أماكن / في الأسبلة... «لو كشف عني الغطاء ما ازددت يقينا» (1)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064ar
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
لطول ما أمضيت من وقت، ماشيا أو قاعدا بمقاهي الطريق أو في المساجد والمدارس المصرية، صار بيني وبين الواجهات والنوافذ والأبواب والنقوش صلة، من هنا كان صميم حزني على سرقة تلك الأجزاء الرائعة المنتقاة بعناية، التي تعاقب اختفاؤها خلال العام الحالي.

هذه السرقات كما ذكرت لم تحدث في زمن المجاعات والأوبئة، في أشد العصور انحطاطا. إن شكوكي تتجه إلى دولة خليجية صغيرة أعلنت عن إنشاء أضخم متحف للفن الإسلامي في الشرق الأوسط، من أين لها بالمعروضات وليس لديهم أي تراث مما يعتد به، إن التجرؤ على الأماكن الدينية بهذا الشكل ظاهرة غريبة على المجتمع المصري، الدافع إليها من خارجه، أما التنفيذ فمن الداخل ومن خبراء فنيين.

ما أتمناه مراقبة هذا المتحف وما سيعرض فيه حتى لو بعد سنوات عديدة، لقد أجرى النائب العام تحقيقا دقيقا ولم يغلق بعد، لعل وعسى المستقبل يحمل لنا أمرا.

ابتعد عن قبة الشيخ سعود الخضراء، زاوية صغيرة، طلاء جدرانها أخضر، للناس في هذا الشيخ المجهول اعتقاد.

أعبر أمام بيت كبير، جميل، بيت مصطفى سنان، لم ألمح أحدا فيه، وسمعت من يقول إن بداخله ساكنا وحيدا لا يظهر أبدا. بيت آخر لعائلة المهندس، في القاهرة القديمة العديد من هذه المباني المهجورة، المغلقة، أسميها عمارة الصمت، أطيل التأمل في واجهاتها، أحاول تخيل الحيوات التي ضجت بها يوما.

من هذه العمارة مدرسة عبدالرحمن كتخدا بشارع قصر الشوق لايزال المبنى قائما بنوافذه المستطيلة، بعضها مغلق والآخر مفتوح منذ نحو أربعين سنة، منذ أن أغلقت المدرسة أبوابها ونسيت، لا أعرف إلى من تعود ملكيتها، لا أشغل نفسي بالتساؤلات القانونية، إنما أتوقف أمامها محاولا الوصول ولو إلى لحظة من لحظاتي التي مررت بها هنا، أنا كنت هنا، أمضيت في هذه العمارة المهجورة الآن ثلاث سنوات من طفولتي قبل أن أنقل إلى مدرسة الجمالية الابتدائية، كانت المرحلة الابتدائية أربع سنوات.

أرى بوضوح لحظة أن اصطحبني أبي إلى المدرسة ليسلمني إلى إبراهيم أفندي سكرتير المدرسة، كان يرتدي جاكت غامق فوق جلباب وطربوش أحمر، عيناه تحدقان صوبي من العدم، كأنه يتطلع إليّ الآن، لحظة غير متصلة بما قبلها أو بعدها، ثابتة، هكذا الصور المتبقية في الذاكرة، كأنها صور في جداريات مدفونة رغم أنها ماثلة في ذاكرة حية.

كان ذلك عام واحد وخمسين.. كان المكان قويا، تطل عليّ وجوه المدرسين الذين عرفت على أيديهم أسرار الحروف، الذين فتحوا لي عوالم وأكوان المعرفة.

الأستاذ رضوان الأصلع عاشق أم كلثوم، كان يغلق باب الفصل ويبدأ الغناء، يغني لنا «مصر التي في خاطري وفي دمي» لايزال صوته في سمعي، الشيخ مصطفى المهيب بطلته، وسعدالله أفندي صاحب القدرة على الحكي، لا أذكر الناظر، ولا الزملاء، فقط واحد كان مستطيل الوجه لكن اسمه راح مني.

وقت الظهيرة تعبق المدرسة برائحة طبيخ، كنا نتناول وجبة غداء من «لحم وخضار ومرق»، قررها الدكتور طه حسين لجميع المدارس، ثم تحولت إلى وجبة جافة من «بيض مسلوق وجبن رومي وحلوى طحينية وأرغفة»، أكلت هذا كله في تلك العمارة التي تقف الآن صامتة، تطالعني بنوافذها الخربة.

هل أتطلع إلى الجدران أم إلى أيامي؟ أوقاتي التي تتسع المسافة بيني وبينها، أيامي الموزعة على نواصي القاهرة القديمة، على دروبها وحواريها، لم نسكن الدرب الأحمر لكنني ترددت عليه بصحبة الوالد رحمه الله، لزيارة ضريح السيدة فاطمة النبوية، أو بعض الأقارب.

ألمح سبيلا عثمانيا في حالة رثة، هنا بعد بدء درب التبانة يختفي مسجد ومدرسة الجاي اليوسفي، كذلك تركت خلفي حمام الأمير بشتاك وهو مغلق ولا يعمل، واجهته لاتزال تحمل زخارف جميلة، إنه صاحب القصر الكبير بشارع المعز المواجه للمدرسة الكاملية، ومسجد ومدرسة برقوق، وهذه العمائر كلها سأتوقف مطولا عندها بعد أن أصل إلى بين القصرين، إلى منطقتي الحميمة التي شببت بها.

هنا بالقرب من حمام بشتاك أقام الفنان الراحل محمود شكوكو، كان نجارا مع أشقائه، من هنا بدأ رحلة الفن، وفي تقديري من دون مبالغة أنه لا يقل موهبة عن شارلي شابلن، وقد حقق شهرة واسعة لا يحلم بها الباحثون عن الشهرة الآن، إنه الوحيد الذي صنع له المصريون تماثيل من الجبس، كانت تتم مقايضة الواحد منها بزجاجة فارغة، زجاجة كانت معبأة بالزيت، بالشربات.

هذه المقايضة كانت مألوفة في القاهرة القديمة، خصوصا استبدال الملابس القديمة، وبخاصة استبدال الملابس القديمة بالأواني المنزلية وكان يطلق عليها «روبابيكيا»، تماثيل شكوكو لم ينحت مثلها لكبار الفنانين أو السياسيين، كان الباعة يصيحون «شكوكو بالأزايز»... «أي الزجاجات».

أتذكر ذلك فأعجب، التماثيل كانت على هذا الحضور الشعبي الواسع، الآن تم إغلاق قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بعد سريان ثقافة التشدد التي تقف ضد النحت باعتباره محرما. إنه التقدم إلى الوراء!

عند نقطة من الطريق تبدأ مئذنة الطنبغا المارد، في الظهور، شيئا فشيئا تلوح، كما ذكرت فإن العين لابد أن تقع على مئذنة أو قبة طوال المسار من ميدان الرميلة حتى ميدان الجيش بعد اجتياز شارع الحسينية وصولا إلى العباسية، فلأتمهل، إذ أننا نقبل على بناء فريد.

هنا لابد من ملاحظة، لا يوجد مسجد في القاهرة يشبه الآخر، لا في العناصر ولا في النسب، ربما ملامح الشخصية العامة، لكن لكل مسجد يمكن اعتباره حالة خاصة، فلأتمهل. إن التقدم نحو شيخ جليل، أو أثر عتيق له أصول وآداب، منها الخطو البطيء والأطراق وأحيانا الاستئذان.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي