نحو ألق ثقافي / هل تستطيع الدولة أن تصنع مثقفاً؟

د. علي العنزي


| د. علي العنزي * |
مهما قيل عن أخطاء المثقفين، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنهم صاغوا الوعي العربي، وزاوجوا في كثير من الحالات بين الكلمة والممارسة. وكلما شاركت في ندوة، كثيراً ما وجدت بعض مثقفينا يرددون سؤالاً لطالما تساءلت عن مدى وجاهته: أين الدولة من دعم المثقف؟
أرقني هذا السؤال طوال عطلة العيد، فأخذت أقولبه متسائلاً: هل نستطيع أن نخلق مثقفاً بالفعل؟
منعقد الحاجبين، مكثت على مقعدي الوثير، ليهديني عقلي إلى إجابة ما. وفيما أنا أفكر، لاح لي ثلة من الرعيل النهضوي الأول.
قفز رفاعة الطهطاوي أولاً، فهو الذي لم تخبو شعلته الريادية حتى عندما قرر الخديوي عباس نفيه إلى السودان، وفي أحلك الظروف، واصل من منفاه العمل بمشروعه الثقافي ولم يعبس ولم يعق.
ثم تمنيت لو ابتلعتني الأرض، عندما تذكرت ما فعله سعيد باشا بعلي مبارك؛ هذه العبقرية، التي اقترن اسمها بتاريخ مصر العمراني الحديث؛ ففور جلوسه على العرش، عهد الخديوي إسماعيل إليه، بقيادة مشروع مصر العمراني، فأعاد تنظيم القاهرة على أحدث نمط؛ وشق الطرق، وشيد الميادين والمباني، ومد القاهرة بالمياه وأضاءها بالغاز، ولا يزال تخطيطه باقيًا حتى الآن، شاهداً على براعته.
وبعد كل ما سبق، وبفعل الوشاة كالعادة، اتخذ سعيد باشا عندما تولى الحكم، قراراً بعزل علي مبارك عن جميع مناصبه، بل وألحقه رغم سنّه بالقوات المصرية التي تشارك مع الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، وبعد عودته إلى القاهرة فوجئ بأن الباشا سرح الجنود العائدين من الميدان، وفصل أغلب الضباط، وكان علي مبارك واحدًا ممن شملهم قرار إنهاء الخدمة. فهل أمام هذه المحن استسلم على مبارك؟ بالطبع لم يستسلم، وظل يكتب ويؤلف حتى فاضت روحه.
تعرّقت خجلا أيضا عندما لاح لي عبد الرحمن الكواكبي، الذي كان من أوائل من دعوا المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل إليه الأمر من مضايقات من السلطة العثمانية، لم يعقم، بل هاجر إلى الهند، ثم الصين وسواحل أفريقيا، وانتهى به المطاف في مصر التي ذاع صيته فيها وتتلمذ على يديه الكثيرون وكان واحداً من أشهر العلماء.
وكان آخر من دار بخلدي، محمد عبده ليس الفنان محمد عبده طبعاً والذي رغم أنه كان من أهم المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، فإنه لم يعد إلى مصر إلا بعفو من الخديوي توفيق بعد أن عفا عنه المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر.
هممت بالوقوف على قدمي مبتعداً عن المنضدة والمقعد الوثير. وتساءلت هل يعقم المثقف إن لم يجد دعماً؟
* أستاذ النقد والأدب
مهما قيل عن أخطاء المثقفين، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنهم صاغوا الوعي العربي، وزاوجوا في كثير من الحالات بين الكلمة والممارسة. وكلما شاركت في ندوة، كثيراً ما وجدت بعض مثقفينا يرددون سؤالاً لطالما تساءلت عن مدى وجاهته: أين الدولة من دعم المثقف؟
أرقني هذا السؤال طوال عطلة العيد، فأخذت أقولبه متسائلاً: هل نستطيع أن نخلق مثقفاً بالفعل؟
منعقد الحاجبين، مكثت على مقعدي الوثير، ليهديني عقلي إلى إجابة ما. وفيما أنا أفكر، لاح لي ثلة من الرعيل النهضوي الأول.
قفز رفاعة الطهطاوي أولاً، فهو الذي لم تخبو شعلته الريادية حتى عندما قرر الخديوي عباس نفيه إلى السودان، وفي أحلك الظروف، واصل من منفاه العمل بمشروعه الثقافي ولم يعبس ولم يعق.
ثم تمنيت لو ابتلعتني الأرض، عندما تذكرت ما فعله سعيد باشا بعلي مبارك؛ هذه العبقرية، التي اقترن اسمها بتاريخ مصر العمراني الحديث؛ ففور جلوسه على العرش، عهد الخديوي إسماعيل إليه، بقيادة مشروع مصر العمراني، فأعاد تنظيم القاهرة على أحدث نمط؛ وشق الطرق، وشيد الميادين والمباني، ومد القاهرة بالمياه وأضاءها بالغاز، ولا يزال تخطيطه باقيًا حتى الآن، شاهداً على براعته.
وبعد كل ما سبق، وبفعل الوشاة كالعادة، اتخذ سعيد باشا عندما تولى الحكم، قراراً بعزل علي مبارك عن جميع مناصبه، بل وألحقه رغم سنّه بالقوات المصرية التي تشارك مع الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا، وبعد عودته إلى القاهرة فوجئ بأن الباشا سرح الجنود العائدين من الميدان، وفصل أغلب الضباط، وكان علي مبارك واحدًا ممن شملهم قرار إنهاء الخدمة. فهل أمام هذه المحن استسلم على مبارك؟ بالطبع لم يستسلم، وظل يكتب ويؤلف حتى فاضت روحه.
تعرّقت خجلا أيضا عندما لاح لي عبد الرحمن الكواكبي، الذي كان من أوائل من دعوا المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل إليه الأمر من مضايقات من السلطة العثمانية، لم يعقم، بل هاجر إلى الهند، ثم الصين وسواحل أفريقيا، وانتهى به المطاف في مصر التي ذاع صيته فيها وتتلمذ على يديه الكثيرون وكان واحداً من أشهر العلماء.
وكان آخر من دار بخلدي، محمد عبده ليس الفنان محمد عبده طبعاً والذي رغم أنه كان من أهم المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، فإنه لم يعد إلى مصر إلا بعفو من الخديوي توفيق بعد أن عفا عنه المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر.
هممت بالوقوف على قدمي مبتعداً عن المنضدة والمقعد الوثير. وتساءلت هل يعقم المثقف إن لم يجد دعماً؟
* أستاذ النقد والأدب