من المفارقات التي لم تعد مفارقات، كونها جزءا من نهج ثابت منذ خروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية في ابريل من العام 2005، أن النفوذ الإيراني يزداد في الوطن الصغير. أنه يزداد يومياً إلى حدّ أن النفوذ السوري في لبنان صار تحت رحمة ايران ممثلة بميليشيا مذهبية مسلحة تعتبر لواء في «الحرس الثوري» اسمها «حزب الله». لذلك، اضطر النظام السوري إلى الاستعامة بالنظام واداته اللبنانية لفرض تشكيل حكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي معتقداً أن ذلك يساعده في انقاذ نفسه.
يظهر أن النظام السوري مقتنع بان حكومة لبنانية يشكلها له «حزب الله» يمكن أن تنقذه، بل يبدو مقتنعا بأنّه قادر على تجاوز الأزمة العميقة التي يعاني منها عن طريق متابعة ممارسته لعملية الهروب إلى أمام من جهة وممارسة القمع من جهة أخرى. لو لم يكن الأمر كذلك لما مارس كل هذه الضغوط منذ ما يزيد على ستة أشهر من اجل اخراج الرئيس سعد الحريري من السراي وكأن خروج نجل الشهيد رفيق الحريري من موقع رئيس مجلس الوزراء يشكل خشبة الخلاص لنظام لا يريد الاعتراف بأنه فقد شرعيته في سورية أوّلاً نظراً إلى أنه لم يكن قادراً في أيّ يوم على تلبية أي مطلب للمواطنين السوريين الطامحين إلى حدّ أدنى من الحرية والكرامة والعيش الكريم قبل أي شيء آخر...
كان يمكن لحسابات النظام السوري أن تكون في محلها لولا أنه كان لا يزال قادراً على تشكيل حكومة في لبنان من دون سلاح ميليشيا «حزب الله» الإيراني. اضطر النظام السوري إلى الاستعانة بسلاح هذا الحزب مرة أخرى ليفرض مثل هذه الحكومة على اللبنانيين. لو أعاد النظام السوري حساباته بشكل جيّد وفي العمق لاكتشف أن تشكيل الحكومة بالطريقة التي تشكلت بها لا ينفعه بشيء باستثناء أنه يؤكد أنه لا يريد التعلم من تجارب الماضي القريب ومن الأزمة التي غرق فيها. باختصار شديد، لا يريد هذا النظام الاعتراف بأن عليه الاهتمام بالشأن الداخلي السوري، هذا إذا كان لا يزال لديه مجال لذلك.
الأهمّ من ذلك كلّه أن هذا النظام يرفض الاعتراف بأنه صار تحت رحمة النظام الإيراني أكثر من أي وقت، وأن هذا دليل ضعف وليس دليل قوة في أي شكل. ربما كان النظام الإيراني يلوح للنظام السوري بأنه يمكن أن يأتي له بالترياق من بوابة العراق، وأن هناك توازنات جديدة في المنطقة بعد الانسحاب العسكري الأميركي من هذا البلد المهم، وأنه الجهة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ الذي سينجم عن خروج الأميركيين من الأراضي العراقية. أوليست إيران المنتصر الأوّل من الاجتياح الأميركي للعراق؟ كان أحد نوّاب «حزب الله» واضحاً في ذلك عندما تحدث في سياق إحدى جلسات الثقة بالحكومة عن لبنان بصفة كونه جزءا لا يتجزأ من المحور الإيراني- السوري وامتداد له!
لم يقل طبعاً ما يفترض به قوله بصراحة أكبر. لو اعتمد الصراحة لقال ان لبنان مجرد «ساحة» بالنسبة إلى إيران وأن بيروت ليست سوى ميناء إيراني على البحر المتوسط، وأن في استطاعة طهران أن تشكل الحكومة اللبنانية التي تشاء خدمة للنظام السوري في انتظار إحكام النظام الإيراني سيطرته على العراق... بما يمكنه من التفاوض من موقع قوة مع الولايات المتحدة وحتى مع إسرائيل، على أن يكون ضمان مستقبل النظام السوري بشكله الحالي جزءا من هذه المفاوضات. هل هو رهان سوري في محله؟ الكثير يعتمد على ما إذا كان الوقت سيسمح لطهران بممارسة هذه اللعبة غير المضمونة. في النهاية، يبدو الوضع في غير مصلحة النظام السوري الذي يواجه ثورة شعبية لا مثيل لها منذ الاستقلال. أكثر من ذلك، ليس لدى النظام في دمشق أي جواب عن أي سؤال يطرحه عليه المواطنون باستثناء القمع.
ما تشهده سورية أهم بكثير من جلسات مجلس النواب اللبناني حيث لا يزال هناك من يعتقد أن عليه الرد بقسوة وحتى بكلام بذيء على كل من يتناول القمع الذي يمارسه النظام فيها في حق المواطن العادي. هناك نوّاب لبنانيون تابعون للنظام السوري يعتقدون أن هناك في دمشق من سيحاسبهم على بقائهم مكتوفين لدى الكلام عن حقيقة ما يدور على الأراضي السورية. هؤلاء النواب مثلهم مثل نوّاب «حزب الله» وقيادييه وتوابع الحزب يعيشون خارج الزمن. لذلك لا يمكن توجيه أي لوم لهم على تصرفاتهم المضحكة- المبكية التي لا علاقة لها بكل ما هو حضاري في هذا العالم. انهم يراهنون على الأوهام من بينها وهم القدرة على ابقاء لبنان أسير المحور الإيراني- السوري إلى ما لا نهاية. ينسى هؤلاء أن التوازنات في المنطقة لا تقررها لا إيران ولا سورية، حيث نظامان مريضان، وأن حكومة لبنانية يشكلها «حزب الله» وملحقاته على شكل تلك الاداة لدى الادوات التي اسمها النائب المسيحي ميشال عون لا تقدم ولا تؤخر. كل ما تستطيع هذه الحكومة عمله هو توعية بعض اللبنانيين، الذين ما زالوا يعانون من قصر النظر، إلى خطورة السلاح الميليشيوي الذي في يد حزب مذهبي على مستقبل بلدهم وابنائهم.
إضافة إلى ذلك، يعطي تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة فكرة عن مدى الاستعداد الإيراني- السوري للدخول في مواجهة مع المحكمة الدولية التي يبدو أنها ستكشف من يقف وراء الجرائم التي ذهب ضحيتها اللبنانيون الشرفاء من الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، على رأسهم باسل فليحان وصولاً إلى الرائد وسام عيد. من قال أن لا فائدة من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي كشفت أوّل ما كشفت ضعف النظام السوري وعجزه عن القيام بأي نقلة نوعية تثبت أنه قادر على التعاطي مع ما يدور في المنطقة والعالم وحتى داخل سورية نفسها!
خيرالله خيرالله
كاتب لبناني مقيم في لندن