سورية... نفحات إسلامية وعلمانية

تصغير
تكبير
يستطيع التلفزيون الأبيض والأسود نقل الحدث بما يشبه الواقع، في حين تغيب عنه تجليات الطيف اللوني، التي يوضحها نظيره الملون. العقلية الإقصائية تشبه التلفزيون القديم، إذ تجزئ المسافة بين ثنائية الخير والشر، التي تعتمدها، بتدرجات اللون الرمادي فقط. لا يستطيع اليوم أي حزب سياسي أو مفكر أن يستقرئ الواقع حسب الميراث الأيديولوجي للقرن الماضي، معتمدا على نبذ الآخر وتجريمه. من الواضح أن جماعة الإخوان المسلمين السورية عبر ميثاقها الأخير، تجاوزت ولو لفظيا ذلك الخطأ، والكرة الآن في ملعب العلمانيين كي يمدوا يدهم للآخر. لا شك أن نفوذ الإخوان بالمجلس الوطني السوري، ومشاركته المرتقبة في وضع لبنة الأساس لمؤسسات الدولة في المرحلة الانتقالية، يطرح الكثير من التساؤلات بما يخص مدى التزامهم بمدنية الدولة والحريات الفردية. أخطاء الثمانينات التي دفعوا ثمنها إقامة في المنفى ما يزيد على ثلاثين عاما، قد تعزز من هذه المخاوف.

الآخر العلماني لم يدرك حتى اليوم الفارق بين الإسلام السياسي والجماعات التكفيرية، عداؤه غير المبرر للديني يعبر عن سوء تقدير. استطاع الإخوانيون التمييز بين الليبراليين واليساريين والتعامل معهم إلى حد ما، في حين أن بعض العلمانيين السورييين يتصرفون كطائفة دينية أقلية، بما يمكن أن يوصف مجازا بالعلمانية التكفيرية.

معظم الأنظمة العربية المتداعية كانت تتستر بقناع علماني مزور، ما خلق لدى الشعوب العربية المحررة أزمة عداء للمصطلح دون الخوض في مؤداه التوظيفي. التجربة الأوروبية ابتكرت العلمانية كحل لحروبها الداخلية المزمنة، والتحرر من سطوة الكنيسة في العصور الوسطى، وما زالت حتى اليوم نسبة اللادينيين في معظم دول الاتحاد هي الأعلى في العالم. في الجهة الأخرى، فإن بعض أعضاء نادي العشرين الكبار كالبرازيل وتركيا والولايات المتحدة وإن بدرجة أقل، هي دول ذات نسب تدين عالية، ودساتير علمانية تفصل الدين عن الدولة. التاريخ يثبت أن التجارب السياسية لا تستورد إنما تصنع محليا، لقد تلقف العالم التجربة العلمانية الأوروبية بإطارها الدستوري، وهو في الحالة السورية، بناء دولة ديموقراطية مدنية مؤسساتية تكفل الحريات الدينية والفكرية، يستأثر فيها الصندوق الانتخابي بدور الحكم على الأداء، ما يؤمن تداولا للسلطة، قد لا يمنح أيا من الإسلاميين أو العلمانيين أغلبية على الدوام. بشكل عام فإن تخوف العلمانيين والأقليات من الأكثرية السنية، يرد إلى التوجس من أن تطغى ثقافتها على حرياتهم. الفكر الإخواني المعاصر يشكل صمام الأمان السياسي والاجتماعي ضد تزايد نفوذ الجماعات التكفيرية، من خلال قدرتهم على استقطاب شرائح واسعة من المجتمع السني وتوعيتها بحقوق الآخر، معتمدة على غالبيته المعتدلة. تفوق الإخوان التنظيمي وتماسكهم البنيوي الذي ضمنته مقدراتهم المالية الضخمة، سلاح ذو حدين، إذ يؤمن استقرارا سياسيا داخليا لأحد أهم مكونات المعارضة السورية بما ينعكس إيجابا على الاستقرار السياسي للدولة، لكنه في الوقت نفسه قد يمكن الجماعة من الاستئثار بالسلطة وفرض إملاءاتها. الأمر يحتاج إلى شراكة حقيقية بعيدا عن المناكفات، يقوم بها الإسلاميون بممارسة دورهم المرتقب، ويقوم العلمانيون -إن أعادوا تنظيم صفوفهم- بممارسة الرقابة اللازمة لضمان تأسيس دولة عصرية، لا تدخل شياطين الشرق الأوسط في تفاصيلها. إقصاء الآخر ثقافة وجدت طريقها إلى المجتمع والسياسة السوريين بعد نصف قرن من استبداد الحزب الواحد. التطور سمة عامة للعصر تنسحب حتى على الأيديولوجيا. التخشب يودي بصاحبه إلى زاوية مهملة في متحف التاريخ السياسي.

قد يشعر البعض أنني أتحامل على هذا الطرف أو ذاك، لكنها دعوة كي أحترم الآخر بكل خصوصيته، وأمضي معه لأعيد ولادة وطن، يشكل التوازن الإسلامي العلماني في نظامه السياسي والاجتماعي حالة فريدة، تمنع تكرار نماذج لأنظمة أخرى موجودة في المنطقة، وغير مرغوب فيها.



طريف الخياط
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي