نادين البدير / لن أعتزل

تصغير
تكبير
| نادين البدير |

أعتزل الكتابة قليلاً. شعور سعيد وأنا أقاوم القدر. شعور بامتلاك الحياة وكل الخيارات. وقد اخترت الأسابيع الماضية أن أعيش أياماً عبثية.

أشكر كل رسالة سألت عن غيابي المتكرر وتذمرت من التزامي المتقطع، لكني كنت سعيدة... لا شيء يدفعك للكتابة سوى القدر. مستحيل أن تكون الكتابة فعلا طوعياً أو اختيارياً إلا إن كان من يصب الحبر فرحاً بتزيين جدران بيته ببراويز تحيط بصفحات جرائد كتب عليها اسمه الذي يملأ به الأعمدة اليومية والأسبوعية ومعظم المكتبات. لم يختر الكتابة، اختار أن ينظر لاسمه كل مرة كأنها المرة الأولى، مثلما حدث حين قرأت اسمي بجوار أول مقال نشرته بحياتي. وكنت صغيرة. قفزت بأنحاء المنزل ليرى الجميع المعلقة التي صففتها... لكني شيء فشيء اكتشفت اللعنة الخفية، وأن الأمر ليس أكثر من موت على الصفحات. وأن فعل الكتابة فعل عاجز. فعل تعذيبي

مجريات اللعنة تدفعك لتذكر كل تفاصيل الحياة بشرورها وبؤسها. الكتابة عدوة النسيان... وأنا أريد أن أنسى، لذلك أختار أن أعتزل قليلاً أحياناً.

كما قلت، فالقدر يختار من يقرر لهم أن يكتبوا، دون أي دور لهم بهذا الخيار. ودون أن يتمكنوا إزاء هذا الاستلاب سوى إعلان التمرد أحياناً والامتناع عن العطاء وتجربة لذة (التطنيش) مثلما كنت أسرح وألهو الأيام الماضية.

ينظر القدر للمتمردين. يطيل النظر. يمهلهم الوقت، يتغاضى عن تناسيهم مواعيد النشر، لكنه لا يفارقهم خصوصاً أثناء نومهم ساعات من الليل.

ساعات موحشة، يلازمهم حتى يوقظهم بكوابيس الليل. لأستيقظ معظم الليل. هكذا تؤرقك الكتابة وتلاحقك أينما حاولت الهرب، تتمدد على الأريكة. على السرير. تتمادى في الهرب فتتخذ من عشب الحديقة مأوى. لن تنجو. لن تنسى ولو ساعة واحدة

ككل مرة، أعبث لأسابيع ثم أستسلم. ومن أنا لأقرر؟

القدر وحده يخطط الحياة. وهو الذي قرر لي أن أستيقظ باكرة هذا الصباح لأكتب. فهمت أني سئمت تلك السعادة الموقتة. لم تكن سعادة بالمعنى الذي تعرفونه، كان تحايلاً على معانيها. وتصور الشرور خير، وتصور القبيح حسن، والتعاسة فرح

ألم يكن جميلاً أن أرى الأشياء جميلة؟

أليس ملائكياً أن نعتقد بأن الخير والجمال هما العنصران الوحيدان الموجودان وأن قدرتنا على رؤية القبح والشر قد نفدت؟

كيف سيصبح الكون حينها؟ وكم سيبدو جميلا. أو قد يبدو غير معقول. إذ ستنتفي عندها كل الأقدار. ومن يهمه؟ برأيي سيبدو الكون جميلاً.

لكن الكوابيس لا تعرف معاكسة الكون. الكوابيس تذكرك بالقبح والشر وبنسج الوهم الذي تصنعه.

استيقظت هذا الصباح لأستسلم له من جديد. طريقتي للتصالح معه ليتوقف عن إرسال العذابات الليلية. ويتركني أنام كالبقية. البقية غير الملعونة.

أعترف أني أمارس الآن سعادتي الأبدية، ليست سعادة بمقاييسي الشخصية لكنها تشعرني بالاطمئنان. ربما لتمكنني من سماع صوت الحروف، ربما لتفريغ ما بداخلي على الصفحات ليتلقاها غيري، ليتعس بها أي مخلوق. الأنانية جانب من الكتابة. ومقابلها تكون القراءة موجعة لكنه ذنب من يقرأ لا من يكتب. لا تنتقدوا أفكاري أو تخرجوها من الملل، لم أتدخل حتى بخيار نشرها. كان حكم القدر، وأنتم اخترتم أن تقرأوا.

الكتابة مسؤولية وحمل ثقيل، ليست شيئا ممتعاً على الدوام، أن تخرج الأفكار من رأسك وتطرحها للعلن مخاطرة قصوى. فكلمة ترفعك للسماء وكلمة تسقطك لنواة الأرض. لكنك لا تأبه، مطلوب منك ألا تتأثر بأي مديح أو نقد أو لعنات. تقرر ما قرره القدر، تكتب دون نفاق أو مجاملة، تعبر عن رأيك بصراحة، وتنظر بغبطة لأولئك الماجنين والماجنات السعداء بأسمائهم الرخيصة ترافق مقالات ليس بكلماتها إلا قبح ونفاق للشعب ولساسة الشعب طمعاً بإحدى الجوائز العربية الكثيرة. لكن الكتابة ليست تقيؤاً. بل إحساس يرتقي بذاتي قبل أن يرتقي بأحاسيس الناس.

لم أحلم بأن أقرأ اسمي كل يوم، ولم أتمنى أن يطرح بزاوية من الزوايا الانترنتية الرخيصة أو أن يتداوله أفراد مجلس لا يروقني أصحابه، لكن قضايا الناس والمحيط توقظني، استيقظ لأكتب وأحاول تشخيص الألم الذي يرافق الكتابة، أهو ألم ممتع أم ألم مؤلم؟ لست أدري.

أحاول تحديد إن كنت فعلاً سعيدة بانقطاعي الموقت أم كنت أتخيل سعادة موقتة أخرى ضمن حياتي الموقتة؟

المهم، أقول لمن كرهوني. لمن أحبوني. ولمن هم بين المنزلتين. لن أعتزل.





كاتبة وإعلامية سعودية

nadinealbdear@gmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي