شفافية / منسيّة

سارة الدريس


| سارة الدريس |
في بيت الله الحرام، وبعد أن سلم الإمام وأنهى صلاة الفجر، وتبعه المصلون كافة الذين أدركوا الصلاة جماعة، رزقني الله تعالى أن أكون معهم في الأسبوع الماضي، وشرفني بوجودي في بيته للمرة التاسعة ولله الحمد والفضل، ما إن سلمت** عن يميني وعن يساري حتى لمست امرأة طرف عباءتي قائلة: من أين اشتريتي عباءتك، التفت وإلا بامرأة ترتدي خمارا ونقابا يتدلى من نهاية ذقنها، قلت: من الكويت. ابتسمت وأخفضت رأسي أنظر إلى عباءتي خجلا وكأني لم أرها مسبقا!، قالت المرأة: هل هذه أول مرة تأتين فيها لبيت الله؟، قلت: لا ليست المرة الأولى، فقد جئت كثيرا ولله الحمد، ومره أخرى أبتسم وأخفض رأسي وأنظر إلى عباءتي، أو سجادة الحرم وعيني تتقافزان يمنة ويسرة وأفكر هل ستسألني هذه المرأة سؤالا أخر؟!، قالت: مع من جئتي؟، قلت: مع مجموعة من أهلي، قالت: أنا جئت مع عمي، عمي أبو زوجي وأخو أبي، فقلت: ولماذا لم يحضر زوجك معك؟، قالت: زوجي شهيد!، أحسست حينها وكأن مطرقة ضربت قلبي حتى تفتت، قلت: من أي بلد جئتِ؟، قالت: من فلسطين.
تلك البلد المنسية، تلك القضية الإنسانية، التي ضاعت مع ضياع هويتنا العربية، أو تناسيناها عمدا كما نسينا مبادئنا الإسلامية، سألتني المرأة: ما اسمك؟، قلت: اسمي سارة، ضحكت المرأة وكأنها بشرت بخبر تنتظره سنين وقالت: سارة، اسم ابنتي الصغيرة سارة، لم أحضرها معي، فقد ساعدني بالحضور إلى هنا إمام مسجد في فلسطين، عمي أصيب بالسرطان، وتقدمنا بطلب المجيء إلى هنا منذ عام ولم تسنح لنا الفرصة إلا من أجل عمي المسن والمريض، أين تسكنون؟، قلت: في فندق أمام الحرم مباشرة، قالت: أنا أنام هنا في الحرم!. كنت محرجة، ولم أعرف ماذا علي أن أقول، سمعتها أكثر من ما تحدثت، تبين لي أن هذه المرأة تحمل هما كبيرا ولا أدري ما المريح في وجهي حتى فاض كل ما في أعماقها لي أنا في جلسة واحدة، قلت: نحن لم تسمح لنا الظروف للمجيء إلى هنا منذ سنتين، وهذه المرة جئنا من أجل خالتي التي أنهت فترة العدة منذ بضعة أيام، فزوجها توفي فجأة، وهي في حالة اكتئاب شديدة. سكتنا لثوان، قالت المرأة بعيون دامعة: «أنا زوجي توفي منذ سنتين، ذبحوه أمامي، جاؤوا أبناء الحرام ليغصبونا على أن نقسم منزلنا الصغير لتسكن معنا عائلة يهودية، أبينا ذلك، لا أحد يقبل بأن يسكن أشخاص مثله ومن ملته معه في البيت نفسه، فكيف بعدو يهودي، قاموا بإرسال رسائل إنذار إما أن تسكن معنا العائلة اليهودية أو نخلي البيت، قاومنا، فجاؤوا بغتة واقتلعوا شجرة الزيتون التي كنا نملكها ونقتات منها، والله اقتلعوها من جذورها، ودمروا عربة الخضرة التي كان زوجي يسد بها قوت يومنا، جاء رجل يشد حجابي فلم يتحمل زوجي منظر إهانتي، والاعتداء علي بالضرب، فحاول منعهم، وإلا بعسكري ضربه على رأسه فسقط ميتا!، فتحت عيني بعد هذا المنظر، وإلا بيدي ضمدت بقطعة قماش، فتحتها فوجدت يدي قد جرحت جرحا عميقا حتى بانت عظمة اصبعي السبابة بيضاء وكأن أحدا قد قطع لحم يدي، والله لم أشعر بالألم، أرجعت اللحمة المتدلية من يدي مكانها، لففتها بتلك الخرقة، دخل عمي بوجهه الشاحب، وعينيه الغارقتين بالوجع، أدركت حينها أنه قد أزف الرحيل. خرجت وعمي وأبنائي، لم نأخذ حتى ثيابنا، تركنا منطقتنا ورحلنا إلى منطقة أخرى ككثير من الفلسطينيين، أجرنا غرفة تحت الأرض عند أرملة طيبة تأخرت عليها بالإيجار كثيرا، والله هم أن تكون عالة على غيرك، وأن ترى كرامتك تداس بنعال الظلم أقسى من أي هم آخر، فهذه الأرملة أيضا تعول أبناء ولا دخل آخر لها و مع كل ذلك تحملت تأخري بدفع الإيجار ستة اشهر، والله يا سارة نبيت ليال كثيرة من دون أكل، والماء أجلبه بسطل من مكان بعيد، بضعة مرات خلال اليوم، أغسل سجاد، أحفر كوسا، أعمل أي شيء لأعيش أنا وأبنائي، لا أدري ما الحل، لا أود أن أخسر أبنائي، وفي ذات الوقت لا يمكنني أن أوفر حياة كريمة لهم، لا يمكنني أن أسدد رسوم المدارس، أو تكاليف الدفاتر والملابس، لكني أحرص على أن يتعلموا القرآن في المسجد، ولا يمكنني أن أوفر لهم أبسط الأشياء، كم يعتصر قلبي ألما عندما تأتي بنتي سارة وقد رأت بسكوتة في يد بنت الجيران، تشد طرف حجابي قائلة ماما أريد بسكوتة، أرى هنا في الحرم الخير كثيرا، والكرام يقومون بتوزيع التمر والحلوى للجميع، أتذكر بنتي سارة وأقول في نفسي هل أطلب منهم أن يعطوني القليل لأبنائي، تعلمين أن المرء تعز عليه نفسه، جلست نصف ساعة أفكر هل أذهب أم لا، أتذكر أبنائي المحرومين من كل شيء، تلوح في ذاكرتي وجوههم المملوءة بالأسى، وضعت كرامتي أسفل قدمي وذهبت طالبة بضع حبات لأبنائي.
مرغانا، «كان ذلك اسم تلك المرأة»، أدميتي قلبي، أشاطرك دموعي منذ عرفتك حتى قيام الساعة، لإحساسي ببقعة من الأرض تمركز بها ثقل الوجع، وتناستها بقية بقاع الأرض.
[email protected]
في بيت الله الحرام، وبعد أن سلم الإمام وأنهى صلاة الفجر، وتبعه المصلون كافة الذين أدركوا الصلاة جماعة، رزقني الله تعالى أن أكون معهم في الأسبوع الماضي، وشرفني بوجودي في بيته للمرة التاسعة ولله الحمد والفضل، ما إن سلمت** عن يميني وعن يساري حتى لمست امرأة طرف عباءتي قائلة: من أين اشتريتي عباءتك، التفت وإلا بامرأة ترتدي خمارا ونقابا يتدلى من نهاية ذقنها، قلت: من الكويت. ابتسمت وأخفضت رأسي أنظر إلى عباءتي خجلا وكأني لم أرها مسبقا!، قالت المرأة: هل هذه أول مرة تأتين فيها لبيت الله؟، قلت: لا ليست المرة الأولى، فقد جئت كثيرا ولله الحمد، ومره أخرى أبتسم وأخفض رأسي وأنظر إلى عباءتي، أو سجادة الحرم وعيني تتقافزان يمنة ويسرة وأفكر هل ستسألني هذه المرأة سؤالا أخر؟!، قالت: مع من جئتي؟، قلت: مع مجموعة من أهلي، قالت: أنا جئت مع عمي، عمي أبو زوجي وأخو أبي، فقلت: ولماذا لم يحضر زوجك معك؟، قالت: زوجي شهيد!، أحسست حينها وكأن مطرقة ضربت قلبي حتى تفتت، قلت: من أي بلد جئتِ؟، قالت: من فلسطين.
تلك البلد المنسية، تلك القضية الإنسانية، التي ضاعت مع ضياع هويتنا العربية، أو تناسيناها عمدا كما نسينا مبادئنا الإسلامية، سألتني المرأة: ما اسمك؟، قلت: اسمي سارة، ضحكت المرأة وكأنها بشرت بخبر تنتظره سنين وقالت: سارة، اسم ابنتي الصغيرة سارة، لم أحضرها معي، فقد ساعدني بالحضور إلى هنا إمام مسجد في فلسطين، عمي أصيب بالسرطان، وتقدمنا بطلب المجيء إلى هنا منذ عام ولم تسنح لنا الفرصة إلا من أجل عمي المسن والمريض، أين تسكنون؟، قلت: في فندق أمام الحرم مباشرة، قالت: أنا أنام هنا في الحرم!. كنت محرجة، ولم أعرف ماذا علي أن أقول، سمعتها أكثر من ما تحدثت، تبين لي أن هذه المرأة تحمل هما كبيرا ولا أدري ما المريح في وجهي حتى فاض كل ما في أعماقها لي أنا في جلسة واحدة، قلت: نحن لم تسمح لنا الظروف للمجيء إلى هنا منذ سنتين، وهذه المرة جئنا من أجل خالتي التي أنهت فترة العدة منذ بضعة أيام، فزوجها توفي فجأة، وهي في حالة اكتئاب شديدة. سكتنا لثوان، قالت المرأة بعيون دامعة: «أنا زوجي توفي منذ سنتين، ذبحوه أمامي، جاؤوا أبناء الحرام ليغصبونا على أن نقسم منزلنا الصغير لتسكن معنا عائلة يهودية، أبينا ذلك، لا أحد يقبل بأن يسكن أشخاص مثله ومن ملته معه في البيت نفسه، فكيف بعدو يهودي، قاموا بإرسال رسائل إنذار إما أن تسكن معنا العائلة اليهودية أو نخلي البيت، قاومنا، فجاؤوا بغتة واقتلعوا شجرة الزيتون التي كنا نملكها ونقتات منها، والله اقتلعوها من جذورها، ودمروا عربة الخضرة التي كان زوجي يسد بها قوت يومنا، جاء رجل يشد حجابي فلم يتحمل زوجي منظر إهانتي، والاعتداء علي بالضرب، فحاول منعهم، وإلا بعسكري ضربه على رأسه فسقط ميتا!، فتحت عيني بعد هذا المنظر، وإلا بيدي ضمدت بقطعة قماش، فتحتها فوجدت يدي قد جرحت جرحا عميقا حتى بانت عظمة اصبعي السبابة بيضاء وكأن أحدا قد قطع لحم يدي، والله لم أشعر بالألم، أرجعت اللحمة المتدلية من يدي مكانها، لففتها بتلك الخرقة، دخل عمي بوجهه الشاحب، وعينيه الغارقتين بالوجع، أدركت حينها أنه قد أزف الرحيل. خرجت وعمي وأبنائي، لم نأخذ حتى ثيابنا، تركنا منطقتنا ورحلنا إلى منطقة أخرى ككثير من الفلسطينيين، أجرنا غرفة تحت الأرض عند أرملة طيبة تأخرت عليها بالإيجار كثيرا، والله هم أن تكون عالة على غيرك، وأن ترى كرامتك تداس بنعال الظلم أقسى من أي هم آخر، فهذه الأرملة أيضا تعول أبناء ولا دخل آخر لها و مع كل ذلك تحملت تأخري بدفع الإيجار ستة اشهر، والله يا سارة نبيت ليال كثيرة من دون أكل، والماء أجلبه بسطل من مكان بعيد، بضعة مرات خلال اليوم، أغسل سجاد، أحفر كوسا، أعمل أي شيء لأعيش أنا وأبنائي، لا أدري ما الحل، لا أود أن أخسر أبنائي، وفي ذات الوقت لا يمكنني أن أوفر حياة كريمة لهم، لا يمكنني أن أسدد رسوم المدارس، أو تكاليف الدفاتر والملابس، لكني أحرص على أن يتعلموا القرآن في المسجد، ولا يمكنني أن أوفر لهم أبسط الأشياء، كم يعتصر قلبي ألما عندما تأتي بنتي سارة وقد رأت بسكوتة في يد بنت الجيران، تشد طرف حجابي قائلة ماما أريد بسكوتة، أرى هنا في الحرم الخير كثيرا، والكرام يقومون بتوزيع التمر والحلوى للجميع، أتذكر بنتي سارة وأقول في نفسي هل أطلب منهم أن يعطوني القليل لأبنائي، تعلمين أن المرء تعز عليه نفسه، جلست نصف ساعة أفكر هل أذهب أم لا، أتذكر أبنائي المحرومين من كل شيء، تلوح في ذاكرتي وجوههم المملوءة بالأسى، وضعت كرامتي أسفل قدمي وذهبت طالبة بضع حبات لأبنائي.
مرغانا، «كان ذلك اسم تلك المرأة»، أدميتي قلبي، أشاطرك دموعي منذ عرفتك حتى قيام الساعة، لإحساسي ببقعة من الأرض تمركز بها ثقل الوجع، وتناستها بقية بقاع الأرض.
[email protected]