الجيش رد على الرسالة: لن أعود إلى الثكنات الآن ولن أؤجل الانتخابات

أمسيات النار... و«الميليشيات الغامضة» في القاهرة

u0623u0642u0628u0627u0637 u064au0634u064au0639u0648u0646 u0642u062au0644u0627u0647u0645 u0644u064au0644 u0623u0648u0644 u0645u0646 u0623u0645u0633 u0641u064a u062cu0646u0648u0628 u0627u0644u0642u0627u0647u0631u0629t (u0631u0648u064au062au0631u0632)r
أقباط يشيعون قتلاهم ليل أول من أمس في جنوب القاهرة (رويترز)
تصغير
تكبير
| القاهرة - من عبدالله كمال |

في وقت متأخر من ليل الأحد - الاثنين الماضي، وقبل نحو ساعة من إعلان حظر تجول موقت في منطقة وسط البلد في القاهرة، بعدما جرى في ماسبيرو، توافد عشرات من الأشخاص (المجهولين) عراة الصدور، بعضهم كتب على بطنه عبارة «إسلامية» قاطعين الطريق نحو ميدان التحرير عبر شارع قصر العيني، بقصد الاشتباك مع «المبعثرين» في الميدان، وبينهم عدد ممن شاركوا في مسيرة شبرا التي تحولت إلى مشهد دامٍ انتهى بسقوط 26 قتيلا كلهم إلا واحد من الأقباط.

الجيش كان قد قطع الطرق المؤدية إلى الميدان من نواحٍ مختلفة، بينما استعادت لجان شعبية دورا كانت تقوم به في يناير - فبراير. وبدأت في التصدي للمجهولين الذين تسلح بعضهم بـ «سافرويا» - سكين طويل وأقل طولا من سيف - وحمل غالبيتهم عصيًّا يزيد طولها قليلا عن نصف متر، ويبدو من تشابهها أنها وزعت عليهم أو أنهم جهزوها في مكان واحد. تمكنت اللجان الشعبية من حماية مداخل الشوارع والبيوت، وأدى هذا التآلف الضمني بين الجيش واللجان إلى وأد مقوم عنف جديد كان سيضيف زيتًا ليزيد النيران اشتعالا في أطراف أخرى من الميدان.

قبل ذلك بنحو اربع ساعات، كانت عناصر مماثلة غير معلومة الهوية والتنظيم، قد خرجت من شوارع منطقتي السبتية وبولاق أبو العلا جنوب منطقة ماسبيرو، للتعامل بالطوب والعصي مع مسيرة شبرا التي ضمت في غالبيتها عناصر من الشباب القبطي، وكان يتصدرها قساوسة بعضهم جاء من أسوان، تحتج على هدم كنيسة غير مرخصة في منطقة الماريناب على بُعد أكثر من ألف كيلومتر من التظاهرة.

في لحاء المسيرة القبطية كانت هناك عناصر من حركه «6 أبريل» والحركات الاحتجاجية الثورية التي استعادت دورا كانت قد قامت به من قبل في تظاهرة قبطية كبيرة في شبرا أيضا احتجاجا على الإرهاب الذي ضرب كنيسة القديسين في الإسكندريه ليل الأول من يناير الماضي.

وفي 5 يناير الماضي، وصف بطريرك الكرازة المرقسية البابا شنودة في حديث للتلفزيون المصري التظاهر القبطي وقتها على أنه ناتج عن «عناصر مندسة بين الأقباط»، وأول من أمس كرر البابا شنودة الأمر واتهم «عناصر مندسة» بين الأقباط بأنها السبب في الإيهام بأن المتظاهرين الأقباط هاجموا الجيش، فتعامل معهم.

ثلاثة عناصر لابد من الانتباه إلى وجودها الفاعل والعلني في مكونات المشهد، بخلاف العناصر الخفية التي يتهمها الجميع بالتحريض، خصوصا رئيس الوزراء عصام شرف وفق بيانه في وقت متأخر من يوم الأحد بعد ازدحام المشارح بجثامين الضحايا التي كان بعضها أشلاء:

• الحركات الاحتجاجية التي تمثل «6 أبريل» قوامها الأساسي، وحظيت بجاذبية متزايدة بين شباب متنوع لدرجة تجعلها تنافس أحزابا وقوى سياسية عريقة. ورغم أنها كيان غير محدد المعالم وغير معروف القيادة وتعاني من انشطارات تنظيمية، فإنها بأجنحتها المختلفة تملك القدرة على التحريض والحشد.

• المحتجون الأقباط وتمثلهم فئة متنامية من الشباب، وفيهم من هو منضم بالفعل إلى حركات مثل «6 أبريل»، ومنهم من يشارك في ما يعرف بائتلافات الثورة والأحزاب المدنية الجديدة، وقد اتسع نطاق تأثير خطاب أقباط المهجر بينهم. وهم يجسدون ما تعانيه سلطة الكنيسة التي كانت مسيطرة روحيا على شعبها، ولكنها لم تعد كما كانت، وباتت تواجه رغبات الجيل الجديد في الإفلات من التزامات التحرك السياسي للكنيسة، ورغبات رجال دين في أن يبرزوا على الساحة، ورغبات قيادات دينية في أن يقدموا أنفسهم كمرشحين محتملين في لحظات الانتقال الممتدة، بينما الجميع يتابع تراجع الحالة الصحية لقداسة البابا شنودة.

• الفئات العنيفة من الأحياء الشعبية والعشوائيات الفقيرة الذين يمثلون امتدادا مستجدا للبلطجية المحترفين، وتضم عناصر عاطلة عن العمل، احترفت الإجرام بعد انفلات الأمن، وتضع في يدها سلاحا أبيض أو عصيًّا وأحيانا أسلحة مصنعة يدويا وبعض الطبنجات التي حصلت عليها من الأقسام في لحظات الفوضى العصيبة بعد الثورة.

الفئة الأخيرة هي معضلة مصر الآن، فهي قوة غير معلومة الأبعاد، تطل فجأة برأسها في أي من لحظات العنف والسخونة في مناطق مختلفة، وأحيانا تُستخدم وأحيانا تُستدعى من قبل أطراف غير معلومة.

وفي يوليو الماضي ظهرت هذه الفئة بقدرة غريبة في الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية وهاجمت الجميع، بما في ذلك عناصر الشرطة وأسر القتلى والمحتشدين خلفهم من الحركات الاحتجاجية.

الجديد هنا، ليس في من يطلق عليهم وصف البلطجية، فالأخيرون معروفون نوعا، ومسجلون في دفاتر الشرطة يحملون صفة الخطر، وإنما في أن الساحة شهدت مع تفاعلاتها المتنوعة اجتذاب عدد كبير من الشباب العاطل وتقريبا غير المتعلم إلى ميدان الإجرام، بعد تعثر الاقتصاد، وانكشاف الأمن، وسيادة مناخ من التثوير والتحريض.

فإما أن هؤلاء يتكسبون من الجريمة، خصوصا منذ ظهروا في مشاهد التعدي على المحال والمولات التجارية في يناير- فبراير، أو أن هناك من يدفع بهم إلى ساحات السخونة السياسية والطائفية كما جرى في مشهد ماسبيرو.

عاشت القاهرة ليالي عنيفة متنوعة خلال الأشهر الأخيرة كان فيها هؤلاء عنصرا مشتركا، يظهرون فجأة ويقومون بما يريدون وبما تمثله قناعاتهم التي لا يمكن الإمساك بها، وأحيانا يتم توظيفهم في ذات البقاع التي يكون فيها الآخرون حاضرين فيختلط الحابل بالنابل ولا يعرف أين تقع المسؤولية ومن هو الذي جاء بهذا ومن الذي دفع ذاك.

ليلة «إطفيح» حين حرقت كنيسة قال البعض إنها غير مرخصة، كانت من هذا النوع. وكذلك ليلة الفتنة الطائفية في إمبابة حين سرت اشاعة بشأن اختفاء فتاة مسيحية أسلمت في كنيسة، وليلة اقتحام السفارة الإسرائيلية، وليلة التعدي على وزارة الداخلية في يوليو الماضي، وليلة الهجوم على متظاهري «6 أبريل» في ميدان العباسية. وليلة ماسبيرو كانت هي المجسدة الأهم لهذا النوع من الأحداث. هذه الأمسيات العنيفة، أو ليالي النار، تعكس أكثر من ظاهرة في مصر التي تلت يناير:

• هناك قوى غير مرئية تُستدعى عمدا أو بالتحريض إلى الساحات، من أجل تصفية الحسابات السياسية حيث كل يغني على ليلاه. ويريد أن يتموضع بطريقة تحفظ له كيانه ومصالحه.

• أهم وأخطر تلك اللحظات التي تظهر فيها تلك القوى هي اللحظات الطائفية، حيث يمتلئ المنتمون لميليشيات غامضة وغير محددة برسالة دينية ويصبح لإجرامهم وفق قناعاتهم معنى.

• غالبا ما تكون تلك الأمسيات بعد أيام من التصعيد الحاد، والتسخين الإعلامي، وفي أعقاب مطالبات سياسية، لاتجد استجابة، أولحظات مفصلية سوف يتحدد عندها الكثير. على سبيل المثال فإن ليلة ماسبيرو سبقت فتح باب الترشيح للانتخابات بثلاثة أيام، كما تلت مطالبات مختلفة بأن يعود الجيش إلى ثكناته.

• تعكس هذه الأمسيات قدرا من اليتم تعاني منه «قوى العنف» التي كان يستخدمها بعض السياسيين في ما سبق. ومن ثم فإنها في ما يبدو مستعدة لأن تقدم نفسها لمن يمكن أن يتولاها بسبل مختلفة.

• تستدعي هذه الأمسيات في بعض الأحيان قوى غير مسيسة إلى ساحة السياسة لكي تقوم بدور سياسي عنيف، كما فعلت مجموعات الألتراس (مشجعو فرق الكرة) التي انخرطت في حالة عداء مع وزارة الداخلية المصرية قبل ما يزيد على شهر.

• الساحة المصرية فيها قدر كبير من المال غير معلوم المصدر وقدر كبير من الأسلحة غير محددة المنبع وغير قانونية الاستخدام.

• أطراف الصراع السياسي حين لا تريد أن تتواجه مباشرة، تتيح مناخا يؤدي إلى ظهور تلك القوى العنيفة الغامضة.

• هذا الأمسيات تُستخدم في محاولة ترسيخ قواعد ومصالح المتفاعلين على الساحة المصرية، سواء سياسيا وإعلاميا لاحقا للنتائج، أو بتخسير هذا الطرف أو ذاك عبر حملات التشويه الإعلامي المتبادلة.

• هذه الأمسيات الحزينة والنارية غالبا ما تؤدي إلى تغيير في الأولويات وتعديل في أجندات التحرك العامة، أو فتح مجال لنقاشات جديدة. على سبيل المثال فإن الحوار كان يدور بين المتفاعلين قبل احداث ماسبيرو حول ما تضمنه الاتفاق الموقع بين ممثلي الجيش وممثلي الأحزاب السياسية السبت قبل الماضي وأدى إلى تراجع أحزاب عن توقيعها، وإلى انشقاقات في بعض الأحزاب الأخرى. ثم تطور الأمر بعد ماسبيرو إلى حديث عن أمور ذات أبعاد طائفية وتحقيقات قانونية حول طبيعة ما جرى.

الذي لا شك فيه أن القوات المسلحة كانت مستهدفة في هذا المشهد الأخير، ولا بد أن كثيرا من المتابعين قد تربص بهم خوفا من أن يكون هذا مقدمة لحملة تشويه تحول الجيش من مؤسسة موثوق فيها من كل فئات الشعب، إلى مؤسسة تعاني من السمعة التي لحقت بمؤسسة الشرطة وأدت إلى غضب المصريين الذي تجسد في أيام يناير.

بيان المجلس العسكري تعامل مع الموقف الأخير بهدوء وتريث لافتين للغاية. قدم التعازي للضحايا. وكلف الحكومة بتشكيل لجنة تقصي حقائق. واعتبر أن المقصود هو أركان الدولة. وأعلن أنه مستمر في مسؤولياته حتى يسلمها لسلطة مدنية منتخبة، ما يعني أنه وجد في المشهد ما يشير إلى الرغبة في دفعه لأن يترك تلك المسؤولية وأن يؤجل الانتخابات.

والجميع لاحظ أن هذا المشهد المتأجج اعقب حفاوة بالغة وجدها الجيش من الرأي العام في احتفالات ذكر أكتوبر هذا العام، خلافا للأعوام السابقة، وبخلاف عدم الانجراف إلى التوتر الذي كان الجيش يُدفع إليه دفعا، فإن الكنيسة ساعدت القوات المسلحة في لملمة المشهد الحاد والمؤلم حين قال البابا إنه كان بين المتظاهرين الأقباط مندسون. كما أن البيان المتحفظ الذي صدر عن البيت الأبيض بعد مشهد ماسبيرو سحب من بعض القوى تخفزها لأن تواصل الهجوم على القوات المسلحة.

الجيش حظي بمزيد من التأييد في غضون الأسابيع الثلاثة الأخيرة بعد أن أدلى المشير حسين طنطاوي بشهادته في قضية محاكمة مبارك. ثم تلتها مجموعة من المشاهد ذات الدلالة:

• المشير طنطاوي ببدلته المدنية في وسط المدينة، حيث لقي حفاوة من المواطنين، وجد فيها البعض تلميحا إلى إمكانية أن يترشح في الانتخابات الرئاسية.

• مشهد المشير وهو يفتتح عددا من المشروعات التنموية في الفيوم، حيث قال إن شهادته في قضية مبارك كانت لوجه الله ومن أجل الحق، ثم ظهوره في افتتاح مشروعات تنموية أخرى في محافظة المنيا لمناسبة احتفالات أكتوبر وإلى جانبه رئيس الوزراء.

• مشهد الطائرات العسكرية في احتفالات اكتوبر التي وجد فيها بعض السياسيين أنها تمثل تخويفا لا تعبيرا عن الاحتفال، وكذلك الجمهور وهو يحتشد متسلما هدايا الجيش في ميدان التحرير وغيره من المناطق.

حاليا، وبعد ليلتين من التوتر، وبينما عادت الحركة في ماسبيرو تقريبا إلى طبيعتها، وبدأت النيابة تحقيقاتها في ما جرى، فإن هذا لا يعني أن القاهرة لن ترى أمسيات متوترة مماثلة في الأيام المقبلة، ذلك أن المناخ معبأ والإعلام يعيش أجواءً ساخنة والقوى السياسية مقبلة على انتخابات وغالبية هذه القوى ليست متأكدة من عمقها الشعبي. وكثيرون يبحثون عن ظهير في الشارع يساند خطابهم السياسي دون جدوى. والأهم أن هذه القوى تعرف أنها سوف تظل في حالة تفاوض معقدة وحادة علنية وخفية إلى نهاية العام المقبل تقريبا، هذا اذا كنا متفائلين.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي