أماكن / عبور المحيط (2)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

... ترى، أي صور جالت عند من وقف على حافة البر، سواء في سواحل المغرب، أو آخر حدود اليابسة في بلاد الأندلس، أي صور توالت، أي احتمالات أمام اللانهائية الجبارة للبحر الذي كانوا يتصورون أنه محيط بالدنيا، كما **يحيط بياض البيضة بصفارها، ألم يقدم أحدهم على المغامرة على خوض لجة المجهول قبل أن يجهز كولومبوس قافلته؟

أشك...

تحتفظ المصادر التراثية العربية باشارات عديدة الى ثمانية أخوة من المغرب أقلعوا في البحر المحيط، وغابوا عدة شهور حتى انقطع الأمل فيهم، ثم رجعوا يوما، وأخبروا عن وصولهم أرضا غريبة، يسكنها قوم مختلفون، فهل وصلوا الى الساحل الأميركي؟، ربما.

هل كان كولومبس أول من حط على شواطئ أميركا العام 1492 ميلادية؟

أشك أيضا، في عدد الخريف الماضي من مجلة التراث الشعبي العراقية دراسة مترجمة بعنوان «الأزيتك ووالمايا والأنكا، هل كانت المعتقدات الشعبية سببا في سقوطهم؟»، عندما وصل كورتيز قائد الغزاة الاسبان الى مدينة «مونتيزوما تينوشتتلان» وتعرف اليوم بمدينة المكسيك.

انها محط رحلتي في الذهاب، ألتقي بالقائد الهندي مونتيزوما، كان متألقا بالذهب والفضة والريش الأخضر الغريب، كانت المفاجأة كلمات الترحيب التي قام بها أمام الغزاة الاسبان، انحنى قائلا: «الهنا.. انك مضني، لقد أتعبك السفر، ولكنك الآن قد وصلت الى الأرض، وصلت الى مدينتك مكسيكو، لقد تنبأ بهذا الملوك الذين حكموا مدينتك، وها هي النبوءة قد صدقت، لقد عُدت الينا.. لقد هبطت من السماء».

لم يحاول مونتيزوما امبراطور الأزيتك ايقافه حتى عندما دمر كورتيز المعابد المقدسة، ويرجع ذلك الى عقيدة الأزيتك الهنود نفسها، انهم يعتقدون بوجود اله يدعى كورتيز الكويتلي جاء من الشرق ثم اختفى عائدا الى الشرق ثانية، تصفه الأساطير أنه طويل القامة ذو بشرة بيضاء، وله لحية.

كانوا يعتقدون أنه سيرجع مرة أخرى، ويبدو أنهم رأوا في الاسبان تحقيقا لهذه الأسطورة، هل قامت عناصرها على أساس واقعي يمت الى زمن قديم، سحيق البعد جاء فيه رجال بيض من المشرق أثاروا المخيلة، واختفوا، ربما. فما من شيء مؤكد في حقب التاريخ البعيدة... اعيد النظر الى الشاشة، توغل الطائرة فوق المحيط، تصعد شمالا، ظننت أنها ستمضي في خط مباشر الى نيويورك، ولكن الطريق على هيئة مثلث.

ويبدو أن هذه مسارات في الجو تشبه الطرق، تشير الخريطة الى ريكيافيك عاصمة أيسلندة، في الخارج الظلام مطبق، فراغ في العتمة، ما من تفاصيل بادية، لا يلوح لي شيء مما هو موجود بالفعل.

ولكن كل ما عندي يمت الى ما لا يوجد حولي على المستوى المحسوس، ملامح الأهل، والصحب، ونواصي معينة في مدينتي ارتبطت بها، وألفت أريجها، عالم داخلي خاص بي، عناصره عندي، أحمله فوق البحر المحيط، كنت أحاول تخيل امتداد المياه المنبسطة تحتي، ما تحويه، أصل عند لحظات معينة الى مواقف شبيهة بتلك التي اجتازها أجدادي في التراث العربي القديم، كيف نظروا الى هذا المحيط الأعظم.

***

في كتبه الثلاثة التي وصلت الينا، تحدث المسعودي عن البحر المحيط، نجد ذكره في «أخبار الزمان» و«مروج الذهب» والتنبيه والاشراف» صوره لنا على أنه بحر الظلمات، فيه عرش ابليس لعنه الله، وفيه هيكل سليمان، وفيه أسماك طول الحوت منها أمتارعدة، ومدائن تطفو على سطح المياه وتغيب، وقصور من البلور تضيء بقناديل لا تنطفئ أبدا، وفيه مدينة من حجر أبيض براق تُسمع فيها ضوضاء وأصوات ولا يُرى بها ساكن وفيه جزيرة بها مساكن وقباب بيض تلوح وتتزيا للناس فيطمعون فيها وكلما قربوا منها تباعدت منهم فلا يزالون كذلك حتى ييأسوا فينصرفوا عنها.

أما سراج الدين أبو حفص عمر بن الوردي... فذكره في كتابه «فريدة العجائب وفريدة الغرائب»، قال انه كثير الأحوال، أمواجه كالجبال الرواسي، ظلامه كدر، وريحه ذفر، وفيه صنم يشير بيده، لا خطوة بعدي... ثم يصف مجموعة من الجزر سبق للمسعودي أن وصفها، وأطلق عليها «جزر الخالدات.

وهذه الجزر موجودة بالفعل في المحيط الأعظم، أو بحر الأوقيانوس كما ذكرته المصادر القديمة، أو الاطلنطي كما نعرفه الآن.

أتطلع الى الشاشة الصغيرة، الطائرة الآن فوق جرينلاند، المناطق الأبرد من العالم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي