د. فهيد البصيري / خلونا ساكتين

تصغير
تكبير
في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان المسلمون يمضون شهورا طويلة بعيدا عن أهلهم وأثناء العودة كان يأمرهم صلى الله عليه والسلم بالمبيت خارج المدينة، وألا يدخلوها ليلا وكانت الحكمة من ذلك هو أن تستعد الزوجة وأن يتهيأ الجميع لاستقبال القادمين، وبالمرة كان هناك فرصة لكل شخص في المدينة أن «يلم حاله»، وكان صلى الله عليه وسلم يوصيهم بالستر في كل طالعة ونازلة، وألا يدخلوا المنازل إلا بعد الاستئذان «والإحم والدستور»، وعندما شرع حد الزنا لم يتركه لعبة لذوي الإشاعات والقيل والقال، ولم يتركه عرضة لتقدير الإنسان ومزاجه الشخصي بل اشترط فيه شروطا صعبة ومنها أربعة شهود عدول وليس أي شاهد، ولم يكتف بذلك بل اشترط أن يقر الشاهد بمشاهدته كل شيء بالعين المجردة، وهو شرط من المستحيل تطبيقه، فكف المسلمون وعفت ألسنتهم عن الكلام في أعراض بعضهم، ولم يقم حد الزنا إلا في وحالة واحدة، وكان باعتراف الزانية نفسها ولا داعي لذكر تفاصيل تلك القصة وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاول ردها ولكن دون فائدة.

وامتدادا لهذا الإرث الإسلامي السامي قام الشيخ سعد العبدالله الصباح رحمه الله في بداية عصر النهضة «أسقاه الحيا» بفصل التحقيقات عن النيابة، وهو نظام عالمي لا يوجد إلا في الكويت، وكان من ضمن الأسباب هو أن بعض الكويتيين اشتكوا من أن الذهاب للنيابة يشكل منقصة للرجل في نظر المجتمع في ذلك الوقت وليس اليوم لا سمح الله، عندها كان الذهاب للنيابة يعتبر عيبا حتى لو كان بسبب حادث مروري بسيط أو مشكلة تافهة وبالخطأ.

وعندما انضممت في سلك الداخلية كانت سياسة الستر دارجة، ولا يعني الستر هنا أن تتجاوز عن شكوى المجني عليه، أو أن تتغاضى عن اختراق القانون، ولكن يعني إذا صادف ووجدت رجلا وامرأة في وضع مريب، وأنتم سيد العارفين، وفي مكان عام وكانوا كويتيين أو احدهما كويتي على الأقل، فعليك أن تكون حذرا ولا تستعجل بتسجيل القضية، والخوف هنا من أن تتسبب هذه القضية التافهة بحدوث جريمة أو مصيبة اكبر، فالموضوع موضوع أعراض ناس، وقد ينتج عن تسجيل القضية جريمة قتل أو ثأر أو خراب بيوت، والمجتمع الشرقي يقوم مفهوم الشرف فيه على هذه القضايا الأخلاقية وكل ما عدا ذلك من مظاهر الفساد لا يهم! وبالفعل كنا نتدارك الأمر قبل وقوعه وقبل أن يصبح عصيا على الحل، ولم يكن دور ضابط المخفر تعقيد الأمور وتشجيع الناس على المشاكل بل من واجبه تحليل الشكوى وفك رموزها وإجراء التحري الأولي وتكييفها للتحقق، فإذا كانت جناية فهي من حظ النيابة، وإذا كنت جنحة، هانت وهي هنا من نصيب التحقيقات. ولو أننا قمنا بتطبيق القانون بحذافيره وقمنا بتسجيل كل شاردة وواردة للمخفر، وكل ما تشاهده عيوننا لغصت النيابة والتحقيق بالقضايا التافهة، وغير المنطقية أحيانا! واكتظت المحاكم بالمواطنين ومن كل فج عميق ومن عاليها ومن سافلها، ولأحرقنا الأخضر واليابس وقبل هذا وذاك قال تعالى «يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم»... يعني خلوها مستورة وخلونا ساكتين.

ومن يعمل في قطاع المخافر يعرف بالتفصيل ماذا أعني بكلامي ولكن نشر الفضائح أصبح هواية إعلامية وتكسبا ماليا على حساب أعراض الناس وخراب بيوتهم، وفي الطريق إلى قسم التحرير في الجريدة تصبح القصص التافهة قصصا من طراز ألف «ليلى وليلى»! فانفرط العقد وصار المجتمع الكويتي أمام العالم وأمام نفسه مجتمعا عاريا لا يستره سوى منخل بعيون محطة فضائية.

ولا أدري أيهما أصح القانون أم مصلحة الناس، فالقانون يبقى من صنعنا وهو في كل الأحوال قاصر وقانون الجزاء الكويتي بقي على الرف حتى عافته الجرذان، والجريمة تتطور والمجتمع يتغير والقانون جامد، ومشكلته أنه مستورد ولا يخلو من التناقض وفي أحيان أخرى غبي! ولذا قد تشاهد مجرما طليقا، وبريئا مسجونا!

ولكن ما الذي دعانا للحديث عن القانون و«أبو القانون» والذي وضع القانون، انه العميد شكري النجار الذي أصبح بفضل الإعلام شكري سرحان رغم أن الموضوع لا يستحق هذه الضجة ولا هذه المقالة ولا هذه الوقفة الشجاعة من بعض النواب، ولا هذا التحليل العميق من المحللين الدستوريين، وكأن الكويت ليس فيها من مشاكل الدنيا إلا شكري و(يا طلابة شكرى).

ولكنه الانحراف عن الهدف، وضياع البوصلة، ولعبة تصفية الحسابات، فالعميد شكري النجار سيسرح والمشتكية لن تشتكي، وستنتهي القصة ولكن بضحايا وبعد تحطيم بعض القيم الكويتية والإسلامية الأصيلة، وستصبح المعركة بعد ذلك أقسى وأمر، ولكن هل سينتهي الفساد، وهل هذا فقط هو الفساد الذي نعنيه، وهل تحولت ملاحقة الفساد في الكويت إلى ملاحقة المغامرات العاطفية الخائبة؟! ستجدون الإجابة عند السياسيين!





د. فهيد البصيري

كاتب كويتي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي