البابا الراحل... والكنيسة المقبلة!

تصغير
تكبير
| القاهرة - من عبدالله كمال |
يمثل رحيل البابا شنودة، بطريرك الأقباط الأرثوذكس المصريين، فقدانا لقيادة روحية وزعامة ذات وزن سياسي، في لحظة تاريخية تواجه فيها مصر ارتباكا شاملا، تعاني منه مختلف المؤسسات وبما في ذلك المؤسسة الدينية بشقيها الإسلامي والمسيحي.
في الناحية الإسلامية، وجد الأزهر أن عليه مع صعود المد الديني السياسي متجسدا في الغالبية البرلمانية التي حققتها جماعات «الإخوان» والسلفية وبقايا «الجماعات الجهادية»، أن عليه أن يعيد ترسيم دوره كقيادة وسطية تمثل مرجعية تكتسب مكانتها من مصداقيتها وليس من الخضوع لها.
وعبَّر عن هذا الجهد الذي بذله خلال الأشهر الماضية فضيلة الإمام الأكبر، فكريا، على مستوى الوثائق المقترحة كإطار مرجعي للدستور المزمع صياغته خلال أيام، أو من خلال تعديل قانون الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية الذي أقر اختيار الإمام الأكبر بالانتخاب، ما أماط اللثام عن انتقادات كثيرة كانت توجه لوضعية الأزهر وشيخه.
نظريا، تمكّن الإمام الأكبر من أن يضع هذا الإطار الذي ينتظر كثيرا من الجهد لتفعيله، بينما يواجه الأزهر تنافسات مختلفة، من منابر سياسية توزع الخطاب الديني على مدار الساعة، وتتنازع معه التابعين والمستمعين، خصوصا أن تلك المنابر لديها نفوذ «السمع والطاعة» على من ينتمون إليها.
تصويت بتوجيه الكنيسة
في الناحية المسيحية، عكس هذا الصعود الديني السياسي الإسلامي قلقا قبطيا عظيما في شأن أوضاع الأقليات الدينية في بلد يروج فيه خطاب «التفوق الديني» وتتصدره اتجاهات ذات طابع طائفي، يقول بعض رموزها إنهم سيعفون الأقباط من فرض الجزية تكرما، وتعرضت فيه عائلات قبطية إلى التهجير من أماكن سكنها عقابا من أنصار اتجاهات سلفية بعد تحكيم عرفي رفض الرضوخ للقانون.
لقد دفعت متغيرات 25 يناير الكنيسة المصرية إلى أن تتواجد في شكل مكثف وعلني تقريبا خلال عملية التصويت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لاسيما في انتخابات مجلس الشعب، وتم توجيه الأقباط إلى التصويت لمرشحين بعينهم في دوائر مختلفة، من الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية، في ظل حال استقطاب حادة، وفي مواجهة خطاب ديني صارخ من جانب الجماعات الإسلامية المختلفة.
ورغم أن هذا النوع من التصويت لم يدفع إلى مجلس الشعب بكتلة برلمانية مؤثرة، فإن هذا لا ينفي أن حزبا مصريا تاريخيا هو «الوفد» كان شكا علنا في المرحلة الأولى من الانتخابات، من أن الكنيسة وقفت خلف التصويت لحزب «المصريين الأحرار»، معززا حال الاستقطاب ومتوجها إلى فئات من مؤيدي الجماعات الدينية الأخرى، وهو بالفعل ما أحدث له قليلا من التوازن في نتائج تصويت المرحلتين الثانية والثالثة من انتخابات مجلس الشعب.
توسع الكنيسة
بوفاة البابا شنودة، اعترى الأقباط قلق مبرر إضافي ليس له علاقة فقط بقيمة ومكانة الراحل الروحية، وإنما لأن موته جاء في لحظة تفاوض سيخوضها المجتمع على صياغة دستور الدولة الجديد، بينما الكنيسة في لحظة اختيار رأس جديد، وستستغرق وقتا في عملية الاختيار، وربما ينقضي الوقت وتنتهي عملية كتابة الدستور قبل أن تكون قد استقرت على بطريرك جديد وفقا للترتيبات الروحية والقانونية اللائحية المتبعة.
في السنوات الأخيرة، عانى البابا شنودة من «حزمة أمراض» دفعته إلى تقليل جهده والسفر المتتالي لتلقي العلاج في الولايات المتحدة، إلا أنه رغم تلك المعاناة كانت له السيطرة الروحية على شؤون الكنيسة، بحيث لا يمكن الخروج عن تعليماته المستندة إلى قيمته التاريخية ومكانته الدينية وتأثيره السياسي. لاريب كذلك أنه سيكون من الصعوبة بما كان أن يستطيع بطريرك جديد بناء المكانة التي استطاع البابا شنودة أن يصنعها طوال 40 عاما له في كرسي البابوية.
تمكن البابا شنودة وساعدته المتغيرات على ذلك، من أن يحدث توسعا متعدد المستويات للكنيسة القبطية في المجتمع المصري وعابر للحدود، سواء في اتجاه التفاوض المستمر مع الدولة على بناء كنائس جديدة رغم قيود البناء التي تفرضها قواعد «الخط الهمايوني»، الذي ناضل الأقباط من أجل تغييره طوال عصري السادات ومبارك من دون أن يتغير، أو في اتجاه الاتساع المستمر لنشر الكنائس الأرثوذكسية في مجتمعات المهجر، حيث تواجد ملايين من الأقباط الذين أقاموا في كل من أوروبا وكندا والولايات المتحدة واستراليا.
واستطاع البابا شنودة أن يخضع تلك الكنائس المهجرية لقيادته الروحية، عبر تولي شؤونها من قيادات دينية يختارها هو من القاهرة، حيث مقر الكنيسة الأرثوذكسية، أو من خلال رحلاته الرعوية المتكررة سنويا في اتجاه كنائس الولايات المتحدة وغيرها.
وفَّر هذا الجناح المهاجر للكنيسة في مصر ظهيرا ماليا ساندها بتبرعاته المختلفة، ماعضد انتشارها العقاري الديني في مصر، وفي الوقت ذاته، فإنه تحول إلى رديف سياسي لها، بحيث أصبح أعلى صوتا وأكثر تحررا من أقباط الداخل في المطالبة بما يرى أنه حقوق مهدرة للأقباط في الوطن.
واستطاع البابا شنودة بحنكة شديدة أن يصنع من هذا التضاغط سياجا أحاط بالأقباط المصريين في مواجهة ثقافة متطرفة صاعدة، في وقت سيطر فيه على جنوح كنائس المهجر، وبما لم يمنع ظهور جماعات ضغط مسيحية مهجرية من حول كنائس الخارج ومن دون أن تكون من داخلها.
أجيال متمردة
وإذا كان «مجتمع المهجر»، هو أحد أهم وأبرز المتغيرات في مسار الكنيسة الأرثوذكسية في ربع القرن الأخير من «عصر البابا شنودة»، فإن السنوات العشر الأخيرة تأثرا بتيارات المهجر، وتفاعلات المجتمع المصري عموما في الداخل، والنزوع الحديث إلى مواجهة الكنيسة سياسيا ومناقشتها علنا من قبل المسيحيين أنفسهم، تلك السنوات العشر أدت إلى ميلاد أجيال جديدة من الشباب التي تبلورت لديها اتجاهات جديدة عن أجيال آبائها في العلاقة مع الكنيسة.
تلك الأجيال اعتراها ما اعترى أجيال مصر عموما من تغيير، ومنحت نفسها القدرة على التحرر من المواقف التي تتخذها الكنيسة، بل في كثير من الأحيان ممارسة الضغط عليها، وربما انتقاد البابا الراحل بصوت صريح يصل حد التهجم على أدائه، وعلى طريقة تعامله مع الدولة وإدارته للأمور القبطية معها.
في غضون تلك السنوات اندفع هؤلاء الشباب إلى جعل الكنيسة ساحة لتظاهراتهم، وكانوا هم أول من رفع الصلبان في التجمعات الحاشدة، وإلى جانب ذلك توزع عدد كبير منهم على مجموعات من الحركات الاحتجاجية خصوصا «6 أبريل».
في السنوات العشر الأخيرة، ومع تصاعد أصوات العلمانيين المناقضين لتوجهات البابا شنودة، وارتخاء قبضة البطريرك بتقدم السن، كان أن تبلورت ظاهرة أخرى عبرت عن نفسها في نشوء تيار بين رجال الدين المسيحي يرى أن من حقه أن يتصرف بفردانية وبعيدا عن سياق الكنيسة، من خلال موقعه المحلي، إن كان مطرانا لإبراشية أو راعيا لكنيسة، خصوصا حين تقع أحداث لها علاقة بالمناخ الطائفي، ما أدى هذا إلى ميل نوعي للتحرر من نفوذ المركز ورأسه وشيوع قيم مختلفة في الأداء العام لرجل الدين المسيحي، بحيث أصبح للكنيسة بضع عشرات من الأصوات، التي تدل على أنها تموج بتيارات مختلفة، وأن البابا الراحل يمثل أكثر توجهاتها مرونة وهدوءا.
تحديات مختلفة
بالإجمال، فإن قداسة شنودة الثالث يغادر كرسي البطريركية، تاركاً خلفه التحديات التالية:
ـ مجتمع مسيحي يواجه تحدي التيارات الدينية الإسلامية المتطرفة.
ـ كنيسة تواجه تحدي تعدد الأصوات من حول كرسي البطريرك، الذي قد لا تكون له فيما بعد السطوة الأبوية نفسها.
ـ كنيسة ليست لديها السيطرة الكاملة - على الأقل سياسيا - على كل مفردات مجتمعها المسيحي، خصوصا أجيال الشباب.
ـ جماعات مهجرية ضاغطة على الكنيسة المحلية بنفس قدر ضغطها على الدولة.
ـ أصوات علمانية مسيحية ترفض سطوة الكنيسة على الحياة المسيحية بكل تفاصيلها، وتريد أن يقتصر تأثيرها على البعد الروحي فقط على أن يدير الأقباط حياتهم العامة بعيدا عنها.
وتتعاظم أهمية تلك التحديات في أنها ستكون مؤثرة على أداء الكنيسة وفقا لمن سيكون هو البابا القادم، بخلاف أن هناك عاملين جوهريين يفرضان نفسيهما على المؤسسة الدينية المسيحية:
- أولا: إن ملف الكنيسة في عصر مبارك كان خاضعا للاعتبارات الأمنية والعلاقة بين الكنيسة وجهازي أمن الدولة والمخابرات قبل غيرهما من المؤسسات. وهو الوضع الذي ليس فقط لم يعد مقبولا وإنما لا توجد أدوات حالية للاستمرار فيه بعد الضربة التي تلقاها جهاز أمن الدولة عقب 25 يناير ومضي المخابرات في اتجاه يتباعد بها عن مجريات التفاعلات السياسية الداخلية. إن هذا هو ما يطرح تساؤلا حول من الذي سيكون بيده الملف في الدولة المصرية الجديدة، وهل سيترقى من كونه أمنيا إلى أن يكون سياسيا وثقافيا، أم سيبقى على ما كان عليه، والأهم كيف ستريد الكنيسة الجديدة أن يكون تعاملها مع هذا الملف؟
- ثانيا: إن البابا رحل في لحظة عصيبة يمر بها المجتمع كله، وبينما يستعد البلد لصياغة دستور جديد، وفي حين تثور مشاعر قلق لدى كثيرين في شأن توجهات هذا الدستور الجديد والخشية من أن تمسك بتلابيب توجهاته التيارات الدينية الإسلامية الصاعدة، فإن الأكثر قلقا هو المجتمع المسيحي نفسه الذي لا يعرف من الذي سيكون صوته في مفاوضات الدستور، وهل سيكون هذا الصوت قادرا على أن يحدث التأثير الذي كان للبابا الراحل؟
إن كل هذا سيحدد ملامح الكنيسة المقبلة بعد رحيل البابا شنودة، وإلى أي مدى ستظل قائدة للمجتمع القبطي المصري. وإذا كانت هناك تخوفات لدى البعض من أن تتعرض للتفتت بعد غياب شخصية قائدة مثل البابا شنودة، فإن تلك التخوفات ليست لها قيمة من الناحية العملية أو براهين تؤكد عليها، غير أنه في ظل استبعاد احتمالات التفتيت البنيوي للكنيسة كمظلة دينية عامة، لا يمكن استبعاد حدوث نوع من التفتيت المعنوي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي