أماكن / من رمزية الفن الإسلامي (2)

تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

... الشجرة كرمز، ورد ذكرها في القرآن الكريم:

- «وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن» - المؤمنون آية 20

- «كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة» - النور آية 35

- «فلما أتاها نودي من شاطئ الوادِ الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة» - القصص آية 30

- «ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» - لقمان آية 27

- «أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم» - الصافات آية 62

- «إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم» - الصافات آية 64

- «وأنبتنا عليه شجرة من يقطين» - الصافات آية 146

- «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم» - الدخان آية 43

- «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» - الفتح آية 18

- «أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون» - الواقعة آية 72

هذه هي الآيات التي ورد فيها لفظ الشجر طبقا لمختلف طرق نطقه، الشجر، الشجرة، ونلاحظ أن المرحوم العلامة محمد فؤاد عبدالباقي أورد لفظ شجر بمعنى مشاجرة أو شجار، في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الذي أنفق عمره في إعداده خلال النصف الأول من القرن الماضي، ويعد بحق من جلائل الأعمال، أعد هذا الفهرس في زمن خلا من الحاسوب، وأي عنصر مساعد، نلاحظ الآية الأولى من سورة النساء التي ورد فيها لفظ شجر بمعنى اشتباك أو صراع.

هنا ننظر في اللغة، أن تعاقب الشين والجيم والراء يعبر عن أصلين متداخلين، يقرب بعضهما من بعض، ولا يخلو معناهما من تداخل الشيء بعضه في بعض، ومن علو في شيء وارتفاع، فالشجر معروف، الواحدة شجرة، وهي لا تخلو من ارتفاع وتداخل وأغصان، والشجر كل نبت له ساق، وسميت مشاجرة لتداخل كلامهم بعضه في بعض.. هذا ما جاء في معجم مقاييس اللغة، غير أن قاموس الزمن والعصور القديمة يحتفظ لنا بمعانٍ متعددة للشجرة تتجاوز وجودها المادي المرئي.

الوجود الرمزي

أذكر رؤيتي أول مرة لمقبرة الفنان سنجم رع في دير المدينة بالأقصر، كان ذلك في سبعينات القرن الماضي، وقد بدأ ترددي على الأقصر منذ العام 1961 من خلال رحلة المدرسة الثانوية، وكانت هذه الرحلات وسيلة مهمة للتعرف المباشر على مصر، على معالمها وتاريخها، في عام ثمانية وسبعين زرت دير المدينة لأول مرة، قرية كاملة كانت تتبع معبد هابو، خصصت للفنانين الذين يرسمون المقابر الملكية في وادي الملوك، وكانوا يقضون أعمارهم في هذا المكان المنعزل، لا يتصلون بأحد ولا يتصل بهم أحد، بحكم ما يقومون به كانوا مطلعين على أهم أسرار الدولة الفرعونية.

أماكن دفن الملوك ومعهم ثرواتهم وكل ما كان يخصهم في حيواتهم، لذلك كان اختيارهم يتم وفقا لشروط دقيقة، أولها طبعا الموهبة والثقة، سنجم رع كان أحد هؤلاء، وقد دفن بالقرب من منزله، ولاتزال مقبرته موجودة، ألوانها واضحة، جميلة، قام برسمها هو، أي أنه «شُغل المعلم لنفسه».

لن أفيض في الحديث عن المقبرة التي تحوي تصورا كاملا، لعله الوحيد في ما رأيت لتصور المصري القديم عن حقول يارو، حقول السعادة الأبدية، إنها تصور الجنة في العالم الآخر طبقا لما اعتقده المصريون القدماء، ولعل هذا التصور هو أقدم تمثل للعالم الآخر، وللجنة بالتحديد، حيث السعادة الأبدية التي يحظى بها المبرأ بعد مروره بكل خطوات ومراحل المحكمة الأوزيرية التي يتم أمامها وزن القلب للاطلاع على الحسنات والسيئات.

المشهد الذي فوجئت به يتضمن شجرة ضخمة بكامل تفاصيلها، تقترب ملامحها كثيرا من شجرة الجميز، والجميز شجر مقدس في مصر القديمة، غير العادي، غير المألوف إنه من جذع الشجرة تنبثق أنثى، امرأة جميلة، المرأة هي «حتحور» ربة الجمال والأنوثة والرفاهية، أنثى من شجرة وشجرة من أنثى، لوحة غريبة تتجاوز جميع ما عرفته من الفن الحديث، اللوحة عمرها أكثر من خمسة وثلاثين قرنا.

المشهد الثاني، الذي أبهرني بجمال خطوطه وقوتها في واحدة من أجمل أماكن العالم، مقبرة تحتمس الثالث مؤسس الإمبراطورية المصرية بعد تحرير مصر من الهكسوس، المقبرة تعد في رأيي الأجمل في وادي الملوك، ما يعنيني منها ذلك الرسم.

الملك يرضع من شجرة

الملك تحتمس يرضع من شجرة

جاء في موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية «المشروع القومي للترجمة عدد 482» إن الشجرة في الفكر المصري القديم كان لها أهمية كبرى، وأنها فاقت وضع الأشجار في جميع الثقافات والديانات الأخرى، ذلك أن رمزيتها تعتبر الأكثر ثراء، إنها تضرب في الأرض بجذورها، ومن تربتها تستمد الحياة في الوقت الذي تتفرع فيها الأغصان إلى أعلى، حيث الضوء والهواء لتستعيد الحياة أيضا.

أوزيريس سيد العالم السفلي في العقيدة المصرية القديمة ولد في شجرة، وفوق أوراق الشجرة المقدسة بعين شمس سجل تحوت رب العلم، الزمن المتعلق بدورات الحياة، ومصير الكائنات الحية، التفاصيل المتعلقة بالأشجار في الفكر المصري القديم تحتاج إلى موسوعة كاملة.

نتذكر أن المخاض قد أتى مريم العذراء تحت جذع النخلة، وفي الموروث الشعبي يقول المصريون إن ثمرة شجر الجميز سوداء، لأنه حزن على وفاة الرسول «عليه الصلاة والسلام»، وعند الصوفية المسلمين أصبح للشجرة معانٍ متعددة.

شجرة الكون

لأن الشجرة تضرب بجذورها في الأرض، وترتفع بأغصانها إلى أعلى نحو السماء، اعتبرها المتصوفة المسلمون جسرا رمزيا لما بين العالمين، ونجد التصور الأكمل لهذه الرمزية عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الذي استخدم رمز الشجرة للدلالة على الكون، كان يرى الكون كله باعتباره شجرة.

في العام 1964 قررت لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة أن تقيم احتفالا عالميا بمناسبة مرور ثمانية قرون على رحيل الشيخ الأكبر ابن عربي، ولأسباب عديدة لم يُقم هذا الاحتفال ولكن أصدرت اللجنة كتابا تذكاريا يضم عددا من الدراسات كتبها ثلاثة عشر عالما، كما وضعت خطة لإصدار الموسوعة الصوفية «الفتوحات المكية» وبدأ التنفيذ على الفور الذي قام به إسماعيل يحيى.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي