غنيمة حبيب / غصة... وألم

تصغير
تكبير

كم هو رائع ذاك المنزل الذي ابصرته عيناي، انا وبرفقة ابنتي في طريقنا بالسيارة بمحاذاة الطريق الساحلي متجهان إلى احد المولات الشهيرة، والذي اذهلني بروعته وفخامته من جهة وآلمني ظلمته وسكونه من جهة اخرى.

ولم استطع الرد على سؤال ابنتي لي باستغراب: «امي. لماذا ارى هذه المنازل الفخمة مظلمة وخالية في معظم المرات التي نمر فيها من امامها»؟

لاادري لم حركت كلماتها في داخلي غصة والما لما وصلنا اليه، وجعلت ذاكرتي تغوص في اعماق تاريخنا القديم وافتح حوارا معها مستذكرة «البيت العود»، الذي يحتوي على الرغم من صغره وبساطته كل افراد العائلة وفروعها ليشكل مجتمعا اسريا مترابطا يسوده التفاهم والتعاون واحترام الكبير للصغير، وخاصة بعد ان اصبحت تطغى النظرة المادية على مجتمعنا في الوقت الحالي واصبح التسابق على المظاهر يبرز بشكل لم يكن معهودا من قبل اما الضحية فهي فقدان الهوية والتقاليد والاثقال على النفس ماديا ومعنويا لمجاراة المجتمع في مظاهره البراقة الخادعة. ولا ارى تفسيرا منطقيا كيف ان الاسراف والتبذير والمبالغة في الاستهلاك تحول إلى عادات واعراف حاكمة في مجتمعاتنا، وبسببها بتنا ندفع ثمنا باهظا لهذه العادات السيئة.

فعلى المستوى العام فالتسوق والشراء لم يعد تلبية لحاجة في حياة العائلة، بل اصبح برنامجا للترفيه والتمتع. وعاداتنا في الاكل والشرب اصبحت قائمة على الاسراف والتبذير غالبا، وخاصة في الولائم والمناسبات العامة، وما اكثرها هذه الايام، واطفالنا يتربون من صغرهم على حب الاستهلاك، فتعطى لهم النقود دون حاجة، ويتعودون الاستمتاع بالشراء، لمجرد الشراء، لمجرد الشراء لا لشيء يفيدهم بل انه قد يكون ضارا لهم.

وبعد ان تجاوزنا البذخ في ولائم الافراح والاتراح واصبحت من المسلمات، جاءت الينا احتفالات الاستقبال في قاعات وصالات خارج المنزل، تارة خشية الحسد والغيرة وتارة خشية من اتساخ المنزل، وما يصاحب تلك الحفلات من مصاريف كمالية باهظة لاداعي لها حتى بتنا لا نفرق بين الغني والفقير، واخر صرعات مظاهر التفاخر هي حفلات «استقبال للمولود» في مستشفيات  هي اقرب منها إلى فنادق خمس نجوم، فرحم الله ايام زماننا يوم كانت الفرحة تدب بالمنزل بمشاركة الاهل والجيران في التهنئة من دون تكلف وببساطة شديد، فالزواج اصبح يتطلب كلفة باهظة، ومراسيم العزاء عند الوفاة تحتاج مبالغ طائلة، وتقديم الهدايا عند الولادة من قبل المرأة لصديقاتها يستلزم ميزانية هائلة.

هذا هو توجه المجتمع بشكل عام ونظرة الكبار قبل ان تكون نظرتنا، فالجميع يقيم الاخرين تقييما ماديا والمقتدر وغير المقتدر يحاولان ان يتفاخرا ويهتما بالمظاهر الجوفاء، فكيف يلوم الكبار، وهم القدوة، الصغار في هذه الجوانب وهم منساقون لها؟

وتملكتني الدهشة كذلك من رد ابنتي عليّ بعد ان طال حديثنا معا قائلة: «اعلم ان الاسراف والمظهر قشور لا يجب ان نركز عليها لكن ماذا نفعل ان كنا نجد انفسنا مجبرين عليهما بسبب ضغوط الاخرين وتوجهاتهم التي تدفعنا لمجاراتهم» فوجدت نفسي مرة اخرى غير قادرة على الرد، وجعلتني كمن يوجه اسئلة علني اجد اجابات محددة لها، هل اصبحنا نعتقد ان النفاق الاجتماعي والتفاخر والمظاهر والماديات خطأ ام جزء مهم من حياتنا؟

وكلي ثقة بأننا نعرف جميعا الاجابة عن هذا السؤال، انه خطأ، وهو خطأ المجتمع باكمله ونحن جزء من هذا المجتمع، اي انها مسؤوليتنا جميعا وكفانا تمثيلا لدور الضحية ورمي اخطائنا على الاخرين، ودعونا نصحح ما صنعناه بأيدينا، ونسترجع عصر ابائنا واجدادنا عصر الحب والقناعة، عصر التواضع والقدوة الحسنة.

ألا تعتقدوا بأن الآوان قد حان؟


غنيمة حبيب

habeeb@kib.com.kw

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي