أماكن / باب

جمال الغيطاني


| جمال الغيطاني |
تعم الأراجيف، تهتز الثوابت، يدوي ما ظنه البعض أبديًّا لا يتبدل، لا يتغير، انعزلت الطرق التي ظلت دهورا سالكة، يقطعها الانسان بمفرده آمنا، ان بالليل أو النهار، لا يدري المرؤ ماذا يمكن أن يقع صباح غد، نواحٍ عديدة يتعذر الوصول اليها الآن بعد أن ظلت مطروقة آلاف السنين.
مقابر أبناء الآلهة نهبت... محتوياتها تنقل الى جهات شتى، الأسماء المحفورة فوق الجدران والصخور تمحى، هكذا يذوي ذكر أصحابها الى الأبد، حتى الأهرام الموصدة نفذوا اليها وعبثوا بما تضمه من الحجرات الظاهرة، كل ما وصل الى الكهنة مهدد الآن، تراتيلهم المتضمنة للحقائق القديمة، واشاراتهم الدالة على الطرق المؤدية، غير المرئية، تلك التي يصعب وصفها باللفظ، أو رؤيتها بالنظر.
انهم الآن في حاجة الى ما يمكن أن يجمع النقيضين، ما يؤدي ولا يؤدي، ما يمكن رؤيته ولكنه خفي، ما يلمح ولا يصرح، ما يؤمن لكنه لا يفصح، ما يظهر ويختفي في الوقت عينه.
الأمر صعب، ومع كل مسعى للنهر المعبود من الجنوب الى الشمال... تتغير الأشياء وتُمحى العلامات.. أيام وعرة، وقلقلة سارية، ومخاطر محدقة.
أصعب ما يواجه الانسان في وجوده المحدود، المؤطر بقدر، رؤيته اهتزاز كل ما نشأ عليه، هكذا تسري الغربة، تكتمل الفجوة بين المرء وما يحيطه، ما يتحرك به، ما يتنفسه من هواء، ما يطالعه من وجوه تغيب عنه ملامحها مع أنه ظل يطالعها عمره كله، ما يصله بالآخرين يهن، يضعف، حتى يصل الى لحظة بعينها يتمنى عندها المفارقة، بل يسعى الى اكتمالها، فبتغير الأماكن، وزوال المعالم، وافتقاد الصحبة، وضياع العلامات، وتداخل الاشارات، يصبح ما يدل على الغرب جواز مرور الى الشرق، وما جاء متماسكا يستمر مجزءًا، غير قادر على التواصل. انه اغتراب الغربة ذاتها.
كيف يمكن صون السر والاشارة اليه في الوقت عينه؟
كيف؟... كيف يمكن قياس الضد بضده؟
الأمر صعب، وعر، لذلك سرح الحمام بالرسائل، بالمسائل، وسعى الرسل المتنكرون، الحذرون من معبد الى آخر، ومن مدينة الى مدينة، ومن زاوية الى أخرى، متظاهرين بالفاقة وشدة الحاجة، مختفين أحيانا في المغارات، بل ان بعضهم أخفى نفسه في الماء حينا، واعتلى قمم النخيل حينا آخر، ومنهم التائه الذي لم يعثر له على أثر ولم يستدل على قراره، لم يتم الأمر في يوم أو يومين، ولا شهر أو شهرين، ولا فصل أو فصلين، انما حول اثر حول، وجيل بعد جيل، بعض من بدأوا ووافاهم الأجل ولم تلح بارقة بعد، كل هذا وأحوال الديار في تراجع، والعكوسات سارية، وما كان قائما كالنصب المهيبة يتراجع نائيا، مؤذنا بأفول المعاني وضياع الثوابت.
عند لحظة بعينها... دعا الكاهن الأعظم رجاله، الظاهر منهم والمختفي، المقيم والسائح، ولم يكن اكتمالهم سهلا، ولا اجتماعهم ميسورا، خصوصا أن المعابد الكبرى منهوبة، وخزائنها متاحة منذ حين، وصوامعها مثقوبة، وغلالها وزيوتها وسائر مخزونها طالته الأيدي العابثة، حقا.. ما يزيد الوجود الانساني وعورة أن يجتهد في الحفاظ على ما يتخلى عنه من وضعوه منذ طفولتهم، منذ مجيئتهم الى الحياة الدنيا، أن يحاول صون ما يصعب تدوينه ما يتعرض للمحو.
حتى الآن لا توجد لوحة، أو بردية، أو مشهد يدون تفاصيل هذا الملتقى، ولا يشير الى المكان الذي عقد فيه، أو الزمن، بالتحديد تلك اللحظة التي وقف فيها كبير الكهنة، أو أشار الى الحاضرين كي يصغوا، ويدققوا ويتطلعوا وينقشوا ما سيطالعونه في أفئدتهم، حتى يظهروه في سائر المباني الدنيوية أو الأخروية، بيتا أو مقبرة، معبدا أو قصرا، حتى في القوارب الكبرى التي تسبح في النيل، أو تفرد أشرعتها عبر البحار قاصدة بلاد العاج والبخور، أو والموانئ الجالبة لخشب الأرز والصندل والعنبر واللبنان والزهور النادرة التي تنبت من الرمال القضية، وتلك الطالعة في الثلوج القطبية.
لا يعرف أحد الوضع الذي اتخذه قبل أن يكشف عن ملامح ما توصلت اليه الأفئدة، ما جسد رغبة الحفظة، البررة، خلال زمن الاضطراب وتبدل الأحوال وانقلاب جميع المعايير.
لا يعرف انسان مهما أوتي من ثقابة البحث ودقة النفاذ النقطة التي سدد اليها البصر، أو الترتيل الذي علا به صوته قبل أن يفضي اليهم بنتائج البحث، وثمرة الكد، ومستودع الحقائق، ومثوى المعاني والرموز والعلامات كافة.
الى تلك المساحة المحددة شخصوا ذاهلين، متعجبين، وانتقلت دهشتهم عبر هذه اللحظة من جيل الى آخر، ومن عصر الى عصر، وتتالت حقب تبدلت فيها الملامح، وأقام الغرباء في الوادي، وتمكن بدو الصحراء الرحل من بلاد الخضرة والماء الوفير والظلال، لكن ما أشار اليه كبير الكهنة، ما كشف عنه الستار في ذلك الزمن القصي، المندثر، ذاع وانتشر واتخذ أشكالا عديدة وهيئات مختلفة.
قال ان الأزمنة أودعت الخلاصة هنا، وأن واحدا فقط، لو أدرك انسان ما السر، الكلمة العظمى، القصوى، فيمكنه النفاذ بمفرده أو يتبعه قومه والعبور من كون الى آخر، من وجود الى وجود.
قال كبير الكهنة ان كثيرين لم يولدوا بعد، سيمثلون أمام الباب الوهمي، ويتساءلون، ويجتهدون ويبذلون الطاقة، وربما يشرف بعضهم على المعنى الكامن، تماما كما ستجيء لحظة يمكن للأحفاد أن يدركوا القصد الحقيقي للأهرام، والمسافات التي قطعتها أصداء النقوش في آفاق الكون المنظور، لكن هذا الباب الوهمي، الماثل، الخفي، الظاهر، الممحو، الداعي، الناهي.. المشجع، المحبط، السهل، المستعصي، الواقع الملوس، والاشارة المحوية الحاوية.
تعم الأراجيف، تهتز الثوابت، يدوي ما ظنه البعض أبديًّا لا يتبدل، لا يتغير، انعزلت الطرق التي ظلت دهورا سالكة، يقطعها الانسان بمفرده آمنا، ان بالليل أو النهار، لا يدري المرؤ ماذا يمكن أن يقع صباح غد، نواحٍ عديدة يتعذر الوصول اليها الآن بعد أن ظلت مطروقة آلاف السنين.
مقابر أبناء الآلهة نهبت... محتوياتها تنقل الى جهات شتى، الأسماء المحفورة فوق الجدران والصخور تمحى، هكذا يذوي ذكر أصحابها الى الأبد، حتى الأهرام الموصدة نفذوا اليها وعبثوا بما تضمه من الحجرات الظاهرة، كل ما وصل الى الكهنة مهدد الآن، تراتيلهم المتضمنة للحقائق القديمة، واشاراتهم الدالة على الطرق المؤدية، غير المرئية، تلك التي يصعب وصفها باللفظ، أو رؤيتها بالنظر.
انهم الآن في حاجة الى ما يمكن أن يجمع النقيضين، ما يؤدي ولا يؤدي، ما يمكن رؤيته ولكنه خفي، ما يلمح ولا يصرح، ما يؤمن لكنه لا يفصح، ما يظهر ويختفي في الوقت عينه.
الأمر صعب، ومع كل مسعى للنهر المعبود من الجنوب الى الشمال... تتغير الأشياء وتُمحى العلامات.. أيام وعرة، وقلقلة سارية، ومخاطر محدقة.
أصعب ما يواجه الانسان في وجوده المحدود، المؤطر بقدر، رؤيته اهتزاز كل ما نشأ عليه، هكذا تسري الغربة، تكتمل الفجوة بين المرء وما يحيطه، ما يتحرك به، ما يتنفسه من هواء، ما يطالعه من وجوه تغيب عنه ملامحها مع أنه ظل يطالعها عمره كله، ما يصله بالآخرين يهن، يضعف، حتى يصل الى لحظة بعينها يتمنى عندها المفارقة، بل يسعى الى اكتمالها، فبتغير الأماكن، وزوال المعالم، وافتقاد الصحبة، وضياع العلامات، وتداخل الاشارات، يصبح ما يدل على الغرب جواز مرور الى الشرق، وما جاء متماسكا يستمر مجزءًا، غير قادر على التواصل. انه اغتراب الغربة ذاتها.
كيف يمكن صون السر والاشارة اليه في الوقت عينه؟
كيف؟... كيف يمكن قياس الضد بضده؟
الأمر صعب، وعر، لذلك سرح الحمام بالرسائل، بالمسائل، وسعى الرسل المتنكرون، الحذرون من معبد الى آخر، ومن مدينة الى مدينة، ومن زاوية الى أخرى، متظاهرين بالفاقة وشدة الحاجة، مختفين أحيانا في المغارات، بل ان بعضهم أخفى نفسه في الماء حينا، واعتلى قمم النخيل حينا آخر، ومنهم التائه الذي لم يعثر له على أثر ولم يستدل على قراره، لم يتم الأمر في يوم أو يومين، ولا شهر أو شهرين، ولا فصل أو فصلين، انما حول اثر حول، وجيل بعد جيل، بعض من بدأوا ووافاهم الأجل ولم تلح بارقة بعد، كل هذا وأحوال الديار في تراجع، والعكوسات سارية، وما كان قائما كالنصب المهيبة يتراجع نائيا، مؤذنا بأفول المعاني وضياع الثوابت.
عند لحظة بعينها... دعا الكاهن الأعظم رجاله، الظاهر منهم والمختفي، المقيم والسائح، ولم يكن اكتمالهم سهلا، ولا اجتماعهم ميسورا، خصوصا أن المعابد الكبرى منهوبة، وخزائنها متاحة منذ حين، وصوامعها مثقوبة، وغلالها وزيوتها وسائر مخزونها طالته الأيدي العابثة، حقا.. ما يزيد الوجود الانساني وعورة أن يجتهد في الحفاظ على ما يتخلى عنه من وضعوه منذ طفولتهم، منذ مجيئتهم الى الحياة الدنيا، أن يحاول صون ما يصعب تدوينه ما يتعرض للمحو.
حتى الآن لا توجد لوحة، أو بردية، أو مشهد يدون تفاصيل هذا الملتقى، ولا يشير الى المكان الذي عقد فيه، أو الزمن، بالتحديد تلك اللحظة التي وقف فيها كبير الكهنة، أو أشار الى الحاضرين كي يصغوا، ويدققوا ويتطلعوا وينقشوا ما سيطالعونه في أفئدتهم، حتى يظهروه في سائر المباني الدنيوية أو الأخروية، بيتا أو مقبرة، معبدا أو قصرا، حتى في القوارب الكبرى التي تسبح في النيل، أو تفرد أشرعتها عبر البحار قاصدة بلاد العاج والبخور، أو والموانئ الجالبة لخشب الأرز والصندل والعنبر واللبنان والزهور النادرة التي تنبت من الرمال القضية، وتلك الطالعة في الثلوج القطبية.
لا يعرف أحد الوضع الذي اتخذه قبل أن يكشف عن ملامح ما توصلت اليه الأفئدة، ما جسد رغبة الحفظة، البررة، خلال زمن الاضطراب وتبدل الأحوال وانقلاب جميع المعايير.
لا يعرف انسان مهما أوتي من ثقابة البحث ودقة النفاذ النقطة التي سدد اليها البصر، أو الترتيل الذي علا به صوته قبل أن يفضي اليهم بنتائج البحث، وثمرة الكد، ومستودع الحقائق، ومثوى المعاني والرموز والعلامات كافة.
الى تلك المساحة المحددة شخصوا ذاهلين، متعجبين، وانتقلت دهشتهم عبر هذه اللحظة من جيل الى آخر، ومن عصر الى عصر، وتتالت حقب تبدلت فيها الملامح، وأقام الغرباء في الوادي، وتمكن بدو الصحراء الرحل من بلاد الخضرة والماء الوفير والظلال، لكن ما أشار اليه كبير الكهنة، ما كشف عنه الستار في ذلك الزمن القصي، المندثر، ذاع وانتشر واتخذ أشكالا عديدة وهيئات مختلفة.
قال ان الأزمنة أودعت الخلاصة هنا، وأن واحدا فقط، لو أدرك انسان ما السر، الكلمة العظمى، القصوى، فيمكنه النفاذ بمفرده أو يتبعه قومه والعبور من كون الى آخر، من وجود الى وجود.
قال كبير الكهنة ان كثيرين لم يولدوا بعد، سيمثلون أمام الباب الوهمي، ويتساءلون، ويجتهدون ويبذلون الطاقة، وربما يشرف بعضهم على المعنى الكامن، تماما كما ستجيء لحظة يمكن للأحفاد أن يدركوا القصد الحقيقي للأهرام، والمسافات التي قطعتها أصداء النقوش في آفاق الكون المنظور، لكن هذا الباب الوهمي، الماثل، الخفي، الظاهر، الممحو، الداعي، الناهي.. المشجع، المحبط، السهل، المستعصي، الواقع الملوس، والاشارة المحوية الحاوية.