قناة السويس بالإسماعيلية وجدت على مكتبه نسخة من رواية المنسي وبجوارها أوراق تبدو جزءا من مشروع كتابة سيناريو عن الرواية كان قد بدأ في كتابته. وقد شجعناه- جمال الغيطاني وكاتب هذه السطور- على المضي قدما في كتابة الحوار لهذا النص الجميل الذي تجرى أحداثه في صعيد مصر... وذكرناه - الخال عبدالرحمن- بدوره الخطير والمهم في كتابة سيناريو وحوار وأغاني فيلم: «شيء من الخوف»، وقلنا له إنه لولا ما قام به ما وصل الفيلم إلى المستوى الجيد الذي شاهدناه عليه.
لكن للأسف الشديد لم ينجح المسلسل جماهيريا.
ولكن تلك قصة أخرى.