قبل أيام ذهبت إلى لندن وعندما تركت الكويت، كانت كفرن إيراني محكم الإغلاق، وعلى وسمائها من العجاج مسوحُ، وعندما هبطنا أرض لندن آمنين كذبت نفسي، فالجماعة هنا مازالوا في فصل الشتاء! والطقس بارد والسماء ماطرة والطيور حائمة حائرة، وتمنيت أن يأتي الدكتور العجيري وجماعته عادل السعدون، والشعيبي، والمرحوم راشد الخلاوي، ومذيعة (البراطم) الجوية الجميلة، لولا أنها نفخت (براطمها) فلم نعد نرى الخارطة من ورائها، ووددت لو أنني آتي بهم واسألهم عن تنبؤاتهم بطقس الانكليز، وسأضمن لهم أن توقعاتهم عن المطر هنا لن تخيب.
وبعد أيام من طيب الإقامة اكتشفت أنني الوحيد الذي يجيد اللغة الانكليزية في بلاد الانكليز، بل إن اللغة العربية أكثر انتشاراً هنا من بعض الدول العربية، فبلاد الانكليز لم يعد فيها انكليز، فإذا دخلت المطعم وجدت صاحبه لبنانيا، والقصاب باكستانيا وحتى الطبيب هنديا وسماسرة العقار أكرادا، والأخطر أن أصحاب المحلات ورجال الأعمال من البنغال! ويا سبحان مقلب الأحوال لقد أصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تحتلها جحافل الدول المتخلفة، ولن تجد الانكليزي إلا عامل زبالة أو سائق تاكسي إذا كان جنتلماناً. ورغم ندرة السلالة الإنكليزية في بلاد الإنكليز إلا أنني حظيت، ولدقائق معدودة بصحبة هذه السلاسة النادرة المتجهة للانقراض، وأغلبهم في عمر الدهور، ويذكرونني بالفيلم الأميركي «الأباشي الأخير» وهم على العموم أناس ظرفاء، ويقولون الحقيقة مباشرة ومن دون حاجة للتحقيق معهم أو تعذيبهم، وهم مرتاحون تماماً من صراحتهم، وكأن محدثهم ملاك يستفسر عن مشاكلهم لحلها.
ورغم أن بريطانيا من الدول العظمى فإن عظمتها تتواضع أمام جوعها للسياح فهي لا تستطيع البقاء من دون نقودهم، ولم يخطر على بالي أن هناك مشكلة في السكن خصوصاً في مدينة تعتبر جسراً يربط شرق الدنيا بغربها، والحقيقة أن الهوتيلات والموتيلات أكثر من عدد سكان البلد الأصليين، ويستطيع عابر السبيل هناك أن يؤجر سريراً في صالة جماعية بعشرين جنيها إسترلينيا لليلة، ومع ذلك ضاقت على لندن بما رحبت، ولم أجد سريراً واحداً ولو لساعات ولسبب سخيف... الكورة!
فقد صادف وجودي هناك نهائي كأس أوروبا بين فريقي برشلونه ومانشستر، وغصت الفنادق بالمشجعين، وعجت الساحات بالبلطجية والبطالين، ونام خلق الله في الشوارع، ولولا ستر المولى لنمت معهم، واستمرت الأزمة لأيام، وأنا اسكن ليلة واطرد من الفندق الليلة التالية، وأخيراً فرجت ووجدت غرفة في بناء قديم، ثمنه الانكليز وأطلقوا عليه اسم فندق، ومن فرط التعب قبلتها ومن دون مناقشة. واكتشفت أنها في الدور الرابع ولا يوجد مصعد، والحقيقة أنها غلطتي فأنا لم التفت للعبارة الأخيرة التي نطقها عامل الفندق بصوت خافت، والسبب أنه يتكلم الانكليزية على طريقة قبائل الزولو الافريقية.
وكعادة العرب في رفضهم للظلم، لم اسكت وفي اليوم التالي تظاهرت أمام المدعو فندق وهددت باستجواب الموظف الأفريقي، أو الذهاب للمحكمة الدولية، فنحن الكويتيون متمرسون في هذه الناحية، وبالفعل رضخوا للأمر الواقع، وأعطوني غرفة في الدور الثالث وقبلت بشرط أن تكون وجبة الإفطار مجانية، ولوا أنهم رفضوا مطالبي لقبلت شاكراً البقاء في غرفتي السابقة.
والخير في لندن دائما حولك وحواليك، فكل شيء في متناول اليد والقدم، وكان بالقرب من الفندق مطعم، فقلت هي فرصة لتناول العشاء الانكليزي العريق، ولكنني اكتشفت أن المطعم إيطالي ولا يبيع سوى البيتزا التي هي أبغض الأكلات الحلال عندي، وعندما جاء النادل اعترفت له بأنني أحب الإيطاليين ولكنني لا أحب البيتزا، فضحك وقال و أنا أحب ايطاليا ولا أحب برلسكوني! فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله حتى أنت يا بروتس، ما أشقى الحب في هذا العالم!
فهيد البصيري
كاتب كويتي
fheadpost@gmail.com